السبت، 6 يونيو 2015

صيف 1997

يقلب عينيه فى السقف الخرسانى ، يتذكر تلك الأحداث التى جرت والمواقف التى مر بها ، ربما لم تخطر فى باله يوما ولم يجول بخاطره أن يمر بمثل ما مر به رغم اعتياده تجرع المشاق .
يطرق كل الأبواب باحثا عن عمل يعينه على قضاء اجازته الصيفيه ويقتات منه رزق يومه ويعد لعامه الجامعى القادم ، يحتاج أن يشترى ملابس جديدة وأن يكون معه ما يكفى لسداد الرسوم وشراء الكتب الجامعيه وما قد يلزمه من مصروفات للتنقل والسفر فى رحلته اليومية الى الجامعه من قريته المختبئة وسط الزروع .
هناك فرصة عمل فى معارض الشريف بالمدينة القريبة ، وقت العمل يمتد من التاسعة صباحا وحتى الثانية عشر ليلا ، الراتب الشهرى مائة وعشرون جنيها ......بعملية حسابية بسيطة وجد ان ما قد ينفقه من مصروفات ربما يقضى على المبلغ ويحتاج الى بعض السلف لاستكمال الشهر .
تعالى نعمل سويا ، اكسسوارات نشتريها من بعض المحلات ونقوم ببيعها ، كل ما عليك هو التجول فى هذه المنطقة أما الثبات اسفل كوبرى الأميرية واعرض على الشباب بضاعتك ، تلك الاكسسورات تعجبهم ، لكنى غير مقتنع بها ولا ارى لها فائدة ، ليس المهم أن تعجبك ولكن المهم ان تبيعها ، ساعات طويلة وحصيلة البيع بضع جنيهات ، كم ستبلغ حصتى ..لا شئ ...ربما سأتحمل تكلفة العودة الى قريتى مما اكتنزته مسبقا .
هناك فرصة عمل فى شركة مقاولات ، قابلنى صباح السبت هناك ، الحمد لله على رزقه وفضله
تعمل مع هؤلاء الشباب ، تنفذون كل ما يطلب منكم ، وقت العمل من الثامنة حتى الرابعة وما يزيد عن ذلك يحسب لكم سهرات ، أجر اليوم ثمانية جنيهات والاضافى تحسب الساعة فيه بجنيه وخمس وعشرون قرشا ، الاجر هنا يتم تقاضيه عن المدة كل خمسة عشر يوما ، أحد مقاولى العمال مسئول عن اعطائك راتبك ، تستطيع زيارة اسرتك فى نهاية الاسبوع ان شئت ، استقل الحافلة المغادرة فى الرابعة والنصف من بعد ظهر الخميس وعد ثانية فى الحافلة القادمة فى الخامسة فجر السبت ،  المبانى أمامك متسعة وكلها خالية جهز لنفسك مكانا ونم فيه ، السوق قريب من هنا على مسافة عشر دقائق او يزيد قليلا ، من هناك اقتنى احتياجاتك ، هناك كافتريا بالقرب ،  تستطيع شرب الشاى ومشاهدة المباريات مساء ان شئت ليست غالية الثمن .
اليوم هناك صبة خرسانية فى العمارة المواجهة ولابد ان تعمل مع عمال الخلاطة ، قرب شكائر الأسمنت إليهم وناولهم أوعية المياه اللازمة لتشغيل الخلاطة ، اعمل بجد حتى لا تعطل العمل ..
قم من النوم مبكرا واصعد الى السقف الأخير ووصل اللى " خرطوم المياه " بالصنبور الرئيسى وأغرق ما تم صبه بالماء ولا تنسى ان تسقى المبانى كاملة ، لا اريد أن أرى قطعة لم تغرقها المياه ، عملك قبل مواعيد العمل يحتسب لك سهرات اضافية .  
يلتفت يمينا ويسارا لا شئ حوله سوى حوائط مشيدة من الطوب الأحمر وفراغ ترك لنافذة وحقيبة جلدية تضم ملابسه ، جمع قطعا من بقايا الأخشاب المستخدمة فى اقامة الأعمدة الخرسانية ونزع منها ما بها من مسامير وصف تحتها قوائم من الطوب فى أطرافها الأربعة  لكى تبدو على هيئة سرير مجهز للنوم ، غطى الأخشاب بعبوات الأسمنت الفارغة وجعل من حقيبة ملابسه وسادة يريح رأسه عليها .
أوشك الأسبوع على الانتهاء واقترب موعد رؤية الأهل بشوق من لم يعتد على فراق بيته يوما ، يعمل بفرح ويسرع لتنفيذ ما يطلب منه وفجأة ألم شديد ودماء تنهمر من قدميه ، قطعة من الخشب بها مسماران اخترقت باطن قدمه ، يجلس مكانه ، يقبض على فكه من شدة الألم ، يسرع اليه زميله فى العمل ينزع الخشبة فيخرج معها المسماران يصحبهما صرخته ، تشعل نيران فى قطعة خشبية ثم تكوى بها ساقه ويجذ على أنيابه من قسوة الوجع .
كهنة قماشية قديمة تقطع وتربط بها ساقه ، يرتاح قليلا ثم يعود ليكمل يومه  وعمله المطلوب منه .
اعتاد العمل بتوالى الأيام وتبدل لون جلده فاكتسى بلون الليل ، انقضت المدة الأولى وتأخر الراتب ، ذهب الى المقاول ليسأله عن راتبه فأمهله وتوالت الاعذار ، ان اردت مرتبك الأن فلن تأخذ سوى مائة وعشرون جنيها ...لكنى  لى أكثر ، لى أربعة ايام بخلاف الاضافى ، هذا ما عندى أو تستطيع الانتظار ليحين دورك فى المرتب ، ومتى يحين دورى ؟ عندما تصرف لنا الشركة المستخلصات المتأخرة ، ولتعلم أنى أقدم لك ذلك العرض وحدك لأنك رجل جامعى ومختلف عن زملائك ...حسنا أعطنى ما عندك ....سامحك الله .
تعالى معى الى سوق المدينة الرئيسى ، هناك يجلس الكثير من العمال ومن يحتاج الى عامل من قاطنى المدينة يذهب الى هناك وتتقاضى اجرا جيدا ، فى الصباح قطع مسافة تقارب الخمسة كيلو من المترات سيرا على الأقدام الى السوق الرئيسى وهناك جلس مع الجالسين ينتظر حتى اقترب النهار من الانتهاء دون جدوى فعادا مجددا وفى طريق العودة مرا بمنفذ بيع مصنع للبسكويت اشتريا منه ...
فى المساء صاحبه يخبره أن هناك شركة مقاولات أخرى والمقاول هناك يعطى العمال أجورهم كل اسبوع قبل عودتهم الى ديارهم والأجر اليومى اثنى عشر جنيها ، العمل هنا بين بين قد يكون شاقا فى يوم وقد يكون مريحا فى الأخر ومهمتنا هى إنهاء كافة الترميمات المطلوبة وتنظيف المبانى جيدا وتجهيزها للتسليم ...وفى ختام اسبوع العمل تقاضى راتبه دون نقصان وانصرف عائدا الى دياره بعد أن اغتسل جيدا وبدل ثيابه وحمل حقيبته التى أعدها فى المساء المنقضى ، السيارة تطرق اعتاب القرية واحداهن تقف أمام بيتها تلوح لها بكلتا يديها ويكسو وجهها ابتسامة .

