السبت، 20 أغسطس 2022

وأشرقت الشمس من جديد

 

أدور عائدا إلى الخلف ، قلق يراود قلبى وكأن شيئا سيحدث ، لم تنتهى الكلمة من خاطرى حتى شاهدت إطار سيارة غادرها يجرى مسرعا نحوى ، تنحيث جانبا متحاشيا اصطدامه بى ، وجدت السيارة تعقبه مترنحة يمينا وشمالا يحاول قائدها التحكم لكن السرعة التى كان يسير بها منعته من القدرة على التحكم الجيد ، سيارة أخرى مسرعة لم ينتبه قائدها للسيارة منزوعة الاطار فحاول تفاديها يمينا عندما فوجئ بها لكن المقطورة التى كانت تخلفه اصطدمت به وانقلب الجميع فعلت النيران .

الصدمة جعلتنى أصاب بالهلع ، لم تتحملنى قدماى ، جلست على حافة الطريق محاولا إلتقاط أنفاسى ، يفزعنى فوج من الناس يجرون قادمين ، ما ويح هذا اليوم ؟ ، أفاجئ بينهم صغيراى وابن عمهم فى زمرة الفارين ، أجذب بأيدى أولادى وابن عمهم وإلتقطهم من وسط الفارين ، أتنحى بهم إلى طريق جانبى ، يجرى صغيرى فأدفع بالأخرين نحو صاحب لى لم أعرف كيف جاء بجوارى فى هذا الوقت وأجرى نحو الذى فر أمسك بيده وأعود به وأصحب الجميع شاقا غابة من الأشجار السوامق ، دقات القلب كأنها مطارق ..... أستيقظ على صوت الهاتف .

لا أعلم سبب ما رأيت فى نومى ، ألهذا علاقة بإصابة أحد الصبيه فى عينه أثناء لعبه مؤخرا ، أم لهذا علاقة بما انشغلت بقرائته مؤخرا " وأشرقت الشمس من جديد " الكتاب الذى يروى حياة السجين الأمريكى الأشهر والذى قضى ما يزيد عن الثلاثين عاما فى طابور الاعدام فى جرائم لم يرتكبها " انتونى راى هينتون " ، وظل يقاتل ويقاتل ولم يفقد الأمل وحافظ على صموده منذ ألقى فى السجن عام 1985 وحتى تم تبرئته عام 2015 فى رحلة قضى فيها فى طابور الاعدام بالسجن أكثر من الوقت الذى قضاه خارجا ، ماتت أمه فى انتظار عودته إلى البيت ، وأعدم من زملائه أربعا وخمسينا سجينا ، الله وحده يعلم كم منهم كان بريئا ، ذنبه الوحيد أنه كان أسودا فقيرا لا يملك سلطة ولا مال فى مجتمع أبيض عنصرى يعامل الناس على حسب ألوانهم وقدر أموالهم وحجم نفوذهم ، آمنت به أمه حتى عاجلتها الوفاة وبقى بجانبه صديق طفولته " ليستر " حتى نال براءته وقاتل معه ولما يزيد عن خمسة عشر عاما محاميه " برايان ستيفنسون " بعد أن ضاعت قبلها مثلها من الأعوام مع أناس خطأ .

من فتى يملك أحلاما بسيطة ، أمه هى كل حياته وغاية حلمه أن يقتنى سيارة يطوف بها البلاد برفقة من يحب ، ليس انسانا بلا أخطاء ولكنه انسان كغيره أخطأ وحوسب ولكنه فى هذه المرة يعاقب عن جرائم لم يرتكبها وأفعال لم يأتها ولم يعرف أصحابها سوى مما كتب عن تلك الجرائم فى الجرائد لكنك فى حياتك تصطدم بأناس كل همهم اثبات أنك مخطئ وأنك لابد أن تعاقب وأنه بسبب لونك لو لم تكن أنت فاعلها فأحدهم له نفس لون جلدك وسمات فقرك عملها فأنت وهو سيان ولا فرق أن تنال العقاب بدلا من أخيك ، البعض يخشى الاعتذار ويقضى عمره يتهرب من أخطائه ولا يعترف أبدا من أجلها بل ويقاتل ليثبت أنه كان على صواب ويدفع كل ما يمتلك من أجل ذلك حتى لو كان نتيجة ذلك اعدام أحدهم أو على الاقل سرقة سنوات شبابه .

ثلاثون عاما قضاها فى طابور الاعدام فى انتظار دوره ،  متى سيجر بعد منتصف الليل ويجلس على الكرسى الكهربائى ويغطى رأسه بكيس بلاستيكى أسود ويطلقون كهرباء بقدرة 2000 فولت فى جسده حتى يشم السجناء الأخرون رائحة شواء لحمه .

أينما وقع نظرك فى أى مكان على خارطة العالم لوجدت كما مهولا من المظلومين ومن المفترى عليهم والمسجونين قهرا والذين يتجرعون المعاناة ليل نهار ، لذة البعض فى مشاهدة معاناة الأخرين ودموعهم ودمائهم ، ينتشون عندما يرون هؤلاء يصرخون وجعا ، العالم ليس مكانا آمنا للحياة ، لم يجعله الناس أرضا صالحة للحياة ولكن لتجرع شهواتهم وملذاتهم ... رغم انهم ما خُلقوا لذلك ولكن غلبتهم أنفسهم فظنوا أن بإمكانهم التحكم فى مصائر الجميع وعليهم الانصياع لأمرهم أو ... ليس هناك خيار أن تقول نعم أو تموت .

ربما من شدة اندماجى فى القراءة وكأنى أعيشها مع صاحبها أجاوره فى غرفته وأتناول معه الافطار فى الثالثة فجرا والغداء فى العاشرة صباحا والعشاء فى الثانية ظهرا ونضع سويا ملابسنا تحت وسادتنا وننزع ألبستنا ونقف عرايا مفرقين بين أقدامنا للجان التفتيش ونبكى الليل ونشتم شواء لحوم زملائنا ، ربما سبب ذلك خوفى على صغارى من حياة لا ترحم ومصير غير معلوم وأم ما أسهل أن تنبذ أبناءها فى سبيل الحصول على جنيه واحد ! .



السبت، 2 يوليو 2022

بالحبر الأزرق

 

بالحبر الأزرق – م هشام الخشن

صدرت عن الدار المصرية اللبنانية

يأخذنا فى رحلة إلى العصور الخديوية وينزل بنا فى قصر الأمير مصطفى بهجت فاضل ونصحب ابنته الكبرى الأميرة نازلى ، تقودنا فى هذه الرحلة الممتعة " ليديا ستون " المربية البريطانية التى سردت لنا التفاصيل فبها ابتدأت الحكاية ومعها استمرت وبرحيلها انتهت .

تنقلب الدنيا فى لحظة وبعد رغد من العيش تصير بين ليلة وضحاها لا تملك ما يعيلها فتبحث عن أى عمل تقتات منه ، تلتحق بالعمل بضيعة أحد الأثرياء وهناك تفتن بابنهم ، تسحبها اللذة حتى تحمل منه فى أحشائها وعندما تصل إلى هذه المرحلة تبدو كل الأمور على حقيقتها ، تفر هاربة وكل خلفت وراءها قطعة منها ...

تنقلها الحياة بعيدا فتجد نفسها فى وسط لم تتخيله ومنوط بها دورا لم تحلم به حتى الوطن صار له معنى أخر ومكانا أخر ...

عبر سلسلة من الرسائل التى ترسلها " ليديا ستون " الى " هنرى " لن تعرف كنته إلا بعد انتصاف الأحداث ولن تعرف مصيره إلا عند اقتراب نهايتها ، رسائل لم يقدر لمن ارسلت إليه أن يقرأها ولكنها سلمت لأخر تتبعها وفك خفاياها فى اطار عمله المكلف للقيام به .

سفر عبر المدن ، الزمن ، الأحداث والأشخاص ، ينقل لنا شيئا من خفايا القصر وكيف يتجسس أولئك الذين بالخارج عن كل شئ بالداخل وكيف يختارون الذين يجندونهم للقيام بتلك المهام ، ستصطدم بشئ من التاريخ العثمانى وشئ عن معركة أم درمان بالسودان ، ستلتقى عرابى ، سعد زغلول ، محمد فريد ومحمد عبده ، ستتجول فى لندن وباريس والقسطنطينية ومصر ...

