الشمس تطل على إستحياء بضوء واهن، تطرق برفق خد الصباح ،
تسأله أن يستيقظ ، أن يسمح لها بمعانقته وإختراق حصونه ، الضباب يأبى ، يكسو كل شئ
بلونه ، الكل غائب لا يكاد يُرى أطرافه ، الكون أبيض ، رمادى ، الندى ثقيل ، طبقات
متكدسة فوق بعضها ، قلعة من البرد وحبات الندى ، طيور تنفض أجنحتها تحاول تلمس
الدفء ، أشجار اغتسلت لتوها وتخضبت بأريج الصباح ، بيوت نائمة ، سيارات ومركبات
كسى زجاجها الضباب، الأنفاس كأعمدة الدخان ، الوجوه مخضبة بحمرة والليل ولى عند
بزوغ الفجر ، الأرض خاملة وترابها مازال ناعسا .
أسير وكأنى خلقت وحيدا فى هذا العالم ، كأنى فى سجن من
خيوط الضباب ، غرفة زجاجية تحيط بى ليس بها مخارج ، فقط تركت دون سقف كى أستطيع
التنفس ، لا أرى أبعد من أمام عينى ، أخشى
التعثر ، أمشى تقودنى ذاكرتى ومعرفتى الفطرية بتلك الأماكن التى أخطوها دوما ، لو
لقينى أحدهم الآن لاصطدمنا ببعضنا إلا أن تسعفنا الأنفاس قبلها أو الأصوات ، أسير
بمحاذاة الجدران فى المنطقة الفاصلة بينها وبين الأشجار ، كلما خطوت أكثر تكسرت
أمامى الأوعية الضبابية لكنها تعود مجددا بعدما أتخطاها وكأنها تخلق من جديد .
العالم كله انحصر فى تلك المساحة وخلى من المخلوقات سواى
، أتحرك يمنة ويسرة أبحث عن أى شئ وأصل إلى لاشئ فلاشئ مطلقا سواى وبعض أصوات
الطيور تطل من بعد تخبرنى أن بالخارج حياة أيضا وترغبنى فى إدراكها ، أهرول ثابتا
فى مكانى ، أجلس ، أستلقى ، أتكئ ، أنام ، أتقلب فى مكانى ، عزلة رمادية داخل بقعة
غشاها الضباب واختلسها من العالم ، جزيرة من فراغ لا تزيد مساحتها عن موضع خطواتى
، موحشة إذا تكدرت الدنيا فى وجهى ، مبهجة إذا عشتها جنة ، خالية من الجرائم التى
ترتكب و الدماء التى تراق باسم الدين ، باسم الطائفية ، باسم الفقر ، باسم القبلية
، باسم الحاكم ، باسم الحرية وباسم الوطن .
حالة غريبة ، جعلتنى مشتتا ، سلكت بى مسالك عدة فى ثوانى
قصيرة ، ما لبثت الشمس أن شقت السماء فبدى شعاعها قويا كنصر مؤزر أتى بعد حين ، لم يعد ضعيفا واهنا كما
كان ، انقشع الضباب مسرعا وكأنه ما كان وظهرت كل المعالم التى كانت قد تاهت وبدت
البيوت والأشجار والسيارات وابتهجت الطيور وأخذت تغرد وتزقزق ، أصوات صبية يعلو ،
ساعة تعلن أوان الذهاب .
0 رأيك يهمنى:
إرسال تعليق