الخميس، 4 يونيو 2015

طفولة

صبى صغير يحمل على كتفه شكائر الرمال فيصعد بها الى الطابق السادس حيث الشقة المطلوب ترميمها ، مرات متواليات ، رمال وأسمنت وطوب ، ينسال العرق على جبهته فيغطى عينيه ، يشعر بالتعب ، ينظر الى الوقت الذى انقضى فيراه وكأنه لا يمر ، النهار فى أوله ، الله المعين ، بعض الراحة قد تفيد ، رشفات من الشاى ، عليك التوكل يا كريم .
يواصل العمل ، ينقى الرمال جيدا من السن والزلط المختلط بها عن طريق الهزاز ، يضع الأسمنت على الرمال ويخلطهما ببعضها جيدا حتى تختلط ألوانهما فلا تستطيع التفرقة بينها ، يعدها فى شكل دائرى ويجعل فيها فراغا فى المنتصف يصب فى داخله الماء شيئا فشيئا ثم يلقى بأطراف الرمال والاسمنت المختلطة على المياه حتى يختلط الجميع ويمتزج بالماء جيدا ويعيد الخلط مرات ومرات حتى تصبح جاهزة للاستخدام .
يضع " المونة " ناتج مزج الاسمنت والرمال بالماء فى القصعة " الاداة المستخدمة فى نقل المونة " ويحملها الى البناء الذى يبدأ فى صف اللبنات متجاورات بعد أن أنهى تهيئة المكان وتنظيفه من الأتربة وصب عليه القليل من الماء حتى يسهل تقبله للمونة .
ينقل اللبنات ويضعها بالقرب من البناء وينزل الى الطابق الأرضى ليحمل الأسمنت والرمال ثانية ويصعد بالمتبقى منها مرات ومرات ، تسعون درجة سلم أو يزيد قليلا كان عليه تخطيها صعودا وهبوطا مرات ومرات حتى ينتهى من عمله .
يصعد الدرجات وتعلو الشمس فتنهمر قطرات العرق تغسل كده وتعبه وابتسامة مرهقة سكنت على ثغره ، ونبضات تسأل الله المعونة .
تعد المونة بالطلب فكلما أوشكت على الانتهاء جهز غيرها حتى انقضى العمل والآن أصبح عليه تنظيف مكان العمل جيدا وحمل بقايا الرمال وكسر الطوب وشكائر الأسمنت الفارغة الى الأسفل مجددا ، والأخير تنظيف الأدوات المستخدمة فى العمل وتجفيفها جيدا حتى لا يصيبها الصدأ .
ينظف بدنه بمهل فتتساقط بقايا الرمال والأسمنت وحنة الطوب الحمراء من تحت شلالات الماء وتسقط معها جزء من الوجع الذى صاحب يومه ، تتساقط حبات المياه من فوق رأسه وبدنه محملة بمزيج من الألوان التى خضبت بدنه ، يغمض عينيه ويفرغ كل ما لحق به ، يبتسم شاكرا لانتهاء اليوم  ، يبدل ثيابه ويخرج وكأنه ولد من جديد  .
رقبته تؤلمه وقد تركت فيها الأثقال بصمتها وكتفه مازال يشعره أنه مثقل بلبنات كثر ويده وكأنها مخدرة لا يقوى على تحريكها كثيرا .
الأسمنت بدل هيئة يده فأصبح جلدها يبدو شاحبا وأصبح ملمسها خشنا كغزل الصوف يخشى ان صافح أحدهم أن يجرح يده .
يتناول لقيمات بسيطة يتبعها كوب من الشاى ، قام إلى كتبه  فتصفحها وتأكد من عدم وجود واجبات لم ينتهى منها وأعد حقيبته بجدول اليوم القادم فى المدرسة ولم ينسى أن يضع ما حصل عليه من أجرة عن يوم عمله فى حقيبته ليدفعه الى المدرس نظير الدرس الذى حل موعد سداده .
جلس على اريكته مضجعا يشاهد التلفاز فغلبه النوم فاستسلم له .