ستعرف كثيرا من الخبايا وستنهار أمامك جدران مما خفى عنك ، سيحيرك فعل الهوى بمدمنيه وستعلم الفرق بين أن تعشق ابن لورد وأن تعشق عبدا سودانيا ....

صفحات سطرت ببراعة ولغة سهلة شيقة وأسلوب أسر وحبكة أجيد ربط خيوطها .....



صنايعية مصر " الكتاب الثانى "

 

تمنيت عندما انتهيت من قراءة كتاب صنايعية مصر فى جزئه الأول أن يصدر عنه جزء ثانى والآن أتمنى أن يواصل الرائع عمر طاهر هذا العمل الموسوعى بأسلوبه السلس واختياراته الموفقة وإننى أدعى أنه لو لم يكتب غير ذلك العمل لكفاه أن يُخلد به اسمه مثلما فعل هو بكل من سجل شيئا من سيرهم فى هذا الكتاب بجزئيه وما قد تتوالى من أجزاء أخرى ، تعب وجد واجتهد وتحمل مشقة كبيرة فى سبيل إخراج هذا العمل فى هذا الثوب الرائع ، تكاد الصفحات تقطر عرقا وتشى إليك حروفها بما تحمله كاتبها من مشقة فما بالك بسيرة أولئك الذين تحكيهم ورغم قلة المصادر والمعلومات التى تثنى له الوصول إليها إلا أنه تمكن بتوفيق من الله أولا ثم جده واجتهاده وإخلاصه لعمله وإيمانه بمشروعه ومعرفته بقيمة هذا العمل أن يخرجه فى هذا الثوب المبهج .

كتاب زاخر بالمعلومات ، ثرى بالحقائق ، ينقل لنا بسرد ماتع وأسلوب سهل شيق موضوعات منتقاة بعناية وزعت فى الكتاب الثانى بين ثلاثة عشر فصلا تساقطت من عينى العبرات فى ختامها وحصار " 101 يوم " لمدينة السويس وكفاح وفدائية أبطالها نساء ورجالا وأطفالا ...

كل حلم ممكن مادام لديك الإيمان بقدرتك على تحقيقه ، سير الذين خلدهم الكتاب خير دليل على ذلك فربما بعضهم تعرض لظلم من أولئك الذين كادوا لهم سوءا بدافع الغيرة أو الحقد أو الكبر وكل أمراض النفوس البشرية ولكن قطعا لن يُذهب الله أعمالهم وسعيهم سدىً ..

تبدأ الحكاية مع قصة رجل أهملته كتب التاريخ "صنايعى التكييف ومبردات كولدير" ، ومرورا بأول من أدخل الأفلام الهندية الى مصر ثم التأميم وما ترتب عليه وكل فصل أتبعه بصور خاصة للأشخاص أو الأحداث التى وردت به أو بعضا مما كتب أو نشر عنها .

لا أريد أن أفسد عليك قرائتك لكن ما يدور بذهنك ستجده وما لم يرد بخلدك أيضا ستجده ، أول من أدخل الكوتشى ومنتجات شركة البلاستيك الأهلية ، ورنيش الكرة وصنايعية الجوارب والفانلات ، الشيبسى والوجبات الشعبية وحتى المناديل الورقية ، السيارات والأدوية ، المقاولات والانشاءات ، الاذاعة ونجاحاتها ، القرأن الكريم ، المسلسلات والبرامج الدينية ، محو الأمية ، البرامج الصحية وحتى الطهى لم يغب عن الكتاب .

بعض من سير أولئك الذين ساهموا فى صناعة هذا الوطن وتسطير صفحاته حتى خرجت علينا داليدا " حلوة يا بلدى "

فى انتظار الجزء الثالث فقطعا هناك الكثير لم يكتب بعد ! .



الأربعاء، 29 يونيو 2022

موسيقى الصبح

 

الساعة تقترب من الخامسة صباحا ، الشمس تصعد إلى السماء رويدا رويدا ، تنثر حولها الضى ، تخضب لون السماء ، النسمات تروح وتجيئ تداعب الوجوه وأغصان الأشجار وأوراق الزروع ، الطيور تنفض أجنحتها تلقى من على كاهلها أثار الليل .

السائقون يرفعون أغطية السيارات التى غلبها النوم ، البيوت هادئة لم يطغى عليها صوت الأطفال بعد ، بعض النسوة يكنسن أمام الدور ، رجال ونساء وصبية أمام فرن العيش الجميع يزاحم كى يحصل على الحصة المقررة لأسرته بعد أن أصبح العيش يصرف بعدد أفراد الأسرة المدرجين على البطاقات التموينية ، يصفون أرغفة الخبز على أى مكان خالى أمامهم ، يتركونه ليبرد وتخمد حرارته حتى لا يتعجن فى أوانيهم أو حقائبهم ، وفى البر الأخر يقف صهريج المياه شامخا يضخ مياه الشرب لعدة قرى وبلدان مجاورة ،  يسير ممتطيا حماره جارا خلفه بهائمه وإحداهن تفرغ بطنها على حافة المصرف الذى يمتد يمينا مع الطريق .

يزيح باب الكشك فيحدث أزيزا ثم يخرج كراتين الشيبسى والمقرمشات ، يقابله فى الجهة الأخرى عربة الفول يقف خلفها شابان يجهزون وجبات الافطار السريعة ، مناضد صغيرة لتناول الافطار على عجل تظلهم شجرة جميز ضخمة ، ترقبهم السيارات المنتظرة لنقل المسافرين إلى أعمالهم والطلاب الى مدارسهم وكلياتهم وصوت القرأن يعلو من مسجلها !.

تزداد السماء بياضا ، يشتد توهجها ولمعانها ، يمينا على ذلك البر ومنذ عقود يقام سوق فى نفس الموعد المعتاد كل أسبوع ، يرتاده تجار الخضر والفاكهة وكل السلع المستهلكة من كل القرى والبلدان المجاورة ، يبيتون ليلتهم هنا يصفون بضاعتهم وكل منهم يختار المكان الذى يناسبه مقابل مبلغ نقدى يعطى لملاك هذه الأرض وتحصل منهم الوحدة المحلية مبلغا مقابل ذلك ، ومع بزوغ الفجر يقدم المشترون من الأنحاء المجاورة وقطعا النسوة أكثر فهن القائمات على حاجات البيوت الأسبوعية ، يبتاعون الخضر والفاكهة والبقول ومنتجات الألبان والأحذية والأنية والأوعية التى يجدون منازلهم فى حاجة إليها ، الملابس للأغراض المنزلية ، سيارات ربع نقل تنقل الجميع يتكدسون فوق بعضهم ويعودون إلى بيوتهم يحملن الطسوت والحقائب التى امتلأت بمشترواتهم ..

تترنح السيارة صعودا وهبوطا مع الطريق الذى تغافلت عن رصفه أنظار المسئولين منذ زمن وربما مع كل مشوار على هذا الطريق تحتاج عفشة السيارة لإعادة صيانة وفى بعض الأحيان تجديد ، قديما كانت العربات التابعة للمحافظة هى وسيلة المواصلات الرئيسية هنا قبل أن يختفى المشروع تماما وتحل محلها سيارات الأهالى ، اقتناها أولا أولئك الذين قضوا بعضا من أعمارهم فى الخليج ثم تبعهم أولئك الذين تخلوا عن جزء من أرضهم وميراثهم ثم ابتكر أصحاب المال فكرة يقومون بشراء تلك السيارات للراغبين بعد أن يعقدوا اتفاقا على ذلك يقضى بأن يردوا إليهم ثمنها مضاعفا على أقساط دورية مقابل ايصالات أمانه توقع من المنتفعين .

الزمان يدور وتتوالى الأيام والسنون ، الانشاءات تتبدل والمعالم تتغير وما كان خرابا أصبح بناءات مكتظة وبعض البنايات صارت خرابا تسكنها الكلاب الضالة ومدمنى المواد المخدرة وفاقدى العقل ، حتى بعض الورش التى كانت مكتظة بالصبية أغلقت أبوابها ، البعض قضى نحبه والبعض غادر والبعض بدل مهنته والأيام تمضى .

تسقط الشمس على رؤوس الحقول ، تداعب وجوه الأنعام وأعين المزارعين ، تتدفق المياه من أفواه ماكينات الرى تجرى فى الأخاديد الصغيرة ، تملأ الشقوق وتغمر المساحات العطشى وتغسل الأرض مما إلتصق بها .

