السبت، 26 فبراير 2022

عن الحرب

 

الكون كان هادئا لكن فجأة تبدل كل شئ ، الظلام كان مسالما لكن أضاءته حرائق وانفجارات ، طائرات وصواريخ يطارد بعضها بعضا ، دوى القذائف والطلقات ، تُلقى القذائف هنا وهناك ، لا تبالى على أى مكان تقع .

الأشجار تحاول الصمود فتنتزع من جذورها ، البيوت تُسوى بالأرض ، تحولت إلى كتل من الركام ، كل شئ أصبح خرابا ، سيارات مشتعلة ، حفر تفوه من بطنها النيران ، محطات وقود خُربت بالكامل ، شبكات الكهرباء والاتصالات دمرت ، محطات المياه فجرت ، طرق أغلقت بفعل القذائف التى شقتها ، جثث يفور منها الدم ، القذائف منزوعة القلب ، لا تفرق بين صغير وكبير ، شيخ وطفل ، ذكر وأنثى ، قوى وضعيف ، انسان وحيوان ، نبات وجماد ، الكل يدرك نصيبه ، ويتجرع معاناته .

الناس تتكدس ، تفر ، تبحث عن ملاجئ تحتمى بها ، الوجوه ملطخة بالسواد ، وأجساد مخضبة بالدماء وأخرى تتخبط وتتعثر ، العيون تبكى غابت عنها لمعتها وذهبت منها فرحتها وبدلت طمأنينتها خوفا ورعبا ، السيارات تتكدس فوق الجسور ، لم يعد أحد فى مأمن ، فى الحرب الكل خاسر حتى من يظن أنه انتصر ، الكل فيها يفقد شئ حتى نفسه ربما يفقدها ، حتما ستفقد روحك ، قلبك ، ذاتك ، بعضا منك ، أقاربك ، أهلك ، أصحابك ، جيرانك ، معارفك ، ذكرياتك ، انسانيتك ، ستفقد شيئا حتما ، الحرب مخيفة ولا يدفع فيها الثمن غير من لا ناقة له فيها ولا جمل .

الخراب فى كل بقعة ، المركبات والأليات محطمة على جوانب الطرق ، جذوع الأشجار واقعة هنا وهناك ، تكاد لا تجد متسعا تمر منه ، الأرض لم تعد ممهدة ولا صالحة للسير ، بوارج غارقة وسفن مستلقية على جانبها وأدخنة تتصاعد .

صافرات الانذار لا يكف دويها رغم أن الوضع فى الملاجئ يزداد سوءا ، أكوام من أجساد البشر مكدسة فوق بعضها ، المؤن لا تكفى ولا الثياب ولا الغطاء ، الحزن يخيم والكل يتوجع والألم مسيطر على الملامح والبكاء لا يكف .

الويل لكل الويل للأسلاك الشائكة ، للحدود ، للمعابر ، لمن يحول دون الانسان وحياته ، لمنيئد الأحلام قبل أن تولد ، لمن يقتل الضحكات والوجوه الباسمة ، لمن يسجن أحدهم فى بؤرة لا يسمح له بالمرور حتى يقتنصه الموت ، الويل كل الويل لمن مات داخله الإنسان ، الويل كل الويل لمن خذل ، لمن باع ، لمن فر ولمن خان .

الجمعة، 25 فبراير 2022

جمعة مباركة

 

الهواء اليوم شديد ، يتلاعب بالأشجار ، بالستائر ، بالثياب المعلقة فوق الحبال ، تحول المشابك بينه وبين أن يصرع الثياب أرضا مثلما يفعل بالأوراق الملقاة فى أرضية الشوارع يقلبها وينقلها ويجعلها تترنح لا تقوى على مجاهدته .

الشمس ساطعة تنشر أشعتها بسخاء لكن الهواء يكسر دفئها ويحيله إلى برودة متقبلة .

البيوت بالداخل أشد برودة من الشرفات ، الشرفات تتدفئها الحرية ، مفتوحة إلى السماء ، تنظر إليها طيلة الوقت ، تشاهد القمر ، النجوم ، السحب ، تساقط الندى ، تشهد تعاقب الليل والنهار ، أما البيوت فهى سجينة جدرانها رغم المنافذ فيها إلا أنها صغيرة لا تمدها بالدفء المناسب لذا تُستخدم أجهزة التدفئة الصناعية لمحاولة إصلاح ذلك .

الكلب الصغير ينبح ، يعلو صوته ، تُغلق الأبواب أمامه ، كلما فتح أحدهم بابه أسرع نحوه ، كلما رأى سيارة مقبلة جرى نحوها ، مثله مثل تلك القطة التى يبدو أن أصحابها تركوها او أنها ضلت طريقها نحوهم فأصبحت تستأنس بدرانا ، تظل مختبئة بجوار السور إلى ان يُفتح الباب فتُسرع إلى الداخل وتستلقى على المشاية الموضوعة فى مقدمة السلم ، أصبحت تتبادل ذلك الفراش مع الكلب الصغير ، يبدو أنها رقت لحاله وصعب عليها أن يبقى يعانى البرد والوحدة وحده ، أصبحت أشاهدهم يلعبون سويا برفقة الأطفال الصغار ، القطة تخشى القط الأسود الذى دوما يتحرش بها ، يضربها ويزجرها ، توالى الأيام بدل حالها ، كانت ممتلئة فى البداية بفرو مهذب لكنها الآن أصبحت تشبه كثيرا تلك القطط التى لا مآوى لها ولا ملجأ .

كنا سابقا نقيم فى بيت من طين ، كان فى أشد أوقات البرد دافئا جدا ، رغم انه خالى من الشرفات ، كان سقفه من خشب وبوص وطين فكانت تتسرب من بينه الأمطار .

كانت قطتى لونها مزيج من الأحمر والأسود والأبيض ، كانت تستلقى على حجرى وعندما أنام تنام بجوارى وذات قيلولة وجدت قد وضعت أولادها بجانبى ، بينما كانت أمى مشغولة أمام الفرن ، تخبز لنا العيش وتعد لنا صينية الأرز المعمر ، أحبه بدون سكر ، فكانت أمى تعد اثنتين ، إحداهما بسكر والثانية بدون ، كان عندى كلب صغير اسميته " جاك " كنت أتركه يلهو فى الطابق الثانى ، كان مزيجا من الأبيض والأسود والرمادى إلا أن أبيضه يطغى ، كانت لدى عنزة صغيرة ، كانت دوما تلهو بجوارى حتى عندما كنت أجلس على المصطبة أمام البيت كانت تصعد وتجلس بجوارى ، سمراء بها بقع بيضاء ، سميتها " بسمه " وعندما ولدت ، أنجبت أنثى لكنى سميت ابنتها " عزوز " رغم ذلك ، عزوز ورثت عن أمها شقاوتها وخفة ظلها لكن لونها غلب عليه الأبيض فكان اسوده قليلا .

الحيوانات أشد ألفة وأكثر وفاء من كثير من البشر ...

لكن منهم القاسى والغليظ كحمارة عمتى ، كلما عاملتها برفق رفصتك وكلما اعتليت ظهرها أوقعت بك أرضا وفرت منك وضاع وقتك فى مطاردتها لكنها رغم ذلك كانت تخشى زوج عمتى فكانت عصاه قوية لا تفارق يده فكان إن قال لها "هش اقف " لا تستطع رفع قدم من مكانها وان قال لها " حا " تحركت بمهل إلا إن نخزها فى جنبها فحينها تسرع .

السبت، 19 فبراير 2022

قسوة

 

البيت بارد ، أشعر بالبرودة تتسلل إلى أطرافى وكأنها تسرى فى عروقى ، الجدران باردة ، الصمت جعلها أشد بردا ، الصور على الجدران باردة أيضا ، صمتت فترة طويلة حتى علاها الغبار ، حتى الغبار الذى يعلوها بارد ايضا .

المدفأة رغم أنها تشتاط غضبا إلا أنها باردة أيضا ، أضع يدى على جدرانها فتكاد تتجمد ، الأبواب تصطك يعلو صوتها كأنها أسنان تصطدم فى بعضها، النوافذ تهتز يكاد زجاجها أن يسقط ، السلم الخشبى ، السقف الخشبى ، الستائر البالية ، عروق أخشاب سوداء مدعمة بأعواد البوص مثبتتة بعجين من طين وتبن ، كل شئ اهتز فجأة ، تحرك من موضعه ، تراقص يمينا وشمالا ، صوت الرعد يعلو ويعلو ، الأمطار تتساقط ، تنهمر بقسوة ، صوت المزاليج يفتح ، المياه تزاداد ، قطرات ، كرات ثلج ، حبات ملح ، دفقات دفقات .

أرتجف فى موضعى ، حتى كوب الشاى الذى اجتهدت حتى أعددته لا أستطيع أن أمد يدى لألتقطه ، كل أطرافى ترتعش ، ضلوعى كأنها تادخلت فى بعضها وكلما علا صوت الرعد تجمدت فى مقعدى أكثر ، أخاف الظلمة ، وتساقط الأشجار ، البرق تكاد من هوله أن تشتعل الحرائق ، المزرعة كانت آمنة جدا ، كنت أحب البقاء هنا لأطول وقت ، أقضى جل وقتى فيها ، أرعى أشجارى وأسقى ورودى وأزهارى ، ألاعب جيادى وأضع للماشية والابل والأغنام والماعز طعامهم وسقياهم ، كل شئ الآن غاضب ، حتى كلابى تنبح بصوت خائف ، أظنها ترتجف مثلى الآن .

أنتظر حتى تهدأ الزوبعة ، أتمالك أعصابى ، تهدأ دقات قلبى ، أتحرك بخطوات بطيئة نحو النوافذ والأبواب لأغلقها جيدا ، أرى الكلاب ترتعد فى الخارج فأفتح لها الباب لتدخل وأطلب منها أن تسامحنى أن أبقيتها تعانى وحدها هذه الأجواء فلم أكون أقوى على الحركة ، تنظر إلى معاتبة يكاد الدمع يسقط منها ، أقربهم من المدفأة فيضجعون أمامها ويفردون رؤوسهم على الأرض وعيونهم غرقى فى الحزن ، ألقى على ظهورهم بعض خرق بالية فلا أملك غيرها  .

عاد المطر يتدفق بلا انقطاع ، تلاقت عينى مع أعين الكلاب ، جميعنا ذاهل ، لا يعرف ما يحدث ، الخوف يسيطر علينا ، نسمع أزيزا وارتطام ، اتمسك بجانبى مقعدى ، أخشى الانزلاق أو الوقوع ، لا أعلم كيف سأنزلق ولا أين سأقع ولكنه الخوف يبسط رهبته فى الصدور فتزوغ العيون ويضطرب القلب وترتعش الأطراف ويصير الصمت موتا ! .

هدأت الريح لكن الأمطار مازالت محافظة على هطولها ، تدلت أغصان الأشجار حول سيقانها فكأنها أشبه بأذرع متراخية لأجساد ماتت واقفة ، المياه تنهمر وكأنها شلال متدفق ينزل من جبل عال ، المياه تجمعت بركا فى المساحات الخالية أمام البيت ، تسقط فيها الأضواء فتلمع ، وتبحر فيها النجوم فتلهو ويبدو القمر حزينا ! .

الليل يتسلل رويدا رويدا ، أهو الليل أم هى ظلم السحب المتكدسة فوق رأسى أم هو الخوف يجثو ويجثو ، البرد يشتد قسوة والأمطار تشتد غلظة وكرات الثلج تشتد تماسكا وكأن السماء تقذفنا بكرات بيضاء .

الكلاب غلبها النوم فنامت ، أكاد أحسدها على حالها ، أحاول أن ألحق بهم لكن النوم يعاندنى وأصوات الرعد ولهيب البرق يزعجنى ، تدور فى رأسى الدوائروالأفكار ، كأنى أسير أتخبط فى طريق وعر ، أقع من هنا وتصطدم قدمى من هنا وتغرس هنا ، أسير متكفئ ، أحبو ، تنزلق قدمى من قمة عالية  ،  يهزمنى النوم فتقع رأسى بجوارى .

الجمعة، 18 فبراير 2022

ثلاثية الملك والكتابة

 

يتجول الكاتب الرائع " محمد توفيق " ويطوف حول تاريخ الصحافة فى عمل موسوعى أطلق عليه الملك والكتابة ، صدر عن ريشة للنشر والتوزيع .

الكتاب الأول يغطى الفترة من 1798 م الى 1899 م بعنوان فرعى جورنال الباشا .

تلاه الكتاب الثانى ويغطى الفترة من 1900م الى 1949 م بعنوان فرعى حب وحرب وحبر .

أما الكتاب الثالث فقد تناول الفترة من 1950 م وحتى 1999 م وأختار له عنوانا فرعيا قصة الصحافة والسلطة فى مصر .

تجول بخفة وبراعة حول ما حدث فى مصر فى هذه الحقبات المتعاقبة فى عمل موسوعى تعب وجد فيه كثيرا ، يصور لنا تاريخ الصحافة منذ بدايتها مع الحملة الفرنسية وينقل لنا ما نشرته تلك الصحف حول الأحداث مؤيدة ومعارضة وأرفق صورا مقتبسة من تلك الصحف والجرائد ونقل أخبارا وأحاديث كثيرة ، استند الى مصادر كثيرة جدا أدرجها فى نهاية كل جزء من هذه الثلاثية ، استغرق الأمر الكثير فى أروقة الصحافة وأرشيف الصحف وأرشيف دار الكتب والوثائق ومكتبة الاسكندرية وأجرى العديد من المقابلات حتى يخرج لنا هذا العمل الموسوعى بهذا الشكل البديع .

نقل لنا حكم محمد على حتى ثورة يوليو ونفى فاروق واعلان الجمهورية وانتهاء الملكية ، عشنا الاشتراكية والرأسمالية ، حكى لنا أوقات الحرب وأوقات الأمل وبهجة الانتصار ، رأينا ميلاد الصحف وخفوتها ، عشنا معاناة أصحاب القلم وانتقام ذوى السلطة .

بدأت ثلاثيته بأول جريدة أصدرها نابليون تحت اسم بريد مصر " كورييه دوليجيبت " وانتهت بجريدة الشعب برئاسة تحرير مجدى أحمد حسين الصادرة عن حزب العمال الذى يرأسه ابراهيم شكرى .

بدأت الحكاية عندما قدم نابليون الى مصر وتعداد سكانها لا يتخطى ثلاثة ملايين نسمة وتوقفت وعدد سكانها يناهض سبعين مليون نسمة .

الرحلة تبدأ عند نهاية القرن الثامن عشر ثم تصحبك فى رحلة حية وبث مباشر للقرن التاسع عشر ثم القرن العشرون كأنك تعيش الأحداث ، تشارك فى صناعتها وفى صياغتها ، تعيش مؤثرا فى التاريخ ، تفر مع كل مطارد وتُعذب مع كل معتقل وتفرح مع كل انتصار وتتوجع مع كل ألم .

أن تعرف مصر كيف عانت وكيف كانت وكيف صمدت أمام كل هذا وكيف تجاوزته وكأنه ما كان ، ترى الحكايات كيف بدأت وإلى ماذا انتهت .

ماذا دار فى عقل تابليون ومن خلفه بعده ، كيف كانت رحلة محمد على وكيف تشكلت عقليته وكيف تطورت أفكاره ، وكيف غدر بأصحابه وماذا آل إليه حاله .

تبحر مع الجبرتى وتصحب الامام محمد عبده وتجلس على المقهى بصحبة جمال الدين الافغانى وتسافر مع رفاعة الطهطاوى وتعبش مطاردا مع عبدالله النديم ، تقابل عبدالرحمن الكواكبى وتشهد وقفة عرابى فى قصر عابدين وتشهد ميلاد " جريدة الهلال " .

ترى مصر محتلة من الفرنسيين ثم يحكمها محمد على واسرته قبل أن تقع مجددا فريسة للاحتلال البريطانى بمباركة الخديوى توفيق وقبل أن ترهقها الديون والقروض فيما ابتلت به ابان حكم الخديوى سعيد والخديوى اسماعيل ، تعانى فى حفر قناة السويس ويقتلك الوجع والحزن على أولئك الذين لقوا حتفهم بينما يرقص غيرهم فوق جثثهم .

يبتهج قلبك لجرأة مصطفى كامل ولحكمة محمد فريد وتسير تنادى " سعد ..... سعد .. يحيا سعد " ، تعيش حربين عالميتين وتنجو من الأوبئة بأعجوبة ، وتعجز عن منع ميلاد اسرائيل وتأتى النكسة على ما تبقى من صمودك وقوتك فى 56 ثم 67 قبل أن ترتد إليك روحك وتعود منتصرا فى 73 .

تعاين لحظات الخيانة والغدر وتبدل المواقف ، ترى سجينا صار رئيسا ومناضلا صار وزيرا وملكا صار فى المنفى وصبيا صار واليا وحاكما ، ترى طاعونا تفشى وزلزالا مدمر ، تشتعل حروبا وتباد مدنا ومن لا ناقة له ولا جمل يدفع الثمن .



الخميس، 17 فبراير 2022

زحمة

 

أجلس على المحطة ، كراسى خشبية قديمة ، تحدث صوتا عندما تجلس عليها أو تأتى بأى حركة ، أنتظر الوقت يمضى ، أتأمل الرصيف المتكسر ، الدهانات التى أصابها العطب ، نشع الجدران ، الطحالب الخضراء تحوم أسفل مواسير الصرف ، الناس تغدو وتروح ، أصوات مرتفعة وأخرى هامسة وثالثة أصابها الصمت .

