الخميس، 13 فبراير 2020

بصحبة كتاب


الكتابة تُباغتك ، فيضان يتدفق فجأة فلا يمكن لسدود أن تعوقه ، حله الوحيد أن تُفسح له الطريق ليجرى ، يخرج ما فى الجوف ، تُسطر كل هذا السيل ، يأتيك اتصال صباحى بينما تجهز ليومك فتجد نفسك مضطرا لتغيير كل شئ رتبت له لهذا اليوم ، تُجهز نفسك على عجل ، تُغلق حاسوبك وتُلملم أوراقك وأقلامك ، تصطحب الكتاب الذى تحاول اقتطاع ما تقدر من الوقت لمطالعته ، " خريدة القاهرة " ، اصدار حديث للدكتور " حامد محمد حامد " ، اقتنيته من معرض الكتاب المقام بالقاهرة فى دورته التى انتهت لتوها ، من اصدارات الرواق للنشر والتوزيع .
أغادر مكان عملى ، أستقل السيارة لبدء المرحلة الأولى من الطريق ، ما يقارب النصف ساعة ، بعضها انقضى فى إجراء وتلقى بعض الاتصالات ، اسأل السائق عن المكان الذى تنطلق منه السيارة الثانية ، أبحث بعض الدقائق حتى أصل إليها ، من تيسير الله أنها أوشكت على أخذ كفايتها من المسافرين ، أكثرهم يحملهم حقائب سفر مثقلة بأشيائهم حتى أن سطح السيارة تشبع منها ، يشد عليها السائق الحبل جيدا ، يسمى الله ويبدأ المرحلة الثانية ، الفاتحة يا رجاله ....
" هذا ليس كتاب تارخ ولا كتاب آثار ... "
" شئ من سيرة الأماكن والأشخاص "
تُغادر السيارة الموقف فيتجه يمينا ثم يدور يسارا ثم يتجه للخلف فيدخل منطقة مكتظة بالسيارات ، على مهل يتحرك إلى أن يستطيع تخطى هذا الزحام ثم يأخذ الطريق المتجه إلى الأعلى حتى يدخل فى طريق أخر ، الطريق مزدحم بعض الشئ ، يقضى فيه وقتا قليلا قبل أن يتجه يمينا ناحية طريق جديد ، الطريق متسع فيبدو كأنه خال من السيارات ، المساحات الخضراء تتسع عن جانبيه ، البيوت تبدو واهنة وتصغر شيئا فشيئا ....
" لا مفر لك وأنت فى القاهرة من الحكايات القديمة ...."
يستمر السائق يشق الطريق ، يبدو أن هذه السيارة قد كتب عليها للذكور فقط ،  الجالس عن يمينى شُغل فى مكالمة هاتفية طويلة بصوت مرتفع ، فى المقعد الذى يلى السائق مباشرة ثلاثة أصحاب فتح أحدهم هاتفه وأدار مقاطع فيديو يشاهدها برفقة صاحبيه ، المقعد التالى ثلاثتهم حافظوا على صمتهم إلا فيما قل ، المسافر عن يسارى وضع سماعات الهاتف فى أذنيه وشرد وبالخلف كما فى المقدمة الصمت سيد الموقف ، أما السائق فقد أدار إذاعة القرأن الكريم ...
" المساجد أسرار
ستخسر كثيرا إذا ظننت أن المساجد هى مجرد أماكن للعبادة يبنيها عباد الله الصالحون ابتغاء الأجر والمثوبة فحسب "
يحافظ السائق على السرعة التى بدأ بها الرحلة فلم ألحظ طوال الطريق أن هناك سيارة واحدة تخطاها إلا إذا كانت متوقفة ، المسافات تطوى ويتبدل لون الأرض ، تنحدر السيارة مع الطريق الذى يتلوى كأفعى دارت حول نفسها دورة كاملة ثم يلحق بطريق أخر ، عن اليمين منطقة صناعية حديثة مكونة من مجموعة من الهناجر ذات الطراز الموحد ، عن اليسار محال ومعارض ومنازل وورش ، أكثر المحال تعمل فى الأنشطة المتعلقة  بخدمة السيارات وقطع غيارها وباعة يتوسطون الطريق يعرضون بعض الاكسسوارات ومستلزمات السيارات ولا يخلو الطريق أبدا من باعة الفاكهة والخضروات ...
" فى القاهرة كن على ثقة بأنه مهما بلغت خبرتك بدروبها فستظل على موعد دائم مع الدهشة ، دهشة من أعاجيب البدايات وعبث المآلات ..." .
الطريق مكسر بعض الشئ ، تجرى به أعمال صيانة وإصلاحات ، يجبر السيارة أن تبطئ من سرعتها أكثر ، لافتات إعلانية ولافتات صغيرة تعلن عن اسماء الأماكن وفى مطلع كل مدينة تزداد اللافتات أكثر ، أمام المناطق السكنية تكثر المطبات الصناعية لإجبار السائقين على خفض السرعة ....
" كان أحد الفلاحين يركب مركبا هو وزوجته وكان يركب معهما احد الجنود ، اخذ الجندى يغازل زوجة الفلاح التى كانت حُبلى فى الشهر التاسع وعندما صدته وشتمته ضربها الجندى فأسقط حملها .
جرى الفلاح المسكين ليشتكى لـ " قراقوش " فطيب خاطره وحكم بأن يأخذ الجندى زوجة الفلاح عنده ، ويعيدها لزوجها حُبلى من جديد بعد تسعة أشهر " .
يواصل السائق السير فى طريق متعرج أقيمت عليه الكثير من الكبارى لتسهيل الحركة والتنقل بين الأماكن ، لكل مكان صفات تميزه حتى فيما يتم زراعته بأرضه فكل منطقة لها زراعة تشتهر بها عن غيرها ، تختلف اللهجات واللكنات أيضا فلكل منطقة طريقتهم وأسلوبهم وكلمات يصعب على غير المقيمين فيها معرفتها ، يجمع المسافرون الأجرة ومبالغ إضافية تدفع عن الحقائب التى تعتلى ظهر السيارة وكالعادة يختلف البعض على قيمة ما تم دفعه فالسائق يقول أن بالأجرة نقص والجميع يقسم أنه دفع المستحق عليه كاملا وتتوه الحقيقة ويذم السائق ببعض الكلمات ....
" للأماكن سطوة خادعة ، سطوة تفوق منشئها ذاته ، تُعيد الأماكن رسم صورة من أنشأها ، تتماهى معه حتى يصبح المكان العظيم دليلا لا يقبل الشك على عظمة صاحبه ، وفى القاهرة ، لا سطوة تفوق سطوة مدرسة " السلطان حسن "" .
اسأل عن المكان الذى أصبحنا به الآن واتصل بصديقى أخبره فيجيبنى بأنه مازال أمامى بعض الوقت ، أمام منطقة سكنية أوقف السائق السيارة وغادرها ، مخبز للعيش البلدى ، مقهى ، محل بقالة ، خردة سيارات يأكلها الصدأ ، أداوت لحام ، حارة ضيقة تتوسط البيوت والمحال ، آثار الأمطار على الأرض ، كتل من الطين متراكمة ، فتاة ترتدى عباءة زهرية اللون ...
نمر على مدينة اشتهرت بإسم أحد الأولياء بها وشيد له فيها مسجدا ممتلئ بالدراويش عادة ويقام له فيها مولد سنوى يحج إليه الكثير من المريدين ، المصادر التاريخية تؤكد عكس ما يتداول عن هذا الرجل تماما ولكن .....
" على اى حال فللأولياء فى مصر سطوة حقيقية وإن كانت مستترة لا تُفضح عن نفسها إلا بمقدار ، وإدراك سطوتهم تلك ضرورة حتمية لمن اراد أن يفهم عالم القاهرة الأسطورى والعبثى جدا ... " .
سور مرتفع يحيط بمنطقة لا يبدو من خلفه أى بناء ، أظنه لمنطقة عسكرية ربما ، مر ما يجاوز الساعتين ولا تزال السيارة فى الطريق ، اسأل مجددا المسافر بجانبى فيقول أوشكنا أن نصل ، المشكلة أن هذا السائق يسير وكأن السيارة محملة بالأثقال رغم مشاداته مع السائقين على الطريق حول أحقية المرور وتراشق الألفاظ ...
" لكل مكان مذاقه وروحه ونفسه الخاص ، قد ترتاح فى مسجد ، ولا تحتمل أبدا أن تقترب من مسجد أخر دون أن تعرف السبب ، روح هذه الأماكن هى حكاياتها وذكريات من مروا بها ، من دون أن تستشعر هذه الروح ستغدو الأماكن كلها مسخا واحدا عديم الشكل ، مجموعة من الحجارة القديمة لا أكثر ، مجرد صورة باهته على كارت بوستال قديم "
بضع سنوات مضت منذ أخر زيارة لى لهذه المدينة التى أتوجه إليها الآن وفى المرة الماضية كان استقبالها حافلا ، فما إن وضعت قدمى حتى أغرقتنى الأمطار واستمرت بفعلها حتى عودتى فى نهاية اليوم الثانى ، لافتة تعلن أن المتبقى 45 كم ، أتصل بصديقى لأخبره فيقول أنه تحرك من مدينته ليلتقينى فى الموقف عندما أصل ، أواصل القراءة بعد أن أنهى بعض الاتصالات لمتابعة سير العمل مع باقى فريقى وتأجيل بعض المواعيد التى كانت مقررة اليوم .
" أما الجبرتى فقد استطاع أن يوجز لنا حياة مراد بك وشخصيته فى عبارة قصيرة " كان يغلب عليه الخوف والجبن مع التهور والطيش ، والتورط فى الإقدام مع عدم الشجاعة ، ولم يعهد عليه أن انتصر فى حرب باشرها أبدا ، على ما فيه من الادعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور .. وبالجملة كان من أعظم الأسباب فى خراب الإقليم المصرى "" .
فى الزيارة السابقة كان الطريق متخما باللافتات الاعلانية للحملات الانتخابية لمرشحى الأحزاب المختلفة والتى كانت تضج منها الشوارع والطرق وكل منهم يتخذ شعارات مغايرة وسباب وتراشق وكلٌ يدعى لنفسه الأفضلية وغيره لا محل له من الأعراب ، أحزاب ملأت البلد صراخا وعويلا ، انتشرت فجأة وبكثرة بعد الثورة حتى أكلتها .
" الثورة لحظة جنون دافق ، قرار صاعق يسرى فى الإنسان كشحنة كهربية تجعله يؤمن بان حياته كلها لا قيمة لها من دون الثورة " ..
تواصل السيارة طريقها على مهل بذات الهدوء الذى بدأت به الرحلة رغم أن المعروف عن الخيل أنها كلما اقتربت من خط النهاية سارعت ولكن يبدو للسيارات رأى أخر فتطبق المثل القائل " فى التأنى السلامة " بأكثر من المراد منه بمراحل ، اتابع بعينى الطريق وأشم رائحة مختلفة وأعى جيدا أن لكل أرض رائحة تميزها عن غيرها متأثرة بعوامل عدة كنوع وطبيعة ما يزرع وطبيعة تربة الأرض نفسها ومدى قربها من المياه وحتى الرائحة تختلف باختلاف مصدر المياه سواء كان النيل أو أى البحرين أو القنوات والمصارف التى تشق أكثر المناطق ، وأيضا طبيعة الأعمال التى تمارس بتلك المناطق فتختلف تلك الشهيرة بأعمال الصيد عن تلك الشهيرة بالصناعة  أو الزراعة  أو مراسى السفن ومحطات الوقود وفى المكان ذاته تختلف الرائحة من منطقة لأخرى حتى أنها تتأثر بفعل أنفاس البشر ...
" للتاريخ ألف وجه ...
يبدو لنا التاريخ أحيانا مغرقا فى الحكمة والمعرفة ويتجلى أحيانا أخرى كعمدة قروى عجوز ، يجلس متكئا على أريكته القديمة ، ينفث دخان المعسل وينطلق لسانه بحكايات ليس لها أول من أخر تبدو للوهلة الأولى شديدة التنافر ولا رابط بينها ..."
الطريق يوشك أن ينتهى وحكايا " الخريدة " أيضا أوشكت أن تتم ، أقلب الصفحات لأعلم المتبقى وأعاود القراءة ..
" حكايات الأشخاص تتحول مع مرور الزمن إلى جزء من المكان حتى مع إيمانك أن تلك الحكايات هى محض أساطير خرافية لا أكثر ، لا تستطيع أن تمنع نفسك من الإحساس بأن ثمة أماكن مميزة بأساطيرها عن أماكن أخرى ، ربما هذا ما دفع كل من أرَّخوا للأماكن إلى ذكر سير أصحابها مهما كانت مُغرقة فى الخيال ، فقد كانوا يعرفون جيدا أن الحكايات هى روح الأماكن .."
تخطت السيارة بوابة المدينة وأتجه يمينا وتخطى الإشارة فأصبحنا تماما فى موقف السيارات ، سألت السائق عن مواعيد تواجد السيارات ومكانها فأخبرنى أنهم يعملون لأخر النهار وتجد السيارات تحمل الركاب من خارج الموقف فلا مكان لهم بالموقف ، شكرته ونزلت ، هاتفت صاحبى فقال أنه اقترب من الوصول فوقفت على رصيف المشاة أنتظره وشغلت بمتابعة خروج الأطفال من المدارس وتخطيهم لطريق عبور السيارات  .

·         العبارات المدونة بالخط الأحمر من كتاب " خريدة القاهرة " .
·         استمتعت جدا بالقراءة وأنصح بمطالعة الكتاب وأعدك بعد القراءة أن تخرج منه بروح غير التى بدأته بها وستعرف عن القاهرة كثير مما خفى عنك وإن كنت تعلمه فتأكد بأن السرد سيمتعك ، أتمنى أن يكون له أجزاء متتالية .

السبت، 8 فبراير 2020

الكُتاب


الساعة تقترب من السادسة صباحا ، يعود الوالد من صلاة الفجر ، كعادته يؤدى الصلاة ويجلس يتلو القرآن مع الشيوخ بالمسجد ، جلسة تلاوة صباحية ، اعتاد الناس على الجلوس فيها لتلاوة آيات من كتاب الله بخشوع وتدبر ، كل منهم يتلو ربعا من القرآن ، لا يهم أن تكون ماهرا بالقرآن ولا يهم حتى أن تكون مجيدا أو مستطيعا للقراءة ،فيمكنك الجلوس للاستماع ، القرآن مالوش كبير يا بنى حتى ولو كان يحمل أعلى الشهادات فيمكنه أن يخطئ فى قراءة القرآن لأن القرآن يُتلقى فتتعلم قرائته ، ليس كتابا عاديا يستطيع الكل قرائته ومع ذلك فقد يسر الله قرائته وحفظه لمن يريد " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر "  ، يجلس بعض الصبية محاولين التقليد والتعلم من الكبار والإندماج وسطهم ويشجعهم الشيوخ على ذلك ،  يبتسمون لهم ويضاحكونهم ويشدون على أيديهم ، لا تقلدوا شيوخ السعودية ، كن على فطرتك وسجيتك يا بنى تكون أفضل وتقرأ بشكل صحيح ، تنتهى القراءة فيغادر البعض سعيا لقوت يومه ويبقى البعض منتظرا حتى طلوع الشمس وتتخطى أوان شروقها برمح او رمحين فيصلى ركعات الضحى آملا أن يُحصل أجر حج وعمرة .