الزروع تبتهج ، تتراقص فرحا ، تسمع موسيقى تناغمها وضحكاتها ، ترى ابتسامتها واضحة جلية ، يفوح منها عطر طيب ،  تلمع ، تتزين كأنها عروس ليلة عرسها .!

السبت، 18 يونيو 2022

غياب

 

الأمس كان ثقيلا جدا ، حايلته كى يمر ، حتى أن الشمس كانت باردة أيضا ، انتظرت دفئها كثيرا كثيرا حتى غربت ولم يأتى ، جلست أنتظره عسى أن يأتى ليلا لكنه ما أتى واشتد البرد وتجبر ، حتى أن القمر اختبئ خلف كهف وتوارى عن الأعين ، الساعة وحدها ظلت تحاول الحكى ، تقص على مسامعى ما جرى وما كان ، تكلمنى عن أشياء وأشياء ، لا أذكر منها حرفا واحدا ، كانت تتحدث بينما أنا شارد الذهن ، ذاهل الخاطر ، أخطو جيئة وذهابا ، أقطع المكان ، عداد الخطوات على هاتفى تتحول أرقامه وتكثر ، الخطوات المستهدفة كذا ....

أخطو نحو الشرفة ، أقلب وجهى فى السماء ، غيوم وسحب ، فضاء متسع ، أزيل غبارا اعتلى مقعدى ، أصف الأوراق وأرتبها ، أجيب على بعض الاستفسارات ، أتنقل بين عدد من المنصات الإلكترونية ، أرجئ بعض المواعيد فليست لدى رغبة فى إجراء أى مقابلات اليوم ، أجيب البعض بغلظة أكرهها ، اتغافل عن مواقف تحدث ، أستطلع أخبارك وأطمئن على حالك ..

كل هذا الضجيج أخفاه الصمت ، الصمت مهاب ، قناع الضعفاء وسمت الأتقياء وحديث الأعين ، يغطى كل ما حولى فلا اسمع إلا همسا أو ما يشبهه ، تطالعنى العيون وأنظر إليها بمشاعر صلدة لا تعبر عن شئ وكأنى لا أفقه أو أعى ما يدور حولى .

الحنين يهد الجبال

والوجع فوق الاحتمال

أعود من الخارج ، اضع المفاتيح فوق المكتب بجوار حافظة نقودى ونظارتى وساعة يدى ، أخلع حزائى ، أخطو إلى الداخل ، يلقى الأطفال حقائبهم ويجرون نحو حاسوبهم ، تنقطع الكهرباء فجأة ، نضئ مصابيح الهواتف ، أخرج إلى الشرفة ، الجيران أكثرهم فعل مثلى ، البيت المجاور خرجت نساؤه جلسن يتسامرن أمام زاوية صغيرة ويلعب الأطفال أمامهن يعلو صوتهم ، أرى وكأنى لا أرى ، الظلام يمنح الدنيا هيبة غريبة ، يشير صغيرى إلى نجوم تلمع فى الأفق ، ضوء يبزغ من الشارع يمينا ، تنبه النسوة الأولاد فربما سيارة مقبلة ، ينظر الأولاد للقادم ، يقولون أنه فقط شخص يضئ هاتفه ليشق له الظلم .

أحاديث النساء لا تنتهى ولا تمنعها حواجز ، تستمر وتتواصل ولا تترك مساما إلا وتقتحمه ، تفاصل اليوم وتفاصيل الوقت وحتى أحداث النوم وابتسامات لا تخلو من مكر ووجه قد فارقه الخجل بعد الليلة الأولى .

أسمع وكأنى ما سمعت شيئا ، يسحب القمر السحب ، يجذبها نحوه ، لكنها لا تقف عنده تتخطاه وتواصل سيرها فيقف متصلبا يقطر منه الدمع ورغم ذلك يكشف لها الطرق ، يظل مسلطا نظره عليها ولا تأبه له ، تفارقه وتبتعد ويظل يرقبها حتى تتوارى خلف الحجب .

هجرة

 

قمت فى الليل تؤرقنى معدتى وبعض أثار البرد تزحف على جسدى ، أشد الأغطية جيدا وأسد المسام التى ينفذ منها البرد لكن مساما أخرى لم أستطع معها سبيلا ، هاجمتنى منها الخواطر فكأنى أحلق مع سرب من الطيور مهاجرا أذر خلفى كل تلك الأشياء التى تكدر وقتى ، أوزا ذا أقدام وردية يقطع مسافة من أيسلندا متجها إلى بريطانيا ، اوزا أسودا يسافر من تايميار الى بحر ودان مارا بساحلى البحر الابيض وبحر البلطيق .

كأنى أسبح مع أفواج الأسماك التى تدع موطنها وتفر بحثا عن مستقبلها وسعيا نحو عالم تأمله آمنا على أبنائها من بعدها ، لا تحتاج الى أوراق وأختام وشهادات وطوابير طويلة وساعات انتظار وطرق وتدافع أمام أبواب المصالح الحكومية ولكنه مجرد اتفاق مع الأصحاب والعائلة وعنده تبدأ الرحلة .

تهاجر لأنك تحملت الكثير من الأذى ولم تعد تمتلك الطاقة اللازمة للمقاومة ، الذى يأتى من كل مكان ، حيثما وجهت نظرك وجدت سهما موجها نحوك ، جيش كامل مهمته حصارك ، ذنبك هو طموحك ، أنك تحارب كى تنجح ، أنك لم تلتفت لهم ولم تدع لهم مجالا يثنوك فيه عن الطريق الذى اخترته ، البعض يدعى أنه يدعمك ، يسخر كل طاقاته لخدمتك ، يعجبك فيه طموحك وعنفوان شبابك ، يرى فيك الاجتهاد والعزيمة والاصرار للبلوغ ثم تكتشف أنه يفعل كل ذلك من أجل حاجة فى نفسه ، البعض يريدك طوع أمره ، كدمية فى كف يده ، يتلاعب بك بأصابعه كيفما راق له ، البعض يتقرب إليك طمعا فى حاجة عندك ، علها تفوتك وتقع فى يده ، البعض يستكثر عليك ما حصلته وما وصلت إليه ، يرى أنه أحق منك بذلك .

السماء رمادية اشتدت عتمتها ، مريبة كأنها فضاء لا ينتهى ، عميقة كمحيط تكتلت ظلمه من تدافع امواجه ، خائف أفر بنفسى إلى أبعد مكان خارج حدود ذاتى ، تحيطنى مخاوفى ، تصيبنى نوبات الهلع وتهلك القشعريرة بدنى ، لا اعلم جنايتى ولا ما اقترفته حتى يحصل معى كل ما يجرى .

الصدر ضيق كأنى سقطت فى فخ صنعه صياد ماهر ليوقع به فريسته وما كان يخطر  بباله أن فريسته ستكون انا او انه أعد الفخ لى وأنا من فرط طيبتى لم أكن أعلم ذلك وخطوت نحوه برغبتى وظننت أن فى سلوك طريقه نجاتى ثم وجدته مآساتى .

حتى الالم لا يأتى سهلا ، مقدماته أشد منه قسوة ووجعا ، الدموع تسقط حارة كأنها اللهب ، تخطو على الوجه فتشق فيه أخاديد ، القلب ما عاد يقوى على التحمل كأن لهوهم غرس خناجرهم فيه حتى كلماتهم قاسية كصحراء تنزروفت .

أستعين بالبكاء على نفسى فإذا البكاء نفسه ألم ويزيد فى وجعى ويقتل خلايا رأسى ويوم يرأف بى يجعلها خاملة كسولة .

متعب أنا حد ثقل تلك الكلمة فى كتابتها وقولها ، متعب أنا كأول ليلة فى سجون كارانديرو ، كبحار خائف ضلت سفينته طريقها فى ليل موحش ، كصبى فقد لتوه والديه ، كمحارب لأول مرة يطرق قلبه الخوف .

السبت، 11 يونيو 2022

بيع نفس بشرية

 أربع قصص ليست بالقصيرة نشرت مجمعة عن دار الكرمة ابان معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته المنعقدة فى مطلع هذا العام 2022 للروائى الطبيب / محمد المنسى قنديل .

لا أعلم أيهما يحب الأخر أكثر " القلم أم المنسى قنديل " ، القلم معه ينصاع تماما ، يسطر كل ما يحلو له وما يجول بخاطره ، يمارس شغفه ، تنسال الكلمات سهلة عذبة كحبات الندى ، السرد مفعم بالجمال ، الألم تعيشه وتعايشه ، المشقة ، التعب ، الخوف ، الاضطراب .

