الثلاثاء، 10 يونيو 2014

كدابين الزفه

على مر العصور كانت ولا تزال للألة الاعلامية دورها فى صياغة الفكر العام للمجتمعات بكل أطيافها ومهما بلغت درجة ثقافتها علوا أو ضدها ، تطورت وسائلها واستطاعات المعيشة والتكيف مع كل هدف قُدر لها التعامل معه ، قومت أساليبها فأصبحت جميعها صالحة للتعامل مع الموقف الذى تتعرض له دون ان يبدو عليها شائبة توتر او اضطراب وكأنها ولدت فى هذه البيئة وقضت عمرها فى هذا المناخ ، هذا الدور وضح جليا بمفهومه الحديث مع تطور مفهوم الصحافه والاعلام بشكل عام ، قديما كان الشعراء ومن قبلهم السحرة ومن قبلهم الكهنه ولم يفت الفقهاء ولا الحكماء ولا العلماء ولا مدعو ذلك نصيبهم من ذلك وفى العصور التى تلت تلك الفترات ازداد الأمر بزخا وأصبح هناك مكانا للقراء والمغنيين والمغنيات وكذا الجوارى والراقصات وكله له أدواته وبالطبع هى تحت طوعه يستخدمها وقتما شاء ودرجة قربك تبلغ مقدار إجادتك .
الكلمات والايماءات والتعابير التى يتم اداءها بالأدوات الجسدية لها دور الأسد من بين كل الأدوات التى تستخدم فى ذلك ولن تجد متسعا أكثر من الكلمات لتأخذ من بحرها ما يروق لك وما يشبع شهية المتلقى وما أسهل صياغة المواقف فى كلمات تبلغ المراد منها مهما وافقت الحق أو خالفته ، لذا كان لأصحابها الدور الأكبر فى التاريخ فى تأثيرهم وشهرتهم .
الشيوع والانتشار من الأشياء التى ساعدت على تفشى التأثير وتمدد آثره الى أبعد الأماكن وأكبر قدر من الأشخاص ، الكلمات تبلغ الرسائل وترسم الصور بالشكل الذى يريدون ايصاله للعامه فما أسهل أن تبدل نظر العامه الى الطيب فيرونه شيطانا وما أيسر الضد ، وكم من كلمات أبادت أمم وهدمت دول وقررت مصائر واغتصبت حقوق ....
يشتد الأمر ولعا كلما اقترب أيا من هؤلاء الذين ذكرناهم والذين لم نذكرها من مُلاك السلطة وأصحاب المال والجاه ، وكلما ازداد ثناؤك ازداد رصيدك قربا وثروة ، وقل منهم الناصح الأمين ، البعض يفعل ذلك ايمانا منه بأنه يفعل الصواب والبعض يفعل ذلك رغبة فى الجاه والسلطان والمال والبعض يفعل ذلك بغية تسهيل قضاء حوائجه الشخصية وكلٌ له مبرراته .
يقص علينا الله فى كتابه الكريم مادار بين نبيه موسى وبين فرعون وسحرته حينما دعا فرعون الشعب بعد أن حدد الموعد بين نبى الله موسى وبينه يوم الزينة واجتمع السجرة من كل صوب بعد أن وعدهم فرعون بأن يكونوا مقربين منه ، وأعدت المراسم وأجتمع الجميع وأقبل فرعون بحاشيته وجنوده وسحرته وأقبل نبى الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام وأقبل الشعب لمشاهدة التحدى الكبير وليشهدوا تسطير مجد جديد لفرعونهم الملك لكن إرادة الله قضت بأن ينتصر نبيه موسى وأخيه وأكثر من ذلك يُسلم معهم لله السحرة الذين جمعهم فرعون لنصرته .
فى العصور الجاهلية كان الشعراء هم رسل الأمراء والملوك ، المتحدثون باسم السلطة ، المتغنون بأمجادها ، المثبتون لدعائم حكمها ، المبررون للأفعال والقرارات ، يعطونهم الشرعية التى يريدونها ، يردون على كل ما يقال عن الأمراء والملوك .
والأمثلة كثيرة منها
قول النابغة الذبيانى للنعمان بن المنذر :-
كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
ومنها قوله :-
أخلاق مجدك جئت ما لها خطر
فى البأس والجود بين العلم والخبر
متوج بالمعالى فوق مفرقه
وفى الوغى ضيغم فى صورة القمر
ومنها قوله :-
وغن يرجع النعمان نفرح ونبتهج
ويأت معدا ملكها وربيعها
ويرجع إلى غسان ملك وسؤدد
وتلك المنى لو أننا نستطيعها
وإن يهلك النعمان تعر مطيه
ويلق إلى جنب الفناء قطوعها
فى عصر النبوة والخلافة الراشدة اعتدل الأمر وأصبحت الأشعار فى تمجيد البطولات وتخليد السير والغزوات وأوصاف النبى وتلك كانت فى حالات ليست كثيرة للرد على هجاء شعراء المشركين وكان النبى قد نهى عن الاطراء فقل الأمر عن ما كان عليه قبلا وتبعه الخلفاء الراشدون فى ذلك .