ضحكات صاخبة ودموع تشق فى الخدود مجراها ، السفر حكايات وكل يحمل حكاياته مع أمتعته ، وجوه شاحبة وأخرى راضية ، وجوه قلقة وغيرها مطمئنة ، أطفال وشباب وشيوخ ، ذكور وإناث ، على رصيف المحطة يختلط الجميع ، تختفى الأعراق والأنساب ، ويتزاحم الجميع ليدرك مقعدا فى القطار أو مكانا جيدا للوقوف .

الصفحات كما الوجوه تخفى تحت ثناياها الكثير ، يتراكم عليها الغبار كما تتراكم التجاعيد على الوجوه ، لها رائحة حارة كلهيب أنفاس البشر ، تتكلم مختنقة وتسترسل فرحة راقصة .

" كان علىٌ أن ألعب بالكل حتى يربح الكل وهو حل لم يكن مريحا إضافة إلى كونه خطرا لكنى لا أملك غيره ..." مذكرات الرئيس الأمريكى كارتر .

ترتفع الصافرات تعلن عن قدوم قطار للمحطة فيتدافع المسافرون وتنتشر الفوضى بين قادم ومغادر ومن ينزل ومن يصعد ومن تغلبه أمتعته ومن يقتنص الفرصة ليتحرش ويشبع غرائزه .

أكشاك البيع احتلت المحطة ، عصائر ، مياه غازية ومعدنية ، مقرمشات وسجائر ، وجبات سريعة ، كروت شحن ، مقاعد مصطفة يجلس عليها منتظرى القطارات تقدم إليهم طلباتهم ويشاهدون الأفلام ، نسوة يصفون أقفاصا سجنت بداخلها الدواجن والبط والأوز ، أوعية تنفجر منها روائح المش والجبنة القديمة ، أرغفة من الخبز المحمص ، أوعية مملوءة بالبيض مدسوس وسط كميات من الأرز كى لا يتكسر .

النظرات تلمع فى العيون البسيطة يغلفها الرضا ويحدها العشم فى أن يوسع الله الرزق ويرسل ما يسد فم العيال فالحاجة يا ولدى قاسية كقسوة تلك الأيام .

علاوة اضافية لجميع العاملين من أول يناير .... زيادة المعاشات بنسبة 10فى المئة .

كان ذلك هو العنوان الذى تصدر صحف صباح الاثنين السابع عشر من يناير لعام 1977 ، وفى مساء ذات اليوم اتخذت مجموعة من القرارات الاقتصادية ترتب عليها أن زادت اسعار الخبز والأرز والسكر والشاى واللحوم والبنزين والبوتاجاز والدقيق والذرة والحلاوة والفاصوليا والمنسوجات والملابس .

تلك البطون تتم طعامها بالرضا ، الحب يغمرهم والدفء يسرى فى عروقهم ، فقراء معدومين تكاد لا تغطى ملابسهم أجسامهم ولا تسد الأطعمة جوعهم رغم ان رغيف الخبز يسعدهم حتى وإن خلا مما يبدل طعمه لكن الحمد لا يفارق شفاههم وأن تنام قرير العين لا تحمل حقدا لأحد هو أكثر ما يغنيهم ، يا بنى الغنى يخشى النوم ، يعيش فى قلق وتوتر واضطراب ، يخاف أن يحدث ما يقلل من أرباحه وأن تخفق مشروعاته لكننا الحمد لله ننام بملئ أعيننا وهذا يكفينا ولا نسأل الله سوى الكفاف والستر .

نرى القطار قادما من بعيد تسبقه صافراته فينتفض الجميع ويبلعنا كلنا فى جوفه وينطلق فارا من المحطة غير مباليا بأولئك الذين نزلوا منه وغادروه فلم ينزف دمعة من أجلهم ولا يبالى بالذين ابتلعهم فى داخله فمثلهم مثل من سبقهم سيبقون معه وقتا محددا ثم يغادرونه ، هكذا علمته الدنيا ألا يجعل أحدا يمتلك قلبه حتى لو صاحبه عمره فالكل له وقت ويمضى !

الحياة كما القطار تعلم جيدا ان كل من يسكنها له وقت محدد يقضيه وبعده يمضى حتى هى نفسها تعلم أنها لا محالة راحلة فسبحان من يبقى حين يفنى كل شئ !