 تهجر بلدك سعيا خلف لقمة عيش تطمس بها فقرك وتسد بها جوعك وجوع التركة التى خلفها لك أبواك ، فتأبى المشقة إلا أن تطاردك هناك حتى ولو كنت تعيش فى غرفة فى بيت تسكنه الفئران وتغرقه الظلمة ، تطرق المشاق بابك وتأتيك حتى قدميك ، تلهث وصوت دقات قلبها أعلى من صوت أنفاسها ، أطفئ المصابيح كى لا يعلمون مكانى ، الفطرة الانسانية هى التى تغلب ، تغلبك شجاعتك ثم يهزم ضعفك شجاعتك ثم تعيش فى صراع بينهما ثم تجد نفسك محاصرا فى كهف لا مخرج منه وليس أبخس من ثمن النفوس  .

تظل حتى نهايات عمرك محافظا على ذات الأسلوب الذى اعتدته ، ما تعملته من رؤسائك تفعله ذاته مع مرؤسيك ، ولأول مرة تخرج فى اجازة للسياحة بعد أن انهيت خدمتك وحصلت مكافأة التقاعد كاملة لا ينقصها مليم ، تصحب زوجتك وابنك ، وكعادة الدنيا هذا يتمرد على ذاك ولا أحد يعجبه حاله ، زوجتك  يغلبها حزنها وابنك يبدو عليه غضبه وأنت تحاول أنت تتخطى كل ذلك ، لكن الرحلة لا تحقق لك ما خرجت إليها من أجله ، تهرب أساسا من العذاب والموت والخوف فتجده ينتظرك على الجانب الأخر بكل قباحته ووقاحته ولا يدعك إلا بعد أن يفتك بما تبقى من بهجتك بل ويسجنك معه وفقدت وداعتك وسقطت فى براثن رعبه .

الفقر يعلم أهله ، ملامحهم جلية ، مهما حاولوا منه فكاكا تغلب عليهم وأعادهم إلى حيث أراد ، السمات البشرية غالبة وكل يسلط ديكتاتوريته على من هم دونه وكل يطبق ذلك فى نطاقه ومكانته ، المعدات تتعطل فيتحمل ذلك الضعفاء وتستسلم لشهوتك فتحمل عبء كل ذلك وحدك وتنادى بحق فقير فتموت وحدك  لا تجد من يدفع عنك عصا ، اتجاه واحد للشمس هو ذاته اتجاه الحياة منذ بدء الخلق وحتى منتهاه ، سيرة ومسيرة وسنة كونية لا تتبدل ، وكل يحمل منها قدره ...

أيام المصريين جافة تكاد تتطابق عند كل فئة ، هى ذات المعاناة ونفس الألم ، تبتسم لك حتى تظن أنك ملكتها وأنك ودعت كل وجع فتباغتك وتسرق منك كل تلك البهجة فتعيش تنتظر وتنتظر ، يمر الصبح وقد ملأك بالأمل ويأتى الظهر وتتمنى مروه حتى تهب نسمات العصارى ، فتتأخر وتتأخر حتى تغيب الشمس ويأتى الليل يوارى حلمك .



السبت، 12 مارس 2022

ثلاثة كتب

 

ثلاثة أعمال أدبية انتهيت مؤخرا من قرائتها لثلاثة كتاب من أجيال مختلفة ، وكل عمل منها مميز ومختلف ويدور فى إطار مستقل ويناقش من الحياة جوانبا مختلفة وسريعا أنتقل إليها

أحلام فترة النقاهة – لأديب نوبل – نجيب محفوظ

سلسلة من الأحلام القصيرة ، كتبت بلغة بديعة وتورية بليغة واسقاطات رائعة وكلمات مختصرة وملخصة تخفى فى طيها الكثير مما قصده الكاتب وأكتفى بالاشارة إليه تلميحا فيما جاوز مائتين حلم .....

فى كل أسبوع ... يوم جمعة – الأستاذ ابراهيم عبدالمجيد

منصة إلكترونية أطلقتها وتديرها فتاة ، تستغل وقتها بشكل مغاير ، وضعت شرطا لقبول الانضمام للمنصة أن يكون قبول الطلبات يوم الجمعه فقط من كل أسبوع وأن يقتصر الانضمام على المصريين فقط  ، وتدور الأحداث فى شكل اجتماعى ، فينضم إليها أشخاص ذو ثقافات مختلفة وكل منهم يحمل حكايته على كاهله ، تدور الأحداث وجريمة تصاحبها ثم تتاقص أعداد المنضمين تدريجيا

أم ميمى – الاستاذ بلال فضل

فتى فى مقتبل عمره أنهى لتوه دراسته الثانوية وحصل على مجموع مرتفع يؤهله ليلتحق بكلية من كليات القمة ، يرغب والده فى إلحاقه بدراسة الطب او الهندسة ويرغب هو بدراسة السينما ثم بمساعدة والدته يتوصل إلى حل وسط فيدرس الاعلام ، وكعادة هذه الفترة فى عمر الشباب يرغب الفتيان فى التمرد على أسرهم ، هو من الاسكندرية والكلية بالقاهرة ولم يدرك مكانا بسكن الطلبة فى المدن الجامعية فيبحث عن مكان لسكناه ويتخلى والده عنه غضبا عليه ويترأف به قلب أمه فتحاول مساعدته قدر الاستطاعة وبعد محاولات عدة تجد له سكنا بصحبة فتيان صالحين وما لبثوا أن وضعوا له حقائبه امام الشقة عندما أكتشفوا مزاحمته على شباك تذاكر السينما إلا أن قلب أحدهم رق له فدله على شقة فى منطقة الهرم فى شارع " خلف كازينو ايزيس " عند " أم ميمى " .

ألفاظ فجة بذيئة لطخت بها الصفحات وكأنها تبنع من قبح وتصب فى قبح أكبر وقد حذر الكاتب فى مستهل الرواية منها معللا أنها قطعا لا تمت للواقع بصلة .

غاب اسم الشاب بطل الرواية كما غاب اسم " ام ميمى " وعرف أن اسم " ميمى " ليس ميمى وانما " عزت " خشية من أن يسمى " كمال " فتطمع فيه النفوس المريضة لملامحه الغربية ، أبوه شعراوى ولقبه " الزناوى " ، حلاقا لم تكفيه الحلاقه فاستغل وجوده فى هذه المنطقة ليتكسب من شئ أخر فاكتسب منه لقبه ، " فاتن " أخت ميمى لكنها لا تشبهه شكلا وإنما تشبه خلقا وزوجها صبحى لا يقل عن أنسابه .

" ابو ساميه " الرجل الوقور قبل أن تظهر سرائره وتعرف دواخله فى جنازة " أم ميمى " ويكتسب لقبا أخر ، ابنتيه " ساميه ورحاب " وزوجته وخدماتهن الجليلة لكل محتاج التى لا تخفى عن عين أحد سوى بطل حكايتنا قبل أن تصيبه سهام رحاب .

أصدقاء الجامعه وملخصات المقررات وأحداث تسرد بطلاقة .

الأحد، 6 مارس 2022

قراءات صباحية

 

باكرا اليوم طالعت مقالا للدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله عنوانه استرخ من فضلك وجدتنى بعد قرائته أدع الهاتف جانبا وأشد على الغطاء وأحاول أن أنام ، حاولت كثيرا دون جدوى ، يذكر رحمه الله مواقف حدثت معه وتحدث معنا أو من تعرض لذات الموقف بنفس التفاصيل تقريبا فمن تعلم ركوب الدراجات قطعا سيكون قد سمع ممن يعلمه أنه لابد أن ترخى أعصابك وقد عانيت حتى تعلمت ركوب الدراجات وذكرت ذلك قبلا ، كذلك من حاول قيادة السيارات فقطعا سمع المثل من مدرب القيادة ومن تعلم السباحة أو حاول ذلك قطعا سمع ممن يعلمه أنه لابد أن تترك أعصابك كليا حتى تجد نفسك تطفو وحدك على سطح الماء دون اى حاجة الى جهد وان شددت أعصابك غرقت ، ثم ذكر مواقف حدثت معه أثناء ممارسته الطب ولو اتبعنا نفس النهج وذكرنا ما يحدث معنا من مواقف أثناء ممارستنا لحياتنا اليومية سواء فى العمل او العلاقات الأسرية والخارجية لوجدناها كلها لكى نتمكن من إنجازها بأقل الأضرار لابد لنا من الاسترخاء جيدا لفعل ذلك ، ثم ختم مقاله رحمه الله بأنه فى سبيل محاولته تعلم فن الاسترخاء أهدى إليه كتابا عن اليوجا فى حجم خروف صغير وعندما فتحه قرأ فى فصله الأول " قبل أن تدرس اليوجا يجب أن تسترخى .. تسترخى إلى أقصى حد " مما يعنى أن على أن أسترخى كى أتعلم طريقة الاسترخاء .

