الأحد، 9 أغسطس 2020

لم نعد صغارا " 17 "

 

الوقت طويل سرمدى كأنه لا ينتهى ، الليل هرم كشيخ عجوز أضعفته الفواجع والسنون ، الفجر ابتعد ، ولى وكأنه فر من الزحف ، الوجع استقر كجبال راسيات ، الجروح واعرات ، يخترقن الجسد ويكسرن الضلوع ، الوطن تائه ، حائر وسط الدروب ، ملقى به وسط الظلمات ، ظلمات متراكمة طبقات فوق بعضها كأنهن موجات ..

ناى حزين ونحيب ينبع من قلب أم كلمى وأب لم تحل شيبته بينه وبين البكاء كأنه طفل يصرخ طلبا لثدى امه ، دموع تخط طريقها على ناصية وجوه اعتادتها فلم تضل يوما طريقها إليها ، وحدها الدموع تحنو عليهم فى عالم اتخذ القسوة سبيلا ...

أتم الطريق سيرا أطالع تلك الوجوه ، كل وجه وحده حياة ، حكاية سطرتها الأيام ، أثار الزمن بادية محفورة فى كل جبهة وناصية ، شقوق تخللت أقدامهم كأنها شقت فى اجسادهم قنواتا للسفر ، جلود جافة غليظة أشد قسوة من الصخر ، عيون بريئة تبتسم فكأن الدنيا كلها تضحك ، عيون مكلومة تبكى فكأن العالم لم يرى يوما فرح ...

تمر كل يوم قبل الظهر وقبيل الغروب ، تقلب فى صناديق القمامة ، تبحث فيها عن اى شئ تقتات به ، يصحبها أطفال صغار وقد يأتى بدلا منها إحدى قريباتها ، أم أحسبها فى عقدها السادس ، ولم يمنعها ذلك من السعى لاكتساب رزقها ، قالت لى ابنى وزوجته وأولاده وزوجى وعائلتى ، الفقر يا ولدى هو ما يجعلنى أقلب فى صناديق القمامة ، أولاد الحلال يعرفوننى فيضعون لى بعض الأشياء بجوار الصندوق فأتى لأخذها وأبحث بالصندوق عن بقايا الطعام أو ما يمكن بيعه فنكتسب ما نعيش به ونستعين به على قضاء حاجاتنا ، عارف يا ولدى بنت ابنى الصغيرة سلمتها لسيدة لتخدمها فى بيتها واشترط عليها ان تحسن معاملتها ، تعيشن عندهم يا ولدى طول الوقت ، طلبت منها ألا تظلمها ، على الأقل أكون قد أودعتها فى مكان نظيف تجد فيه مكانا لنومها ولقمة تسد جوعها وترفع عنى حاجتها فأتفرغ لاخوتها ، أبيهم " ولدى " سقط أثناء عمله فأصبح قعيد وأنا نظرى بيروح يا نضرى وليس لنا أى مصدر دخل ولا عمل ولا أحد ينفق ، ولدى فى حاجة إلى عمليات كثيرة وعلاج مستمر لا نقدر على ثمنه ، ابنائه ايضا منهم المريض ومنهم الرضيع حتى أنى لا أستطيع إلحاقهم بأى من المدارس ، أتعلم لا مأوى لنا ، فاعل خير تفضل علينا ومنحنا غرفا فى بيته نعيش فيها ونحرس له بيته ، أولاد الحلال يعرفون مكاننا ، يرسلهم الله إلينا دوما يا ولدى ....

الطفلة الصغيرة لديها مرض فى قدمها ، أحب هذه الطفلة ، أعشق ابتسامتها ، كأنها ملاك مترب الوجه ، تحتاج فقط أن تبدل الثياب وتغتسل فتصبح اجمل أطفال الدنيا ، تنظر لى الصغيرة بعيون فرحة دامعة وكأنها تعاتب كل العالم بهذه النظرة فتخالط دمعتها دموعى .