الخميس، 19 ديسمبر 2024

التأشيرة " 3 "

 

الليل أقبل والسيارة ثابتة على حالها ، تحافظ على سرعتها ، وهكذا حال ركابها ، كأن الكل اتفق على وتيرة واحدة ، إلا أن البعض غلبه النوم ، لافتات كثيرة تطوى تحمل أسماء الأماكن التى نمر عليها ، مداخل المدن مصممة بشكل بديع ، اضاءة الطريق هادئة ، أكثر اللافتات تحمل صورة الملك وابنه ، عدة أكمنة مررنا بها ، ما يقرب من ثلاث ساعات ثم توقفنا فى محطة الوقود للصلاة والاستراحة لمدة ربع ساعة وتزويد السيارة بحاجتها من الوقود ومواصلة السائق بحثه عن نوعية الاطارات التى يفضلها  ، صلينا المغرب والعشاء قصرا وجمعا ، مطاعم وبقالة ملحقة بمحطة الوقود تناولنا فيها طعاما خفيفا واقتنينا مياه وبعض المخبوزات الخفيفة ثم عدنا مجددا إلى مقاعدنا فى السيارة وانتظرنا حتى حضر الجميع ثم انطلق السائق وقد نشط قليلا وزاد من نشاطه تجاذبه أطراف الحديث من الركاب ، لا أفهم شيئا مما يقال لكنهم يتحدثون بود ويضحكون مما أعان على تخفيف مشقة الرحلة وطول المسير .

خلفنا القصيم وراءنا وأتجهنا نحو المدينة المنورة ، فتحت الخرائط على الهاتف لمعرفة المسافة والوقت فلاحظ الراكب بجانبى ما فعلت فطلب منى أن أشغل له التطبيق وأحدد له الوجهة على هاتفه ففعلت ، أتابع الصحراء الممتدة على طول الطريق ونادرا ما مررنا على بنايات وإن بدى بعضها فى الأفق ، أعلنت عن ذلك الأنوار التى تغطيها ، تناوب على الطرق على كتفى الأفارقة من خلفى يطلبون منى نقل هواتفهم إلى السائق ليضعها على الشاحن وهكذا طول الطريق خذ هذا وأعد هذا .

حوالى خمس ساعات قضيتها أرقب الطريق ، الظلام الذى يعانق الرمال وأضواء سيارات عابرة ، يشرد ذهنى فى المكان وقاطنيه ، يحدثنى صاحبى أنه قضى هنا عامين ثم انتقل الى مدن أخرى ، كلما رأيت اضواء ساطعة ظننت المدينة اقتربت ولكن كان ظنا وكفى ، الليل انتصف ولازلنا فى الطريق ، نقطع أميالا فى طريق أحسن تمهيده وإعداده وجهز بالخدمات على مسافات جيدة وكاميرات المراقبة منتشرة على طوله .

الساعة تقترب من الثانية صباحا وأنوار المدينة قد بدت فى الأفق وهل نسيمها الطيب ، الجبال ، المآذن ، المشاهد ، هنا تاريخ لن يتكرر ، ووحى ذهاب وجيئة بين السماء والأرض ، هنا حيث بكت أجمل عيون وأرتفعت إلى السماء أطهر أيدى وارتقت أفضل قلوب وسالت أطهر دماء ، هنا حيت انتهت أخر رحلات وحى السماء إلى الأرض ، هنا حيث عاش أفضل من خطت على الأرض أقدامهم ، القلب تعالت دقاته عند اول لافتة تحمل اسم المدينة المنورة وكلما اقتربت أكثر كلما أسرعت الدقات وتصارعت تسابق أحداها الأخرى حتى أطلت علينا مآذن الحرم النبوى الشريف ، ظننت أننا سنقترب أكثر لكن السائق استدار ثم ولج إلى مركز خدمة يمينا ، أوقف السيارة ونزل يتفاوض مع أصحاب المركز ثم أعاد تشغيل السيارة وانطلق مجددا نحو المغادرة وبعد دقائق قليلة استدار مجددا وعاد إلى نفس المكان ثم أوقف السيارة مجددا ونزل وطلب من الركاب سداد جزءا من القيمة المتفق عليها كى يتمكن من تغيير الاطارات وأخبرنا أنه ينتهى عمله هنا وأن زميله سيكمل معنا الرحلة بدلا منه ، ما يقرب من ساعة كان هو الوقت المستغرق لانجاز الأعمال المطلوبة للسيارة ، خالط ذلك الدخول فى نقاش مع أحد الركاب حول مكان الاحرام وعدة اتصالات أنهت الأمر .

الليل يسحب رداءه على عجل وانطلق السائق البديل يطوى الطريق متجها نحو جده ، يومان وليلتان مرا لم تذق فيهما عينى النوم ولا قسطا من الراحة سوى من غفوات يسيرة فى السيارة ، أرقب الليل والصحراء والسماء الخالية سوى من ملائكة تسبح ودعوات ترفع وسكينة تتنزل وذكريات لرحلات الوحى ، أستمع الى السائق يقول للذى بجانبه هنا حيث تنزلت الملائكة فى بدر يحاربون فى صفوف المؤمنين ثم يدور حول مكان منخفض كثرت فيه الاشجار محاط بسياج ويقول أن هنا بدر حيث كانت أولى معارك الرسول الكريم وصحبه ، العقل يتذكر والقلب تشتد لهفته والعين غشيها الدمع .

يستمر السائق فى طريق ينقطع ولا ينتهى ورمال صفراء ممتدة حتى العشب خلت منه ، يقطع ذلك تفرعات للطريق وطرق ممهدة صعودا ونزولا ولافتات متشابهة ، توقفنا عند مسجد لصلاة الفجر والاستراحة قليلا وغادر السائق باثنين منا إلى الميقات ليحرموا بالحج وعادوا سويا بعد أن أنتهينا من صلاتنا بوقت يسير ، عاد كل منا إلى مقعده وانطلق بنا السائق مجددا يطوى وراءه القرى والمدن ، لا أعلم التقسيم الجغرافى هنا لكن الأسماء عصية على فهمها إلا ما نعلمه من السيرة العطرة وما انتشر ذكره مؤخرا بسبب ما يحدث من تغيرات فى مملكتهم الجديدة  .

الليل انسحب وحل مكانه الضوء فأشرقت الشمس على عجل ، توقف جديد للاستراحة ، نزلت من السيارة مثل الجميع وغسلت وجهى جيدا وتحركت بعض الخطوات ، نادانى أحد الوقوف وطلب منى مساعدته فى التواصل مع أحدهم ففعلت وشكرنى وانصرف ، أشار إلينا السائق فعدنا جميعا إلى مقاعدنا ثم انطلق وواصل السير حتى وصل بنا إلى جده فى مكان تجتمع فيه الحافلات وكانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحا  .

0 رأيك يهمنى: