السبت، 14 سبتمبر 2019

شوق الدرويش

لم يدر فى ذهنى أن تلك الصفحات ستسرقنى إلى هذا الحد ، الرواية بقربى منذ صدورها لكنى لم أقرأها ، تركتها وكل مرة أتناول كتابا أقترب منها ثم أدعها لغيرها واليوم وقعت يدى عليها ، بدأت الصفحات وبدأت معها خواطرى وما إن وجدت الوقت حتى إلتهمتها كاملة ، ما بين درويش ودرويش تدور الرحى وينتشر الحب ويظلل السماء الموت ، فى بعثة كنسية تهرب حواء " اسمها بعد ذلك " من اعتصار ابن بائع الزيتون لشفتيها المربكتين ، عيناها واسعتان كبحيرة عسل ، انفها به طول محبب وشفتاها وحشيتان ، شعرها البندقى يتحدى خمارها ويسيل كالنهار المشرق ، عذابها ورقها لم يزيداها إلا فتنة ... عيناها تحملان حزنا دائما ...
ثمان وعشرون ليلة فى رحلة من مصر إلى السودان تمر بـ " سواكن " فتأنس بها – مدينة عربية عتيقة مبانيها أشبه بخيالاتها عن الليالى العربية ، ألف ليلة وليلة ، بيوت من طابقين أو ثلاثة ، من حجر مرجان كلس مستخرج من قعر البحر وعلى الشوارع الضيقة تطل الشرفات الخشبية .
القاهرة – الاسكندرية – سواكن – الخرطوم – أم درمان ...
تغادر أمها وأبيها مودعة تحنو إلى عالم جديد فى سنوات تقضيه فى تلك البعثة الكنسية تعلم الرعايا وتنشر الأهداف الكنسية ولا تعلم أن هذا وداعها الأخير لهم ...فى صحبتها من هنا فى مثل عمرها ومن هن أكبر ، من سبق لهن السفر ومن هن مثلها لم يذقن طعمه قبلا .
قافلة تقطع الصحراء طوال المسير ومدينة أهلها يأكلون لحوم البشر ، يونس أول من تأنس به وتفرح بقربه وأول من يهديها هديه وأخر من ينتزع منها الحياة ، دليل تعشقه جمالها فتبتسم له ، قساوسة ورهبان يحنون عليها وأقارب جعلوا منها ابنتهم بعد موت ابنتهم وعجوز تخدمها وتعلمها اللغة وزوجة شيخ تفرح بها وتهون عليها أوجاعها ..
بخيت منديل " عبد " مهما تغيرت السنوات ودارت بن الناس السنن ، أينما حل أصبح عبدا فى السودان ، فى مصر ، فى السجن ، وفى عشقها يموت " عبدا " .
أيتها الطفلة النارية شفتاك من نبيذ الشيطان ... من أى مرمر نحتتك الملائكة ؟ ....
تقاربها فى البياض المشرق كأنها دفقة هاربة من نور الصباح ..
لا يطمع أن تحادثه ، هى غضبى كعادتها ، يريد فقط نظرة من بُعد ، لعلها تروى اشواقه ، ترطب يباس روحه .. حين يرى وجهها لا يسكن الشوق لكن ينتظم عالمه وتسرى فى عروقه القوة فإذا غابت أحسن انسحاب الحياة من جسده ... هى كالروح .
يتخطف النظرات إليها ، ينتظرها عند العصر فى سقيفة بائع الخضار ، كانت تلقاه صدفة أما هو فكان يعد الأوقات وإن غابت غابت روحه ..
الموت يظلل على المدينة ، لم يعد هناك مكان آمن – الجوع يغلف كل شئ حتى أكلت الأم صغيرها حتى " مريسيلة " كادت أن تأكل لولا أن الحياة لا زالت تحمل لها أحوالا وأحوال ..
" مريسيلة " كل من يلقاها يشتهيها أما هى فتشتهيه وهو ملتبس بحواء فلا يرى غيرها ..
حواء .. الماء يسيل على جسدها ، عارية كبهجة متوحشة ، بيضاء كحليب البلابل ، شعرها البندقى مبلل يلتصق بعنقها ويتشبث بوجنتيها ، عنقها طويل كغزال ونهداها ثمرتى تبلدى .
بخيت – عيناه حائرتان كطفل ، صافيتان كنهر ، يحاصره الوجع .
لا تحب النساء العاشق ، إن كنت وضعت بين ساقيها ما يشبع غلفتها لملكتها .
حسن ... فاطمة ... وما أدراك ما فاطمة ؟ ! ..
القتل يزداد ، يأكل كل شئ فى مدينة تعج بالأوربيين والمصريين والأتراك ، المدينة ترتجف يكسوها يأس حزين ، الهواء رطب مشبع بالملح ينضح ببرودة خفيفة والسماء مثقلة بالسحب توشك أن تسقط على البيوت .
وليلة الاحتفال تكون ليلتها وحفار قبور تفتنه رائحة المسك والخمر سكرها أشد .
دين المحبة يقتل .. دين المحبة قيد ... إن الحرية فى إخلاص المرء لقيده .


0 رأيك يهمنى: