الاثنين، 3 أغسطس 2015

يوم مولدى

رمضان فى هذا العام يوافق أغسطس ، تخطاه فقط بثلاثة أيام ، الشمس على أشدها والناس لا يجدون منها ملاذا ولا مهربا ، الفلاحون منغمسون فى نزع الحشائش الضارة من بين أعواد الأرز التى انتصف عمرها وأوشكت على النضوج ، سيقان الذرة تقف شامخة تتراقص أطرافها وبدأت التيجان تزين أوعية الثمار تخبر بأنها باتت على أبواب مهد جديد ، تتراقص أعواد الملوخيا اللينة بجوار تلك السيقان التى بدت لها شاهقة تلامس بعنقها السماء وفى مسافات تركت بين تلك السيقان لتسهيل السير وجريان الماء جلس شاب فى منتصف عقده الثالث يستظل بها من لفح الشمس وقسوتها ويتناول شيئا من الراحة تعينه على الصوم والعمل .
فى صحن البيت جلست سيدة فى عقدها السادس بالقرب من بناتها اللاتى شغلن بطهى وتجهيز الإفطار ، وطفلتين صغيرتين تلعبان بالجوار .
بيت يطل على ترعة صغيرة ، بينهما بساط من الفراغ ترك كحرم للمجرى المائى الصغير ، تحيطه أشجار النخيل وشجرة مانجو ومجموعة متلاصقة من أشجار التين الشوكى ، حظيرة صغيرة حوائطها من الخشب والطين ، تظللها سيقان العنب ، أمامها سيدة شغلت بملأ الأوعية بالماء وبناتها شغلن بعملهن بالقرب منها .
قطع شغلهم صرخة امرأة انتفض الجميع منها فأفزعتهم ....يبدو أن زوجة الإبن البكرى ستضع مولودها الثالث اليوم ....اليوم وهى صائمة وقبل حلول أوان الافطار ..
أرسلت السيدة ابنتها الى بيت الداية " السيدة عزيزة " رحمها الله ، لا تعودى قبل أن تحضر معك وساقوم بتسخين المياه لحين عودتك ، وأرسلت الابنة الأخرى الى بيت والد الزوجة ، أخبريهم أن ابنتهم تلد الآن ، وأرسلت الى الجد ليحضر من الحقل برفقة ابنه فربما نحتاج مساعدة ..يارب يقومك بالسلامة يا بنتى ...
تبدل مظهر اليوم وتغيرت أحوال الجميع وكل منهم سلك جهة معينة لأداء مهمة معينة صغيرة ربما ، كبيرة ربما ، لكن لكل منهم دوره وآثره ...
العرق يصطف مزاحما حباته على وجه الأم التى لم تتخطى منتصف عقدها الثالث وبالقرب منها جلست ابنتها الكبرى التى سنواتها الأربع بثلاثة أشهر فقط ، تمسح عن أمها العرق ، الزوج عاد من الحقل مهرولا فور سماعه الخبر تعلو عينه اللهفه ويغمر قلبه الشوق وكلمات الرجاء وأدعية الأمل غلبت نظراته الى السماء ..." رب هب لى من لدنك وليا " ...
إمتلأ بهو المنزل بالخطوات جيئة وذهابا ، الجميع كخلية نحل لا يكل أفرادها عن العمل ، الكل ينتظر أن تطمئنهم " الست عزيزة " ، الجميع ينتظر قدوم المولود الجديد ، لم يولد حفيدا ذكرا لهذه الأسرة بعد ويأمل الجد والجدة أن يكون مولودهما اليوم ذكرا يمتعون أعينهم بالنظر إليه فى حياتهم ، دعوات قبل الافطار تخترق أبواب السماء ..
صرخت الأم صرخة صمتت بعدها وصمت جميع من حضر وكأنهم نزلت عليهم سكينة زاغت بأبصارهم وأبكمت ألسنتهم ، صمت الجميع مانحين الفرصة لصراخ طفل صغير ان يعلو ليعلن عن قدومه الى الكون ومهد لحياة جديدة ....زغرودة خرجت عالية من فم الداية تلتها زغاريد كثيرة من عمات المولود وخالاته ...غالى الصغير خطى الى الدنيا ..
أسرع الأب فحمل المولود وعيناه كستها الدموع المغلفة بالبهجة والفرح ..الله أكبر الله أكبر ...لا إله إلا الله ..أنهى الأذان فى أذن المولود وقدمه الى جده وجدته ، حمدا الله على ما وهب ، اسمه محمدا وسيكون عند الجميع غاليا ..
كان ذلك قبل ثلاثون عاما زادت عليها سنوات ثلاث ...واليوم مبتدى رحلة جديدة ....