الأربعاء، 20 يوليو 2016

لم نعد صغارا 6

فتاتات ترعيان قافلة من البقر يعبرن الطريق ، إحداهن فى المقدمة وصاحبتها فى الخلف وبعض الأبقار يعلو خوارها ، كلب يلهث ، يتنقل يمينا ويسارا ويشق الصفوف محاولا ضبط النظام  ينبح على كل غريب يقترب ، الفتاة بالخلف تشير بعصاها ناحية البقرات التى تبطئ الخطى أو تتخلف عن الركب ، تجد إحداهن وجدت عشبا صغيرة فألقت برأسها ناحيته وهمت بإلتهامه ، إنتظرت حتى إلتقطته ثم أشارت إليها بعصاها لتواصل السير ، كلا الفتاتان ترتديان ثيابا بدوية ألوانها مميزة ، غطت جسدهما كاملا ومساحة صغيرة تركت للتمكن من الرؤيا ، كل منهما يمتطى حمارا ، يقتعدان على فرش مصنوعة من خرق بالية ، للفرش جعبتين يمينا ويسارا ، يحملان فيهما زادهما وشرابهما لساعات النهار ، على الراعى الغوص فى أعماق الصحراء للوصول إلى أماكن فيها من الكلأ والعشب ما يكفى لإطعام رعيته وليست هذه المنطقة بالمرعى المفضل للكثيرين لندرة العشب بها ، البدو اعتادوا حياة الترحال والعيش منعزلين عن غيرهم ، لذا التوسع فى هذه المدينة يزعجهم كثيرا وكل يوم يحملون خيامهم ورحالهم ويبتعدون أكثر وأكثر .
اعتدت مرور هؤلاء الرعاة من أمامى كل صباح فمواعيدهم ثابتة لا تتغير ، فقط ربما تتبدل القافلة ، أغنام وماعز أحيانا ، أبقارا فى كثير من الأوقات ونادرا ما ما تكون إبل .
تقف السيارات منتظرة عبور الموكب ، تمر الأنعام مخلفة وراءها الكثير من الغبار ، تدور الفتاة التى بالخلف حول القافلة حتى تتأكد من عبور الكل للطريق ثم تتبعهم وتمنح الوقوف الضوء الأخضر لعبور الطريق .
تحركت السيارات وارتفع ضجيجها مجددا وكأنهم كانوا مرغمين على الصمت خلال فترة عبور القافلة ، انتظرت قليلا حتى انتهى الضجيج وعبرت متما سيرى ، أشعة الشمس تصطدم بالرمال فتعود الى الهواء ملتهبة ، الأرض تتسع عن اليمين خالية من اى بناء وعن اليسار ظهيرا صحراويا ترك حرما لمجموعة من الفيلات الفاخرة .
مجموعة من البنوك والهيئات تطل على استحياء ، تخدش بخجل صمت المكان ، تقابلها حديقة شاسعة المساحة ، اصطفت فيها الأشجار ، تارة متقابلات وتارة متفرقات وبعض الأعشاب الصغيرة نبتت فيما بينها ، رسم دخولها الذى لا يتعدى جنيهات قليلة جعلها متنفسا لقاطنى المدينة وخاصة أولئك الذين لا يجنون قيمة اشتراكات الأندية سواء باهظة أو متوسطة أو حتى منخفضة القيمة فالبعض لا يحصل سوى قوت يومه ويتم باقى يومه نوما حتى لا يكسره الجوع وتؤلمه الحاجة .
يقدم المرء منا إلى هذه المدينة ساعيا خلف قوته فتأخذ منه كل شئ ، تسلب منه عمره وزهرة شبابه ، يفنى شبابه فى محاولة تحصيل ذلك الذى من أجله سعى ، يخلف كل شئ وراءه ، أهله ودياره ، أصحابه وأحبابه ،  يقدم الى هنا طامعا فى حياة كريمة ، كانوا يسمونها قلعة الصناعة فى أيام مضت ولازال البعض يتغنى بذلك المسمى كعادة أهل بلادنا عندما يصيبهم العجز لا يجدون أمامهم مأوى سوى التفاخر بما كان يوما .
أنا أيضا فعلت ذلك ، خلفت كل شئ ورائى وقدمت إلى هنا رغبة فى تحصيل علم نفسى تشتاق إليه وفى بناء مكان أحلم بتشييده ، وفى بلوغ منزلة لطالما إجتهدت لأستحقها ، اخترت الطريق الأصعب ، التعليم وسيلة للحياة ، كنت أقيم فى مكان عملى ، أسافر إلى أسرتى فى نهاية كل أسبوع لأطمئن عليهم وأبدل ثيابى وأكحل عينى برؤية أبى وأمى وإخوتى وأريح روحى مما علق بها خلال تلك الأيام .
وحيدا وسط الأوراق والكتب ، أعيش فيما يشبه المكتبه ، أصف الوسائد وأستلقى عليها عندما يغلبنى النوم وعندما تصطدم أشعة الشمس برأسى أغادر مضجعى وأستعد لمواصلة عمرى ، فى الجهة الأخرى لمقر عملى مجموعة من المحال التجارية أقتات منها ما يسد حاجتى ويحفظ لى ما تبقى فى الجسد من حياة ، سيدة بصحبة زوجها يمتلكون مطعما أحصل منه على زادى من الفول والفلافل والخبز وشرائح البطاطس أحيانا وأحيانا أبدل طعامى فأشترى جبن أو مربى من البقال الملاصق للمطعم ، سنوات لم تتغير طقوسى حتى قدم أحدهم إلى منطقة قريبة من المبنى الذى أعمل به وكان شابا طيبا يدير " عربية فول " ودوما الفول الذى تشتريه من أصحاب " العربات " يكون له طعما مميزا ، ومن يوم تعرفت عليه وتوطدت صداقتنا  وأصبحت زبونه الدائم كل صباح لكنى لم انسى مطعمى القديم فكنت أزورهم كل حين .

الوجبات الأخرى كان لها نفس السمت غير أنها كانت تحتاج منى إلى السير مسافة حتى أصل إلى سوق قريب أقتات منه بعض الخضروات وأقوم بإعدادها وتجهيزها وطهيها حيث أقيم ، أقطع البطاطس والباذنجان الى شرائح طولية وأقوم بوضعهما فى الزيت بعد تسخينه جيدا وأنتظر حتى يحمر لونهما ثم أخرجهما بعد تصفية الزيت العالق بهما ، أقطع الطماطم والخضروات الى قطع متساوية وأصفها حول الطبق فى دوائر متتالية تعلوها أعواد الجرجير، أسخن أرغفة الخبز ، بعض الملح ينثر على الطعام يزيده لذة ، أصبح طعامى جاهزا ، أبحث عن جرائد قديمة أستخدم صفحاتها كفراش للأرض التى أضع عليها الطعام ، ثم أتناول رزقى ، بسم الله .

السبت، 9 يوليو 2016

شاخت البلدة

كنا صغارا نلهو فى كل فج وناحية ، نجرى من هنا لهناك ، لا تعوقنا حواجز ، أحيانا يخيفنا نباح كلب يشق ثوب الظلام ، أحيانا يزعجنا توبيخ أحدهم لنا أمرنا بأن نلعب بعيدا عن بيته قائلا لعبكم يثير الغبار والأتربة فتفسد علينا بيوتنا ، نستيقظ مبكرين نهرول لدروسنا قبل موعد المدرسة ، كان يقول لنا أستاذنا يسعدنى رياضتكم الصباحية رغم ما تسببونه من إزعاج لجيران المدرسة ، ما إن ينتهى الدرس فى فصول التقويم التى كان مكانها المدرسة حتى يبدأ طابور الصباح يليه الانصراف الى الفصول وبدء الحصص وفى الفسحة نسارع الى المرأة الطيبة التى كانت دوما موجودة أمام باب المدرسة نشترى منها العيش والطعمية ، قروش قليلة تكفيك للحصول على وجبة دسمة شهية ، فى الحقيقة كانت هناك سيدتان دوما تتانفسان فى تقديم المأكولات والساندوتشات لنا وكنا عادة ما نؤثر إحداهما على الأخرى تلك التى سميتها المرأة الطيبة .
 كانت كل الأيام مفعمه بالسعادة رغم ما قد نلاقيه فيها من عثرات أحيانا ، كانت أمطار الشتاء تحول بين وبين ممارسة شغفنا باللعب أيام ، فما أن يحل موسم الأمطار حتى يتبدل زى الأرض ويصير التراب طينا وفى البلدة وأمثالها يمكث الطين أياما حتى يجف وتعود الأرض صالحة لممارسة شغفنا مجددا .
كانت المدرسة تقع فى أقصى القرية بجوار ترعة صغيرة تم ردمها الآن وحتى المدرسة كانت ملكا لأحدهم وتم إنشاء غيرها الآن وأعيد مبنى المدرسة القديمة إلى مالكها ليتقاسمها الورثة ولاتزال على حالها آيلة للسقوط يحفظها من ذلك الأجيال التى خرجت منها تحمل منارة العلم لكل الأرجاء .
فى هذا الوقت كانت أغلب بيوت البلدة من طوب لبن وأقلها من ارتدى ثوب الحداثة وانتقل إلى المسلحات الخرسانية وبعضها خضبته الألوان لتطيل عمره وتبهج مظهره فيسر الناظرين .
كانت الوجوه فرحة مستبشرة ، يسبق الأمل خطاها ، الجميع يعرف للجميع قدره ولا يخفى أمر أحدهم على أخيه ، يوقرون الكبير وينزلونه منزلته ، لصاحب العلم مكانته وللساعى للخير منزلته ، حتى أولئك الذين شذوا عن الطريق وسلكوا مسالكا أخرى فى تجارة غير مشروعة كانوا يتعاملون باحترام مع كل أهل القرية ، لا يتعدون ولا يظلمون ولا يأتون على حق أحد ، لهم حالهم ولباقى أهل القرية حالهم .
يهل علينا رمضان فتتزين القرية وفى الليل يطوف الصغار بالفوانيس فى شوارع القرية مرددين "حلو يا حلو رمضان كريم يا حلو" ، الفوانيس لم تكن كتلك التى نراها هذه الأيام ، وعاء من صفيح تتوسطه شمعة ما إن ينتهى عمرها حتى تستبدلها بأخرى جديدة وقل من وجدته يحمل فانوسا مصنوعا من البلاستيك ، يعمل "بحجارة القلم" وتتسوطة لمبة صغيرة تستمد إضائتها من تلك البطاريات ، وبعد إنتصاف الليل يطوف المسحراتيه بالبلدة كلها ينبهون النومى لميقات السحور ، يكفيك لشكرهم أن تمنحهم قسطا من تلك الحبوب التى تخرجها زكاة لفطرك وأسرتك وإن تزد فأنت صاحب فضل كبير .
يأتى العيد فترتدى البلدة ثوبا جديدا يليق ببهجة هذا اليوم ، فى بيتنا كان الأمر مختلفا فوجب علينا الاستيقاظ مبكرا جدا ، كان أبى قد اعتاد وصديق له تجهيز مصلى العيد دوما وفى هذا الوقت كان المصلى يقام فى مكان متسع بالقرب من الطريق الرئيسى الذى يمر بجوار البلدة ويصلها بالقرى الأخرى ، عند الفجر أسمع صوت صديق أبى يطرق علينا الباب ويذهب أبى معه وأسرع لأدركهما هناك ، يقومون بتجهيز المصلى وبسط الفرش المصنوعة من حصير ليصلى عليها الناس وتركيب مكبرات الصوت ودقائق ويبدأ قدوم المصلين ، نردد التكبيرات حتى موعد الصلاة ، يقدم الإمام يرتدى عباءته الجديدة ، يطل النور من وجهه ، يصلى ثم يخطب فيثلج صدور الحاضرين ، تنتهى الخطبة ويتصافح الجميع ويترك الكل خلافاته خلف ظهره فلا صوت يعلو فوق سلام العيد وطهر القلوب ، ينصرف الحضور ، نجمع الفرش ونعيدها إلى المسجد ويعيد أبى وصاحبه مكبرات الصوت ثم يبدأ يومنا وفى الحقيقة "كل العيد صلاة العيد" .
شيئا فشيئا تغيرت الأمور ، مكان المصلى باعه أصحابه وأقيمت مكانه مبانى شاهقة ، واتخذ مكانا أخرا كمصلى للبلدة على ترعة تم ردمها وكوبرى خشبى لم تعد هناك حاجة إليه فأزيل عند الردم ، يقوم على إعداد المصلى وتجهيزه شباب يحبون الخير ويسارعون إليه ، وإمام أخر يأتى ليؤم الناس فى الصلاة وأحيانا يكون من خارج البلدة مثلما اعتدنا فى الأونة الأخيرة .