ومن مثل ما قيل فى ذلك قول العباس بن مرداس السلمى
رأيتك يا خير البرية كلها نشرت كتابا جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا عن الحق لما أصبح الحق مظلما
ونورت بالتبيان أمرا مدلسا وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فى العصر الأموى بدأ الأمر يظهر مجددا وفتح الخلفاء والأمراء أبوابهم أمام الشعراء والمتكلمين وشيئا فشيئا انتشرت كل الفئات التى سبق الاشارة اليها فى صدر المقال فى العصر الأموى وما يليه .
ومن أمثلتهم كثير كعدى بن الرقاع والأحوص وعبدالله بن مازن والفرزدق وعمر بن عبدالله بن ربيعه وجرير ومن ذاك ما قاله جرير لعبدالملك :-
الله طوقك الخلافة والهدى
والله ليس لما قضى تبديل
ولى الخلافة والكرامة أهلها
فالملك أفيح والعطاء جزيل
ومنها قوله :-
ان الذى بعث النبى محمدا جعل الخلافة للامام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه حتى أرعوى فأقام ميل المائل
إنى لأرجو منك خيرا عاجلا والنفس مولعة بحب العاجل
ومنها قوله :-
رَأيْتُ سَمَاءَ الله وَالأرْضَ ألْقَتَا
بِأيْدِيهمَا لابْنِ المُلُوكِ القَماقِمِ
وَكُنْتَ لَنَا غَيْثَ السّمَاءِ الذي بهِ
حَيينا، وَأحْيا النّاسَ بَعدَ البَهائِمِ
وَما لَكَ ألاّ تَملأ الأرْضَ رَحْمَةً،
وَأنْتَ ابنُ مَرْوَانَ الهُمَامِ وَهاشِمِ 
ظل الأمر هكذا الى أن منع عمر بن عبدالعزيز العطايا التى تمنع لهؤلاء ووجهت للفقراء والمحتاجين فاستتب الأمر الزمن اليسير الى أن أنقضت حياته وبدأ الأمر يعود مجددا واشتد فى الدولة العباسية فأخذوا يسوقون للحكام الكلمات ويدفعونهم للتنكيل بكل من عارضهم  .
ومن أمثلة شعراء هذه الفترة أبو العلاء المعرى وابن الفارض والبوصيرى والمتبنى وتلك أمثلة من أقوال المتنبى :-
واحـر قلــــباه ممــن قلبــه شبــم 
 ومن بجسمـي وحـالي عنده سقـم
مـــا لـي أكتم حبا قد برى جسدي 
 وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كــــان يجمعــنا حب لغرتــه
 فليت أنا بقدر الحــــب نقتســـم
وكقوله :-
يا أَيُّها القَمَرُ المُباهي وَجهَهُ
لا تُكذَبَنَّ فَلَستَ مِن أَشكالِهِ
وَإِذا طَما البَحرُ المُحيطُ فَقُل لَهُ
 دَع ذا فَإِنَّكَ عاجِزٌ عَن حالِهِ
وأيضا من أمثلة ذلك قول ابن هانئ الأندلسى :-
زجلا ظلام الدين والدنيا به ... ملك لما قال الكرام فعول
فلو ان سفناً لم تحمل جيشه ... حملت عزائمه صباً وقبول
ولو ان سفناً ليس يبتك حده ... جذ الرقاب بكفه التنزيل
ملك تلقى عن أقاصى ثغره ... أنباء ذى دول إليه تدول
لله عيناً من رأى إخباته ... لما أتاه بريدها الإجفيل
وسجوده حتى التقى عفر الثرى ... و جبينه ، و النظم ، و التبجيل
شهد البرية كلها لك بالعلى ... إن البرية شاهد مقبول
وكقوله للخليفة العباسى المعز لدين الله :-
ما شئت لا ماشاءت الاقدار
فأحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبى محمدا
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذى كانت تبشرنا به
فى كتبها الأحبار والأخبار
هذا إمام المتقين ومن به
قد دوخ الطغيان والكفار
ويقول ايضا :-
ندعوك منتقما عزيزا قادرا
غفار موبقة الذنوب صفوحا
اقسمت لولا أن دعيت خليفة
لدعيت من بعد المسيح مسيحا
وفى العصر الحديث ونظرا لقلة الاهتمام بالشعراء صار الأمر موكلا للكتاب ومُدعِى الأدب والثقافة والفن  ومُدعِى العلم والتدين والدجل ،  فتجدهم التقطوا الراية وأخذوا يتناوبون عليها أحيانا بالتوالى وكثيرا بالتوازى مجتمعين على كلمات واحدة ورسالة واحدة ومن كأن منهم أمس يقول شيئا يخرج اليوم ليقول ضده لتعارض مصلحته اليوم مع كلمات أمس وهكذا وكل منهم ارتدى زيا لم يجده ينجيه اليوم نزعه بل وتبرأ منه وإلتبس غيره ونسوا أن كلماتهم مسجلة ومقالاتهم مدونه وتاريخهم شاهد عليهم فاليوم سقط عن الكل قناعهومحيت عن وجوههم المساحيق وكلمات كتلك التى سُقتها من أزمنة سابقة صرنا نسمعها اليوم فى كل حين وما أبخس أثمان الضمائر وما أقصر من الباطل عمرا ولا أشد من القلق ألما ولا أصعب حالا من أناس يجيدون صنع الأباطره.