الخميس، 3 فبراير 2022

حكايا صغيرة

 

يا صغيرتى .. ابتسمى ، اليوم سأحكى لك حكاية جديدة من تلك الحكايات التى أنسج خيوطها أثناء حديثنا ، أخبرك سرا عنى ، أنا رغم قولك أننى أجيد الكتابة لكنى حكاء سيئا جدا ، لا اجيد سرد الحكايات ، أترك القلم فقط يمارس شغفه ، لذا تجديننى دوما أفضل الكتابة ، أبحث عنها وأسعى إليها ، أتهرب من حديث أو اتصال هاتفى وأستعيض عنه برسائل قد تملأ جنبات الكتب فلا تترك فيها فراغا ولا حواشى ، أحاول أن أصيغ لك الحكايات ، أقفز من فوق الأسوار المرتفعة والمبانى الشاهقة ، أعبر المحيط فى لمح البصر وأقطع الصحراء كأننى الضوء ، أقذف الألم بسهام تنغمس فى قلبه ، افتش عما يزعجك وأحيك حول عنقه خيوطى حتى إذا قويت واشتد عضدها وأصبحت وثاقا غليظا مغلظا قيدتها فى جناح طائرة وتركت لقبطانها العنان كى يلهو ، يتساقطون كذباب حاصرته المبيدات وقضت على ما تبقى من أنفاسه طائرات الرش .

أعلم أنك لا تعرفين شيئا عن طائرات الرش كما لم تكون تعرفين شيئا عن أشجار الجميز ، ماذا لو أخبرتك عن الصمغ الذى كنت أستخرجه من أشجار السنط ، أخدش جذوعها حتى ينفرج لى داخلها فأجمع منها الصمغ فى كيس بلاستيكى ، أشعل عليه النار قليلا ثم أستخدمه فى لصق مقتنياتى وأوراقى ، أو أصنع طائرات ورقية أو مراكب صغيرة وأجعل فى جوانبها أشرعة كبيرة وأنثر على جانبيها المجاديف ، كنت عندما لا أجد الصمغ أستعين بعجين من نشا أستخدمه لأداء نفس الغرض .

الجميز حلو المذاق ، ثمرة تنمو بتجمعات على شجرة ضخمة الجذوع سهلة الطلوع ، كنا صبيانا نصعدها ونجلس فوق جذوعها ونلتهم من ثمارها ، نفتح الثمار ونتأكد من خلو داخلها من الحشرات والديدان ونسمى الله ونأكل ...

كذلك أيضا أشجار التوت إلا أننى كنت إذا تناولت التوت ذو اللون الأحمر الغامق او الأسود تورمت عيناى ، شجرة الكولونيا أيضا كنت أحبها جدا ، طعم ثمارها رائع ، كان من حسن الطالع أن هذه الشجرة هى شجرة واحدة فى كل القرية وهى عند أخوالى وبالتالى كنت أحظى بإلتهام البعض منها ، ربما يكون لها اسم أخر لكنا كنا نسميها كذلك ، هكذا سمعت منهم .

كان عندى أخوالى أشجار نخيل يتساقط من تمرها الشهد ، شجرة المانجو العتيقة قبل أن تقطع ووتخلع جذورها وتزال معها الصفة القديمة ويحل محلهم بيت خالتى .

أشجار التين الشوكى الذى كان مستقرا خلف حائط جدتى ، كنت أخشى الاقتراب منه كى لا يصيبنى شوكها أو يكون هناك ثعبانا متخفيا خلف أغصانها الكثيفة ، كان خالى يقطع لى حبات ألتهمها بحب .

كانت أغصان العنب وفروعه تتمدد حول أركان الحظيرة وفوق سقفها ، لازالت أثار تكعيبة العنب هذه محفورة فى رأسى ، أتشبث بالقائم الخشبى وأصعد عليه أحمل فى يدى فأسا صغيرة وفجأة تفلت من يدى وتنغرس فى رأسى فينزل الدم خطا غليظا فوق عينى فيغرق وجهى ، تكتم الخالة الدماء بمسحوق البن والتراب الأحمر ، يربطون رأسى برباط من القماش الأبيض فتبزغ الدماء منه ، كان كل ما يشغلنى ماذا سيفعل بى عندما يرانى وقد شقت رأسى ... لكن الله سلم .

نسيت أن أحدثك عن طائرة الرش .... ربما مرة أخرى ..... أرى ابتسامتك تتلألأ أمامى الأن فاحفظيها .