تتوالى السنون فتتغير البلدة ويتغير كل شئ فيها ، المبانى والوجوه ، حتى تلك الطيبة التى كانت تغلف الوجوه تغيرت وحل محلها سمات أخرى ، يجاهر الناس بالمساوئ وكأنها أشياء عادية لا ريب فيها ولا عيب ، الطيبون رحلوا وحل محلهم من لا يوقر ولا يعرف لأحد فضله ولا مكانته ، لم يعد الأمن هو السائد ولم تعد الأمور بخير كما كانت يوما .
أصبحت البلدة كأوكار متفرقة ، كل منها يتزعمها جماعة مختلفة تعادى تلك المتزعمة للمنطقة الأخرى ، لم يعد هناك أدابا فى الخصومة حتى صار كل شئ عند النزاع مباح ، أصبحنا نسير فى طرقات البلدة وكأننا غرباء عنها ، لا نعرف تلك الوجوه فهى قطعا لا تشبهنا ، الأفراح بجوار المآتم وهذا لا يشبهنا ، سباب وشتائم بألفاظ وعبارات قبيحة وهذا لا يشبهنا ، تعدى وانتهاك للحرمات والخصوصيات وهذا لا يشبهنا ، تجارة غير مشروعة فى الشوارع والحوارى والزقاق جهارا نهارا وهذا لا يشبهنا .
ألم يكفى هؤلاء أن أهلهم وذويهم أفسدوها قبلا وأساءوا إليها حتى صار جل اهلها يخشى من إخبار أحدهم أنه من اهل هذه البلدة حتى لا يوصم بالسوء ؟! ، ألم يكفهم أوقات الرعب والموت التى يعانيها أهل القرية عند حدوث صراعات بين هؤلاء وأمثالهم ؟! ألم يكفهم أن أى من أبناء البلدة كلما مر على كمين شرطة وطالعوا فى بطاقته مقر إقامته يعاملونه كمشتبه فيه ؟! ألم يكفهم أن الصغار شبوا على مطالعة الأسلحة بأنواعها أينما حطت أعينهم ؟! ألم يكفهم أنهم جعلوا البلدة مرتعا لرواد الإجرام والاتجار فى المحظورات يرتعون فيها ليل نهار ؟! ألم يكفهم أنهم أساءوا إلى كل البلدة حتى لو لم يفعلوا ذلك عملا بأيديهم وإنما أساءت إليها أفعالهم وما اشاعوه عنها من سمعة وشهرة حتى صار اسمها مقرونا بالسوء فى كل مكان ؟!
أم آن لهم أن يكفوا عن هذه الأفعال ويسلكوا مسالكا جديدة يبدأون بها صفحات تحمل الخير فى طياتها وبين سطورها وحواشيها أو على الأقل يتنحوا جانبا على أطراف البلدة وبين الزراعات كما كانوا قبلا فلا يؤذون الناس برؤية أولئك القادمين إليهم ولا أن تعكر أنافهم سمومهم ولا تفسد أعينهم رؤية أسلحتهم ولا يروعون صغارهم ونساءهم ؟!.
أزيلت المبانى الطينية وحل محلها الخرسانات وزين الكثير منزلهم بكل ما استطاعوا من زينة وظنوا أنهم بذلك يحصنونها ويجعلونها أفضل ويبدو ان برحيلها رحل معها الكثير من الخير الذى كمن فيها وقطنها لأعوام وسنوات لا تحصى .

شاخت البلدة رغم أنها ارتدت ثوب الحداثة وكثر فيها الشباب وارتفعت المبانى وتعددت المدارس وكثرت المساجد ورغم كل ذلك قل الخير الساكن فى النفوس برحيل القلوب الطيبة ، تراها تحسبها عروسا زينوها لعرسها وهى من داخلها تبكى ألما وحسرة ، شاخت البلدة رغم أن مظهرها شبابا مفعما بالحيوية .