قبله كنت قد انتهيت توا من مطالعة مقال عن مذبحة القلعة التى اعدها محمد على للمماليك فى الثانى من مارس لعام ألف وثمانمائة وأحد عشر من الميلاد أثناء الحفلة التى أٌقامها لتنصيب ابنه طوسون على رأس الحملة المتجهة إلى الحجاز وبعد انتهاء الحفلة وبعد أن امتلأ الجميع من الأكل والشرب والغناء والترف والمرح ونادى المنادى بالانصراف وأثناء اتجاه المماليك للخروج من باب العزب أغلقت فى وجوههم الأبواب وفتكت بهم البنادق وأعملت فى رؤوسهم السيوف حتى تخطى حجم القتلى المتكدسين فوق بعضهم الأمتار فى بعض الأماكن ثم انطلق الجنود إلى بيوت الأمراء واتباعهم وأجوارهم فعملوا فيها سلبا ونهبا واغتصابا وسبيا وساد الهرج والمرج ولم تهدأ الأمور حتى نزل محمد على فى اليوم التالى ماشيا يتبعه أمراؤه وجنده فأمر بقطع عنق اثنين من النهابين وقطع طوسون ابنه رأس أخر وهكذا هدأ الأمر إلا أن مطاردة الفارين لم تنتهى .

يؤكد الجبرتى: «عدد القتلى فى هذه الحادثة أكثر من ألف إنسان، أمراء، وأجناد، وكشاف، ومماليك، صاروا يحملون رممهم على الأخشاب، ويرمونهم عند المغسل بالرميلة، ثم يرفعونهم ويلقونهم فى حفر من الأرض فوق بعضهم البعض، لا يتميز الأمير عن غيره، وسلخوا عدة رؤوس من رؤوس العظماء، وألقوا جماجمهم المسلوخة على الرمم فى تلك الحفر، فكانت هذه الكائنة من أشنع الحوادث التى لم يتفق مثلها»  

يسأل «جيلبرت سينويه» فى كتابه «الفرعون الأخير، محمد على» ترجمة «عبدالسلام المودنى»: «هل يجب تذكير من يستنكر هذه العملية أنها تدخل بشكل طبيعى فى إطار ما كان معروفا فى الأعراف السياسية لذلك العصر ولتلك المنطقة؟.. فالصدر الأعظم والقبطان باشا قاما بمثل ذلك فى أبوقير والقاهرة فى أكتوبر 1801، وسيقوم السلطان محمود الثانى بعمل مشابه ضد الانكشارية فى استانبول سنة 1827، وقام بونابرت شخصيا فى مارس 1799 وتحت أسوار يافا بقتل حوالى ألفين وخمسمائة سجين دون أن يرف له طرف " ..

وأتساءل إلى أى درجة كان محمد على مسترخيا حينما جلس يشاهد جنده يقطعون الرؤوس ويضعونها تحت قدمه كى يحصلون المكافأت والهدايا التى وعدهم بها وهل كان نابليون مسترخيا مثله وهل كان على مثل حالهم السلطان محمود الثانى والصدر الأعظم والقبطان باشا ومن فعل ذلك مثلهم قبلهم أو بعدهم ....

علمت أهمية الاسترخاء أكثر عندما غادرت مسكنى وتوجهت نحو عملى وفى الطريق توقفت أمام مخبز لأبتاع منه بعض أرغفة الفينو وفجأة أخبرنى البائع بأنه اعتبارا من اليوم أصبح ثمن الرغيف جنيه واحد .

السبت، 5 مارس 2022

على شفا بحيرة

 

تغادر مكانك ، تهبط درجات السلم ، تجد القطة نائمة بوداعة عند مدخل البيت ، تطفئ المصابيح المضاءة منذ الليل ، تغلق الباب وراءك جيدا ، تتنفس ، تُقلب وجهك فى السماء ، تلتفت يمينا ويسارا ، تنظر إلى البيوت والشرفات ، الكل نائم والكون يستيقظ على مهل ، تفتح باب السيارة ، تضع حقيبتك وتشغل السيارة وتتركها بعض الوقت كى تستيقظ هى الأخرى من سباتها ، ترجع إلى الخلف ثم تسير إلى اليمين بخطوات بطيئة وعند تقاطع الشارع مع الطريق تتمهل قليلا وتطلق صافرات التنبيه ، تنحدر يمينا مجددا وتواصل سيرك ، فتاة صغيرة تعبر الطريق تحمل على كتفها حقيبة وفى يمينها حقيبة أخرى ، تنتظرها سيدة على جانب الطريق فى سيارة صغيرة ، تنتظر حتى تمر ثم تواصل سيرك .

عمال النظافة يجلسون على جانب الطريق يرتدون زيهم الأخضر ، سيارة لإعداد المشروبات تقف يمينا على ناصية الطريق تقدم مشروبا ساخنا لشاب ترجل من سيارته ، تدور ناحية اليسار وعن يمينك ترى جماعات من الناس تفترش الرصيف ينتظرون السيارات التى تقلهم إلى مقار عملهم ، تواصل سيرك إلى أن تصل وجهتك ، كل الأماكن المجاورة مازالت مغلقة ، سيارة حمراء ربع نقل تقف أمام بقالة صغيرة يترجل منها سائقها ويدفع بمفتاحه فى القفل ويرفع باب المحل ، تغادر السيارة وتحمل حقيبتك وتصعد إلى مكانك ، تعد مشروبك الصباحى وتتناول معه قطعا من البسكويت ، تصف الأوراق أمامك ، عقارب الساعة هى من تؤنسك فى تلك الأوقات ، أصبحت صديقتك ، تعد عليك أوقات تواجدك وتحصى لك أوقات غيابك ، تُخبرك متى شُغلت عنها ومتى انتبهت لها ، كانت مؤخرا تمل من إهمالك فأصبحت تتأخر وتتراخى عن أداء عملها ، فتكسل وتنام أكثر الوقت ، أما الآن فعاودت سيرتها الأولى ، تدون المهام المطلوب القيام بها ويخطر فى بالك المغادرة لإنجاز بعض المهام المؤجلة .

تتردد قليلا ثم تستعن بالله وتقرر إنجاز ما أكثرت من تأجيله ، ترتب الأعمال مع زملائك ثم تصطحب أحدهم معك وتبدأ رحلتك ، تطمئن على إطارت السيارة ، يطلب منك صديقك ان يتولى هو القيادة فتوافق ، بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، دقائق قليلة تقضى فى طرقات المدينة قبل أن تنتقل إلى الطريق الرئيسى الذى يعج بالسيارات ، أخر مرة كنت فيها فى هذا الطريق ربما قبل عامين أو يزيد وكانت مهمة لإنجاز بعض الأعمال لعميل فى مدينة ساحلية ، تطورات كثيرة ألحقت بالطريق وبدلت الكثير من معالمه .

الشمس قوية هذا الصباح ، تصدم وجوهنا مباشرة ، تنبه صديقك إلى عدم تجاوز السرعات المقررة ، بعض الوقات فى مناورات على الطريق مع سيارات أكثرها من النقل الثقيل ، تصل إلى الكارتة ، تسدد رسوم مرور الطريق ثم تستمر قبل أن تنعطف يمينا مستقلا لطريق جديد ، الطريق جيد إلى حد ما ، تغيب عنه أعمدة الإنارة كثيرا والقليل الموجود منها تستخدم الطاقة الشمسية لتشغيله ، مزارع كثيرة على الجانبين ، تتقدم كل منها لافتة تحمل اسم احدى الشركات ، قصر ذهبى فخم وسط الحقول وسياج يدور حول تلك المساحة ، وبالسياج بوابات تتقدمها أكشاك حراسة ومراقبة .

