الخميس، 9 أبريل 2015

يوم زفاف الأطفال

صدح فى السكون صوت المؤذن ينادى لصلاة الصبح ، دفع الرجال الأغشية من فوق أجسادهم وأسرعوا الى أماكن الطهارة يغسلون أبدانهم من محل النوم ، فتحت الأبواب ونزع الناس الى مصلاهم ، أقيمت الصلاة ، وخشع الشيخ فبكى وأبكى المأتمون به ، ودعاء الفجر يشق طبقات السماء ، أوقات التسبيح والاستغفار والذكر تحلو فليس أحلى من قرب من تحب وهل بعد حب الله حب .

النساء أدين الصلاة وهرعن الى أوانيهن ومطاهيهن البسيطة وأوقدن النيران وبدأت رائحة الطعام الشهى تداعب الأناف ، أيقظن الأطفال وأمرنهن بالتطهر والصلاة والاستعداد لتناول الإفطار بصحبة ذويهم ، عاد الرجال من مصلاهم واصطفت العائلة حول الطعام فى دائرة يعلوها الحب .

أنهى الجميع إفطارهم وبدأ كل يشق طريقه الى وجهته ، أخرج الرجال المواشى والأنعام من حظائرهم وتوجهوا الى حقولهم ، ساعدت الأمهات الأطفال على ارتداء ملابسهم وأعددن لهم وجبات خفيفة تسعفهم فى وقت الراحة المدرسية .

فى البلدة الطيبة مدرسة واحدة ، طابق واحد ، مائة وثلاثون طالبا موزعون على ثلاثة فصول ، غرفة للمدير ، يلتحق الأطفال فيهم عندما يبلغون السادسة ويغادرونها بعد ان يتأهلوا الى المرحلة التالية وأعمارهم حينذاك تلامس الثانية عشر.

الثامن من ابريل لعام ألف وتسعمائة وسبعون من الميلاد ، دقات الساعة تعلن السابعة والنصف ، نسمات الربيع تقبل خد الصباح والشمس تغازل بأشعتها الوجوه كأم حانيه ، اصطف الطلاب فى ثلاثة صفوف يؤدون التمارين الصباحية ، خمس دقائق لكل تمرين وثلاثة أضعاف ذلك للاذاعة المدرسية والأصوات تتغنى بحب الوطن .

والله زمان يا سلاحى 
اشتقت لك فى كفاحى
انطلق وقول أنا صاحى
يا حرب والله زمان
والله زمان ع الجنود
زاحفة بترعد رعود
حالفة تروح لم تعود
إلا بنصر الزمان
هموا وضموا الصفوف 
شيلوا الحياة على الكفوف
ياما العدو راح يشوف
منكم فى نار الميدان
يا مجدنا يا مجدنا 
ياللى اتبنيت من عندنا
بشقانا بكدنا
عمرك ما تبقى هوان
مصر الحرة مين يحميها
نحميها بسلاحنا
أرض الثورة مين يفديها
نفديها بأرواحنا
الشعب بيزحف زى النور
الشعب جبال الشعب بحور
بركان غضب بركان بيفور
زلزال بيشق لهم فى قبور


أنهى الطلاب طابور الصباح وأشار المشرف الى الصف الأول لينطلق ناحية فصله ، تبعه الثانى ثم  الثالث ، مقاعد خشبية عتيقة ، لكنها أفضل من لا شئ ، الفصول نظيفة لم تعكرها خطوات الأطفال ولا عبثهم بعد ، كل طالب الى مقعده ، وضع الأطفال حقائبهم القماشية بجوارهم وأخرجوا منها كتبهم وأقلامهم ، دخل المعلمون الفصول ، اصطف الأطفال وقوفا ، وبعد أداء التحية أشار المعلمون للأطفال بالجلوس ، يمر المدير يطلب حصرا بالأعداد الموجودة وحصر عدد الغائبين ، اقتربت السنة من نهايتها وأعياد الربيع على الأبواب تشغل الريفين فتسحرهم ألوان الورود ومباهجها فلاشك هناك الكثير غائب ، عدد الحضور ستة وثمانون طالبا .

بدأ المعلمون فى ممارسة عملهم ، عنوان درس اليوم ، " أحمد عرابى " .
على حصانه شاهرا سيفه رافعا رأسه وامام الخديوى توفيق صدح بها عاليا 
 لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.

أصوات عالية تعلو فى السماء ، طائرات تقدم ، البلدة آمنة ، ريف هادئ لم يعتد تلك الأصوات من قبل ، الفزع علا الوجوه ، الأصوات تعلو أكثر ، دوى أصوات قذف ، أمر المعلمون الطلاب بالنزول أسفل المناضد ، البعض أطاع والبعض خاف ، قذائف متتالية ، صراخ من كل فج ، الأباء ، الأمهات ، الأخوات ، الجميع فزع حتى الحيوانات فى مرابطها ، نيران تعلو من جهة المدرسة ، الكل يجرى ، الكل يبحث عن صغيره ، الكل يبحث عن طفله ، الكل يبحث عن قلبه ، أشلاء وأعضاء متناثرة فى كل جانب ، دماء لطخت الأرض ومدرسة أصبحت مقبرة تملؤها الدماء والأشلاء ، كتب وصفحات غارقة بقلوب الأطفال ، ثلاثون طفلا يزفون اليوم الى الجنة ، خمسون طفلا مصابا الله وحده يعلم مألهم ، وقرية اتخذت الحزن لباسا وأمهات ارتدين الوجع لباسا وأباءً صحبهم الوجع وأسر نزعت منها أرواحها وعيون أطفئت مصابيحها .

يا الله ، عندما يحل الموت لايدع مجالا لشئ أخر يصحبه ، أنانى يأبى أن يشاركه أى شئ فى امتلاك الوقت والنفوس والمشاعر .

ثكنة عسكرية خفية كانت الحجة " هكذا قالت اسرائيل " والعالم كعادته تلتبس عليه الحجج ، شيع أطفال بحر البقر الى ربهم وزفوا جماعات الى الجنه وما كان لنا أن نبقى دون رد فكيف لمن عاش عزيزا أن يدع اللقطاء ينهشون فلذات كبده دون عقاب .