الخميس، 17 فبراير 2022

زحمة

 

أجلس على المحطة ، كراسى خشبية قديمة ، تحدث صوتا عندما تجلس عليها أو تأتى بأى حركة ، أنتظر الوقت يمضى ، أتأمل الرصيف المتكسر ، الدهانات التى أصابها العطب ، نشع الجدران ، الطحالب الخضراء تحوم أسفل مواسير الصرف ، الناس تغدو وتروح ، أصوات مرتفعة وأخرى هامسة وثالثة أصابها الصمت .

ضحكات صاخبة ودموع تشق فى الخدود مجراها ، السفر حكايات وكل يحمل حكاياته مع أمتعته ، وجوه شاحبة وأخرى راضية ، وجوه قلقة وغيرها مطمئنة ، أطفال وشباب وشيوخ ، ذكور وإناث ، على رصيف المحطة يختلط الجميع ، تختفى الأعراق والأنساب ، ويتزاحم الجميع ليدرك مقعدا فى القطار أو مكانا جيدا للوقوف .

الصفحات كما الوجوه تخفى تحت ثناياها الكثير ، يتراكم عليها الغبار كما تتراكم التجاعيد على الوجوه ، لها رائحة حارة كلهيب أنفاس البشر ، تتكلم مختنقة وتسترسل فرحة راقصة .

" كان علىٌ أن ألعب بالكل حتى يربح الكل وهو حل لم يكن مريحا إضافة إلى كونه خطرا لكنى لا أملك غيره ..." مذكرات الرئيس الأمريكى كارتر .

ترتفع الصافرات تعلن عن قدوم قطار للمحطة فيتدافع المسافرون وتنتشر الفوضى بين قادم ومغادر ومن ينزل ومن يصعد ومن تغلبه أمتعته ومن يقتنص الفرصة ليتحرش ويشبع غرائزه .

أكشاك البيع احتلت المحطة ، عصائر ، مياه غازية ومعدنية ، مقرمشات وسجائر ، وجبات سريعة ، كروت شحن ، مقاعد مصطفة يجلس عليها منتظرى القطارات تقدم إليهم طلباتهم ويشاهدون الأفلام ، نسوة يصفون أقفاصا سجنت بداخلها الدواجن والبط والأوز ، أوعية تنفجر منها روائح المش والجبنة القديمة ، أرغفة من الخبز المحمص ، أوعية مملوءة بالبيض مدسوس وسط كميات من الأرز كى لا يتكسر .

النظرات تلمع فى العيون البسيطة يغلفها الرضا ويحدها العشم فى أن يوسع الله الرزق ويرسل ما يسد فم العيال فالحاجة يا ولدى قاسية كقسوة تلك الأيام .

علاوة اضافية لجميع العاملين من أول يناير .... زيادة المعاشات بنسبة 10فى المئة .

كان ذلك هو العنوان الذى تصدر صحف صباح الاثنين السابع عشر من يناير لعام 1977 ، وفى مساء ذات اليوم اتخذت مجموعة من القرارات الاقتصادية ترتب عليها أن زادت اسعار الخبز والأرز والسكر والشاى واللحوم والبنزين والبوتاجاز والدقيق والذرة والحلاوة والفاصوليا والمنسوجات والملابس .

تلك البطون تتم طعامها بالرضا ، الحب يغمرهم والدفء يسرى فى عروقهم ، فقراء معدومين تكاد لا تغطى ملابسهم أجسامهم ولا تسد الأطعمة جوعهم رغم ان رغيف الخبز يسعدهم حتى وإن خلا مما يبدل طعمه لكن الحمد لا يفارق شفاههم وأن تنام قرير العين لا تحمل حقدا لأحد هو أكثر ما يغنيهم ، يا بنى الغنى يخشى النوم ، يعيش فى قلق وتوتر واضطراب ، يخاف أن يحدث ما يقلل من أرباحه وأن تخفق مشروعاته لكننا الحمد لله ننام بملئ أعيننا وهذا يكفينا ولا نسأل الله سوى الكفاف والستر .

نرى القطار قادما من بعيد تسبقه صافراته فينتفض الجميع ويبلعنا كلنا فى جوفه وينطلق فارا من المحطة غير مباليا بأولئك الذين نزلوا منه وغادروه فلم ينزف دمعة من أجلهم ولا يبالى بالذين ابتلعهم فى داخله فمثلهم مثل من سبقهم سيبقون معه وقتا محددا ثم يغادرونه ، هكذا علمته الدنيا ألا يجعل أحدا يمتلك قلبه حتى لو صاحبه عمره فالكل له وقت ويمضى !

الحياة كما القطار تعلم جيدا ان كل من يسكنها له وقت محدد يقضيه وبعده يمضى حتى هى نفسها تعلم أنها لا محالة راحلة فسبحان من يبقى حين يفنى كل شئ !



1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

لا تبالغ فى حب أحد الحياة كما القطار كل له وقت محدد ويمضى ...أوجزت فأصبت كبد الحقيقه شكرا لكلماتك التى لم تعجز قط فى تسكين ما بنا من ألم