لافتات منتشرة على الطريق لتعريف المسافرين بالطرق والتفرعات المتجهة نحو المدن التى يريدونها ، تتخطى بوابة للعبور وتسدد رسوما مجددا ، تتخطى كمين أمنى أشار إلى الكثير من سيارات النقل للتوقف يمينا ، تواصل السير ، بعض الباعة كالعادة على الطريق ، تدور يسارا ثم تسير ببطء قليلا وعلى مهل تتجه ناحية اليمين إلى أن ينبت أول الطريق فتنعطف كليا داخله ، على اليمين تبدو فى الأفق مدينة اجتزأت من المياه مساحة لتسكن فيها ، قوارب صيد كثيرة وممرات صغيرة تتسلل إلى داخل البحيرة ، تتخذ منها سيارات النقل الخفيف مسارا تحمل من خلاله الأسماك ، الكثير من مثل ذلك منتشر على طول البحيرة ، أحدهم نزل بسيارته إلى الماء يغسلها ، نواصل المسير ، ترقبكم مياه البحيرة والأكواخ والمناطق المهملة والتى سيأتى يوم ويحسن استغلالها حتما ، تنتشون من رائحة شى الأسماك وغيوم أطلت تغطى رأسيكما .

لافتات تخبركم أنكما اقتربتما من وجهتكما ، خرائط جوجل تخبركما عن كيفية مواصلة السير داخل المدينة ، وكعادة كل المدة هذه الأيام الكثير من التكسير فى الشوارع والحواجز فى الطرق ، تسألون المارة فيرشدونكما إلى المكان الذى تسألان عنه فتتجهون إليه ثم تبحثان عن مكان تصفون فيه السيارة ، تسأل السائس عن المكان المنشود فيرسل معكما أحدهم فيصحبكما إلى مكان مغاير فتعتذرون للرجل وتسألونه عن الأخر فيخبركم فتغادرون متجهون إليه فيتبعكم "السمسار" الذى أرسله معكما السائس ليرشدكما إلى وجهتكم ، يحاول السمسار تحصيل عمولة من الطرفين على عمل لم يفعله ومعروف لم يصنعه ولكن ما باليد حيلة ، تقضون اليوم وتنجزون ما أتيتما من أجله وعند العصر تبدأون رحلة العودة .

الطرق مزدحمة الأن أكثر ورائحة شواء الأسماك تزداد أكثر وأكثر والشوارع تضج بالباعة والناس والسيارات تتداخل وجهاتها وكل منها يلقى براسه ليسبق غيره ، رؤوس النخيل تداعب النسيم والشمس تغرق رأسها فى البحيرة لتدرك الغسل الأخير قبل أن تبيت ليلتها ثم تودعنا بشفقها الأحمر تبكى على يوم لن يعود .



الثلاثاء، 1 مارس 2022

المؤذن

 

يتخطى الجميع ، يبحث عن فرجة يجلس فيها ، يلتفت حوله ، كاد أن يتعثر بالجالسين ، يجد فرجة صغيرة ، دس نفسه فيها وجلس متكئا ، عيناه مثبتتان على الشيخ ، تنهمر الكلمات من فيه كأنما تهبه الحياة ، كل كلمة تتلقاها أذنيه وتقسط بها على قلبه فتلمع عيناه وتنفرج أساريره وينشرح صدره .

سنوات طوال يتنقل فيها بين الموالد والليالى بصحبة فرقته ، مزماره معه فى النهار يقوم بصيانته وعندما يخلو بنفسه يستمع إلى الست ثم يحاول مع نفسه أن يعزف ما سمعه من فرقتها ، يقتضى وقتا طويلا يعيد العزف إلى أن يجيده ، ينفخ فى مزماره كأنما يقاتل نمر شرس .

زفة فى عرس أحدهم أو ليلة يقضيها فى مولد سيدى ابو مسلم أو سيدى الشيخ جوده او سيدى خضر أو سيدى أبو مسافر ... ما أكثر الموالد فى بلد تعج بأولياء الله الصالحين والمشايخ ومريديهم ورفاعية وصوفية وخلواتية و ..... لن تستطيع لذلك حصرا ، مع فرقته وبصحبة ألاتهم مهمتهم الترويح عن الناس بالانشاد والذكر ، يدعوهم أكابر القوم ، كل عائلة تصنع لنفسها خيمة وتنقل إلى الخيمة كل ما تحتاجه من متاع ، أجولة من الأرز والدقيق وأقفاص من الطماطم والخضروات وشعلات ومواقد وأنابيب غاز ، أطباق وأوانى وموائد تنتشر ، الذبائح لا تكف ، وروائح الشيشة والحشيش لا تنضب ، كل عائلة تتبارى أن تظهر أنها الأغنى وأن خيمتها هى الأفضل وأنها فى الضيافة هى الأكرم ، كل عائلة تتعاقد مع منشد لإحياء ليلة من الليالى ، عادة تكون مدة المولد سبعة أيام ، أسبوعا كاملا فى ليلته الختامية تعد زفة كبيرة يتقدمها أكابر العائلة التى تدعى مسئوليتها عن خدمة مقام الشيخ وقبره ، يمتطون جيادا بيضا زاهية ويحملون رايات خضراء ويكتسون بأفضل وأزهى الثياب وكأنه سقط الوقار عليهم لتوه ، وتصنع الهوادج على الجمال وتعبء بالنسوة والأطفال ويطوف من حولهم المريدون يحملون سيوفا صدئة والبعض طوقت الثعابين عنقه وسيارتان رع نقل تحملان الفرقة الموسيقية وألاتها كى يعلو صوت الانشاد والذكر .

يقضى الوقت منسجما مع معزوفاته ، تنسحب منه روحه وتبحر فى عالم مختلف فينهمر منه العرق فكأنه بال فى ثيابه ، يتمايل الناس أمامه وتعلو الأصوات ، تسحر الألباب وتُسكر العقول ، الله ... الله .. قول كمان يا مولانا ، يرفع أحدهم ذراعه ويعلو صوته ....الله حى الله حى الله حى ... يسقط منه ثوبه من فرط انتشائه ، فيعيد ويزيد ويعزف وينشد ويتمايلون أكثر وأكثر ، يواصل إلى أن تنتهى فقرته ثم تبدأ السهرة مع منشد الليلة ، أحد مشائح وأعلام المدح ، الشيخ أحمد مجاهد ، البنا ، الشوبكى ، عبد للمعبود ، الشيخة سمية ، وأحيانا فاطمة عيد وابنتها شيماء ... وغيرهم " .

يدخل إلى الخيمة ، يلتهم الطعام وكأنه ثور جائع فيأكل إلى تنتفخ بطنه ، مواعيد الموالد وأماكنها ثابتة كل عام وتتوالى فهذا الأسبوع هنا والذى يليه هناك وهكذا ...

تعجبه فتاة فينكحها وترفض أمها أن تصحبه فتبقى عند أهلها ولا يراها إلا فى أسبوع المولد الذى ينعقد فى بلدهم أو ربما يتسلل لها خلسة من الوقت عندما يغلبه الشوق إلى حضنها فقد علمته الغنج وأرته العشق كما لم تفعل غيرها امرأة .

يتزوج بقريبة له فى قريته النائمة وسط بساتين نبتت فى الصحراء كبقة زيت فى بحر ، أنجبت له ابنة كأنها القمر وتلتها بابن اتخذه سندا وصاحبا ثم أقعدها المرض ...

يقضى الليل وحيدا تعاتبه نفسه وتلومه ولا يرتاح لمطعمه ومشربه ويفكر أن رزقه لا يطيب له ولابد أن يغير طريقه ، يسير فى الليل يبكى ويستند الى السور الطينى المحيط ببستان الباشا فى تلك المزرعة التى تتخطى المئة فدان ، يسقط فى سيره مغشيا عليه فيرى وكأنه وحيدا وسط ضباع جائعة وكلها تقترب منه وتحيطه ويصرخ ويصرخ وينادى ثم قفزت عليه فجأة فأغلق عينه واستسلم لمصيره ثم أفاق .

تزوجه زوجته بأخرى قريبتها صغيرة فى السن لعلها ترعاه وترعى أبناؤهم فتنجب له الأخرى طفلين ويعاجلها المرض فتموت .

يحدثه قريبه معلم القرأن أن هناك مسجدا بمدينة قريبة يحتاج إلى مؤدى شعائر أن كان يريد ، فيبكى ويبتسم ويسجد لله شكرا .

يحين موعد الأذان فيتقدم بخطى ثقيلة ، يغلق المذياع ويرفع السماعة إلى فمه ويضع يده على أذنه ويرفع النداء

الله أكبر الله أكبر ............ لا إله إلا الله

ويسقط مغشيا عليه .



واجب مدرسى

 

أرسل لى صغيرى يسألنى عن واجب مدرسى مقرر عليه " لخص قصة قرأتها للأديب نجيب محفوظ " ، صغيرى بالصف الخامس فى المرحلة الابتدائية ، لا أظن ان واضع السؤال يشك أن أحدا سيكون قد قرأ شيئا مما كتبه أديبنا الراحل نجيب محفوظ فضلا عن أن يستطيع القيام بتلخيص تلك القصة فى ثلاثة سطور ، كما أكاد أجزم أن معلمينه أيضا لا يعرفون شيئا عن نجيب محفوظ سوى المشهور عنه والمتداول اعلاميا وأشك إن كان منهم إلا القليل قد قرأ شيئا مما كتب ، أذكر قديما أنه كان من المقررات الدراسية قصة كفاح طيبة وهى الرواية التى أتم بها ثلاثيته التاريخية التى بدأ بها حياته الروائية قبل الانتقال الى بحور الحارة الواقعية قبل أن يصبغ عليها شيئا من الفانتازيا والرمزية التى واصل فيها حتى توقف عن الكتابة فى 2004 قبل أن تدركه الوفاة بعد ذلك بنحو عامين ، قلت له يا صغيرى أكتب لهم لم أقرأ شيئا مما كتب الأديب نجيب محفوظ ولم أكن أعرفه ، سألت أبى عنه فأخبرنى أنه الأديب المصرى الوحيد الذى حصل على جائزة نوبل فى الأداب ، عاش من العمر 95 عاما ، شغل العديد من الوظائف وكتب الكثير من الروايات والقصص والأعمال المسرحية وحولت الكثير من كتاباته إلى أعمال فنية ، لم يشتهر نجيب محفوظ فى أدب الطفل مثلما هو معلوم عن أديبنا رائد أدب الطفل فى مصر " كامل الكيلانى " وقد كان مقررا سابقا فى المدارس ترجمته لقصة " مصباح علاء الدين " ومن تراجمه المشهورة أيضا " السندباد البحرى ، نوادر جحا ، روبنسون كروز ، حى بنى يقظان ...." .

أعلم أن للسؤال أهمية ولكن كان من الأولى أن يكون مقررا درسا أو فصلا كاملا يحكى مختصرا عن اهم الأعلام المصريين فى مجالات متنوعة و منها بالتأكيد الأداب وتحكى شيئا عنهم ، نفتح لأبنائنا المجال لتشغيل عقولهم وكذلك لأسرهم وعائلاتهم أيضا ، نلقى إليهم بطرف الخيط ونطلب منهم البحث عنه والوصول إلى معلومات أكثر ، نرشدهم إلى الطريق الصحيح بدلا من أن تعج الكتب وتتضخم بأشياء لا تغنى ولا تسمن من جوع ، ليس من الصعب أن يكون هناك فصلا بعنوان اليوم العالمى لكتاب الطفل نذكر لهم شيئا عنهم ونشير إلى الأبرز منهم على مستوى العالم مثل " تشارلز بيرو ، يعقوب محمد اسحاق ، جون نيوبرى ، طارق البكرى ، الدكتور سوس .... " ، ثم نفصل لهم بعضا من اعلامنا فى هذا المجال فنحكى لهم مثلا عن " سعيد محمد العريان ، أحمد محمود نجيب ، عبدالتواب يوسف ، الدكتورة عفاف طبالة ، محمد عطيه الابراشى ، محمد الهراوى ، فريد معوض ، ابراهيم عزوز ، أمل فرح ، نادية كيلانى  ... " .

التاريخ زاخم بأسماء لن نستطيع حصرها والمكتبة المصرية تعج بألاف الكتب من أدب الطفل نستطيع ببساطة أن نلخصها وندرجها فى الكتب المدرسية مقررات على أبنائنا وفى نهاية كل درس نشير إلى أنه ملخصا من قصة الأديب .... هذه الاشارة البسيطة تفتح أمامهم المجال للبحث والسعى والتعلم ومحاولة معرفة التفاصيل أكثر فالمعرفة لا توهب وإنما تكتسب .

نحن أمة الأدب وأصل اللغة ومعجزة نبينا الخالدة " القرآن الكريم " أنزل بلسان عربى مبين فجدير بنا أن نتخذ من ذلك اساسا ونتم عليه البناء .

السبت، 26 فبراير 2022

عن الحرب

 

الكون كان هادئا لكن فجأة تبدل كل شئ ، الظلام كان مسالما لكن أضاءته حرائق وانفجارات ، طائرات وصواريخ يطارد بعضها بعضا ، دوى القذائف والطلقات ، تُلقى القذائف هنا وهناك ، لا تبالى على أى مكان تقع .

الأشجار تحاول الصمود فتنتزع من جذورها ، البيوت تُسوى بالأرض ، تحولت إلى كتل من الركام ، كل شئ أصبح خرابا ، سيارات مشتعلة ، حفر تفوه من بطنها النيران ، محطات وقود خُربت بالكامل ، شبكات الكهرباء والاتصالات دمرت ، محطات المياه فجرت ، طرق أغلقت بفعل القذائف التى شقتها ، جثث يفور منها الدم ، القذائف منزوعة القلب ، لا تفرق بين صغير وكبير ، شيخ وطفل ، ذكر وأنثى ، قوى وضعيف ، انسان وحيوان ، نبات وجماد ، الكل يدرك نصيبه ، ويتجرع معاناته .

الناس تتكدس ، تفر ، تبحث عن ملاجئ تحتمى بها ، الوجوه ملطخة بالسواد ، وأجساد مخضبة بالدماء وأخرى تتخبط وتتعثر ، العيون تبكى غابت عنها لمعتها وذهبت منها فرحتها وبدلت طمأنينتها خوفا ورعبا ، السيارات تتكدس فوق الجسور ، لم يعد أحد فى مأمن ، فى الحرب الكل خاسر حتى من يظن أنه انتصر ، الكل فيها يفقد شئ حتى نفسه ربما يفقدها ، حتما ستفقد روحك ، قلبك ، ذاتك ، بعضا منك ، أقاربك ، أهلك ، أصحابك ، جيرانك ، معارفك ، ذكرياتك ، انسانيتك ، ستفقد شيئا حتما ، الحرب مخيفة ولا يدفع فيها الثمن غير من لا ناقة له فيها ولا جمل .

الخراب فى كل بقعة ، المركبات والأليات محطمة على جوانب الطرق ، جذوع الأشجار واقعة هنا وهناك ، تكاد لا تجد متسعا تمر منه ، الأرض لم تعد ممهدة ولا صالحة للسير ، بوارج غارقة وسفن مستلقية على جانبها وأدخنة تتصاعد .

صافرات الانذار لا يكف دويها رغم أن الوضع فى الملاجئ يزداد سوءا ، أكوام من أجساد البشر مكدسة فوق بعضها ، المؤن لا تكفى ولا الثياب ولا الغطاء ، الحزن يخيم والكل يتوجع والألم مسيطر على الملامح والبكاء لا يكف .

الويل لكل الويل للأسلاك الشائكة ، للحدود ، للمعابر ، لمن يحول دون الانسان وحياته ، لمنيئد الأحلام قبل أن تولد ، لمن يقتل الضحكات والوجوه الباسمة ، لمن يسجن أحدهم فى بؤرة لا يسمح له بالمرور حتى يقتنصه الموت ، الويل كل الويل لمن مات داخله الإنسان ، الويل كل الويل لمن خذل ، لمن باع ، لمن فر ولمن خان .

الجمعة، 25 فبراير 2022

جمعة مباركة

 

الهواء اليوم شديد ، يتلاعب بالأشجار ، بالستائر ، بالثياب المعلقة فوق الحبال ، تحول المشابك بينه وبين أن يصرع الثياب أرضا مثلما يفعل بالأوراق الملقاة فى أرضية الشوارع يقلبها وينقلها ويجعلها تترنح لا تقوى على مجاهدته .

الشمس ساطعة تنشر أشعتها بسخاء لكن الهواء يكسر دفئها ويحيله إلى برودة متقبلة .

البيوت بالداخل أشد برودة من الشرفات ، الشرفات تتدفئها الحرية ، مفتوحة إلى السماء ، تنظر إليها طيلة الوقت ، تشاهد القمر ، النجوم ، السحب ، تساقط الندى ، تشهد تعاقب الليل والنهار ، أما البيوت فهى سجينة جدرانها رغم المنافذ فيها إلا أنها صغيرة لا تمدها بالدفء المناسب لذا تُستخدم أجهزة التدفئة الصناعية لمحاولة إصلاح ذلك .

الكلب الصغير ينبح ، يعلو صوته ، تُغلق الأبواب أمامه ، كلما فتح أحدهم بابه أسرع نحوه ، كلما رأى سيارة مقبلة جرى نحوها ، مثله مثل تلك القطة التى يبدو أن أصحابها تركوها او أنها ضلت طريقها نحوهم فأصبحت تستأنس بدرانا ، تظل مختبئة بجوار السور إلى ان يُفتح الباب فتُسرع إلى الداخل وتستلقى على المشاية الموضوعة فى مقدمة السلم ، أصبحت تتبادل ذلك الفراش مع الكلب الصغير ، يبدو أنها رقت لحاله وصعب عليها أن يبقى يعانى البرد والوحدة وحده ، أصبحت أشاهدهم يلعبون سويا برفقة الأطفال الصغار ، القطة تخشى القط الأسود الذى دوما يتحرش بها ، يضربها ويزجرها ، توالى الأيام بدل حالها ، كانت ممتلئة فى البداية بفرو مهذب لكنها الآن أصبحت تشبه كثيرا تلك القطط التى لا مآوى لها ولا ملجأ .

كنا سابقا نقيم فى بيت من طين ، كان فى أشد أوقات البرد دافئا جدا ، رغم انه خالى من الشرفات ، كان سقفه من خشب وبوص وطين فكانت تتسرب من بينه الأمطار .

كانت قطتى لونها مزيج من الأحمر والأسود والأبيض ، كانت تستلقى على حجرى وعندما أنام تنام بجوارى وذات قيلولة وجدت قد وضعت أولادها بجانبى ، بينما كانت أمى مشغولة أمام الفرن ، تخبز لنا العيش وتعد لنا صينية الأرز المعمر ، أحبه بدون سكر ، فكانت أمى تعد اثنتين ، إحداهما بسكر والثانية بدون ، كان عندى كلب صغير اسميته " جاك " كنت أتركه يلهو فى الطابق الثانى ، كان مزيجا من الأبيض والأسود والرمادى إلا أن أبيضه يطغى ، كانت لدى عنزة صغيرة ، كانت دوما تلهو بجوارى حتى عندما كنت أجلس على المصطبة أمام البيت كانت تصعد وتجلس بجوارى ، سمراء بها بقع بيضاء ، سميتها " بسمه " وعندما ولدت ، أنجبت أنثى لكنى سميت ابنتها " عزوز " رغم ذلك ، عزوز ورثت عن أمها شقاوتها وخفة ظلها لكن لونها غلب عليه الأبيض فكان اسوده قليلا .

الحيوانات أشد ألفة وأكثر وفاء من كثير من البشر ...

لكن منهم القاسى والغليظ كحمارة عمتى ، كلما عاملتها برفق رفصتك وكلما اعتليت ظهرها أوقعت بك أرضا وفرت منك وضاع وقتك فى مطاردتها لكنها رغم ذلك كانت تخشى زوج عمتى فكانت عصاه قوية لا تفارق يده فكان إن قال لها "هش اقف " لا تستطع رفع قدم من مكانها وان قال لها " حا " تحركت بمهل إلا إن نخزها فى جنبها فحينها تسرع .

السبت، 19 فبراير 2022

قسوة

 

البيت بارد ، أشعر بالبرودة تتسلل إلى أطرافى وكأنها تسرى فى عروقى ، الجدران باردة ، الصمت جعلها أشد بردا ، الصور على الجدران باردة أيضا ، صمتت فترة طويلة حتى علاها الغبار ، حتى الغبار الذى يعلوها بارد ايضا .

المدفأة رغم أنها تشتاط غضبا إلا أنها باردة أيضا ، أضع يدى على جدرانها فتكاد تتجمد ، الأبواب تصطك يعلو صوتها كأنها أسنان تصطدم فى بعضها، النوافذ تهتز يكاد زجاجها أن يسقط ، السلم الخشبى ، السقف الخشبى ، الستائر البالية ، عروق أخشاب سوداء مدعمة بأعواد البوص مثبتتة بعجين من طين وتبن ، كل شئ اهتز فجأة ، تحرك من موضعه ، تراقص يمينا وشمالا ، صوت الرعد يعلو ويعلو ، الأمطار تتساقط ، تنهمر بقسوة ، صوت المزاليج يفتح ، المياه تزاداد ، قطرات ، كرات ثلج ، حبات ملح ، دفقات دفقات .

أرتجف فى موضعى ، حتى كوب الشاى الذى اجتهدت حتى أعددته لا أستطيع أن أمد يدى لألتقطه ، كل أطرافى ترتعش ، ضلوعى كأنها تادخلت فى بعضها وكلما علا صوت الرعد تجمدت فى مقعدى أكثر ، أخاف الظلمة ، وتساقط الأشجار ، البرق تكاد من هوله أن تشتعل الحرائق ، المزرعة كانت آمنة جدا ، كنت أحب البقاء هنا لأطول وقت ، أقضى جل وقتى فيها ، أرعى أشجارى وأسقى ورودى وأزهارى ، ألاعب جيادى وأضع للماشية والابل والأغنام والماعز طعامهم وسقياهم ، كل شئ الآن غاضب ، حتى كلابى تنبح بصوت خائف ، أظنها ترتجف مثلى الآن .

أنتظر حتى تهدأ الزوبعة ، أتمالك أعصابى ، تهدأ دقات قلبى ، أتحرك بخطوات بطيئة نحو النوافذ والأبواب لأغلقها جيدا ، أرى الكلاب ترتعد فى الخارج فأفتح لها الباب لتدخل وأطلب منها أن تسامحنى أن أبقيتها تعانى وحدها هذه الأجواء فلم أكون أقوى على الحركة ، تنظر إلى معاتبة يكاد الدمع يسقط منها ، أقربهم من المدفأة فيضجعون أمامها ويفردون رؤوسهم على الأرض وعيونهم غرقى فى الحزن ، ألقى على ظهورهم بعض خرق بالية فلا أملك غيرها  .

عاد المطر يتدفق بلا انقطاع ، تلاقت عينى مع أعين الكلاب ، جميعنا ذاهل ، لا يعرف ما يحدث ، الخوف يسيطر علينا ، نسمع أزيزا وارتطام ، اتمسك بجانبى مقعدى ، أخشى الانزلاق أو الوقوع ، لا أعلم كيف سأنزلق ولا أين سأقع ولكنه الخوف يبسط رهبته فى الصدور فتزوغ العيون ويضطرب القلب وترتعش الأطراف ويصير الصمت موتا ! .

هدأت الريح لكن الأمطار مازالت محافظة على هطولها ، تدلت أغصان الأشجار حول سيقانها فكأنها أشبه بأذرع متراخية لأجساد ماتت واقفة ، المياه تنهمر وكأنها شلال متدفق ينزل من جبل عال ، المياه تجمعت بركا فى المساحات الخالية أمام البيت ، تسقط فيها الأضواء فتلمع ، وتبحر فيها النجوم فتلهو ويبدو القمر حزينا ! .

الليل يتسلل رويدا رويدا ، أهو الليل أم هى ظلم السحب المتكدسة فوق رأسى أم هو الخوف يجثو ويجثو ، البرد يشتد قسوة والأمطار تشتد غلظة وكرات الثلج تشتد تماسكا وكأن السماء تقذفنا بكرات بيضاء .

الكلاب غلبها النوم فنامت ، أكاد أحسدها على حالها ، أحاول أن ألحق بهم لكن النوم يعاندنى وأصوات الرعد ولهيب البرق يزعجنى ، تدور فى رأسى الدوائروالأفكار ، كأنى أسير أتخبط فى طريق وعر ، أقع من هنا وتصطدم قدمى من هنا وتغرس هنا ، أسير متكفئ ، أحبو ، تنزلق قدمى من قمة عالية  ،  يهزمنى النوم فتقع رأسى بجوارى .