يطرق الرجل على الباب فتسرع الزوجة لتفتح ، يسألها هل أيقظت الأولاد للصلاة فتجيب الجو بارد فتركتهم نائمين ، الشمس أوشكت على الشروق لابد من إدراك الصلاة قبل الشروق ، ينادى على الأبناء استيقظوا وأسرعوا كى تدركوا الصلاة قبل الشروق ...
تُعد الأم الإفطار ، تساعدها البنات ، تشعل النار على ما تبقى من طعام العشاء ، تسخن بعض الخبز وبعض البطاطس التى تم قليها بالزيت وقطعة من الجبن الطازج فصلت لتوها من الحصيرة وأضيف إليها القليل من الملح لضبط طعمها وبعض من الخضروات ، كل ذلك وضع على طبلية تتوسط الغرفة ، يتناول الكل الطعام ، تجلس الأم فى جانب من الغرفة تصنع لفافة من الورق ، تضع بها خبز وجبن وخضروات ، تلفها جيدا ، أصبح شكل اللفافة اسطوانيا ، هذا غداء والدكم ، يغادر الوالد قبيل الساعة السابعة ويعود عند الغروب ..
الإبن البكر يصحب الأم إلى الحقل ، يمسك بيده حبل البقرة التى تسير أحيانا أمامه وأحيانا خلفه وأحيانا جانبه ، يألف البقرة وتألفه ، يقرب يده من فمها فتداعبها بلسانها ، يبتسم لها ويربت على جبهتها ، يشقون الطريق الزراعى وسط الحقول حتى يصلون إلى الحقل ، حبات الندى تغطى الزرع ، أذن الصبى صارت حمراء وأنفه زُكمت ، على رأس الحقل مُهدت مساحة صغيرة صنع بها ما يشبه الحظيرة ، شطر من جذع نخلة قيدت حركته بقطع من الأخشاب ثبتت حوله كى لا تدفعه البقرة من مكانه ، أمامه وتد " قطعة خشبية تأخذ شكل اسطوانى تقطع من فروع الأشجار يعقد به حبل البقر عدة عقد حتى لا يكون سهل الفك فتحله البقرة أو تنزعه ، وبقطعة أخرى من الحبل تقيد قدميها الأماميتان ، يترك الحبل بطول مناسب حتى تستطيع البقرة تحريك رأسها بحرية وتناول طعامها والنوم وقتما تشبع ، البقر أخف من الجاموس ، أخف فى كل شئ ، وزنه وهيئته وحركته وقوته ، حتى كثافة لبنه ودسمه أشد خفة من لبن الجاموس ، توضع كمية مناسبة من الطعام أمام جذع النخلة تكفى البقرة لبضع ساعات ، يعود الصبى بصحبة أمه إلى الدار بعد أن أحضرت بعض الخضار من الحقل ، تصنع له ساندوتشا وتخبره أن يحمل قلمه وكراسته ويسرع إلى الكُتاب .
الكٌتاب قريب ، دقائق من المشى ، يخرج من حارتهم الصغيرة ، يتجه ناحية اليسار ثم ناحية اليسار مجددا ثم ناحية اليمين لمسافة قصيرة وعلى الجانب مقر الكُتاب .
مساحة واسعة محاطة بجدران من جهات ثلاث ، لا باب لها ، شُيدت من الطوب الأحمر والطمى ، يفترش الصبية الأرض ، الشيخ يجلس فى المقدمة على فرش من حصير ، بجانبه خرزانة يعاقب بها من يخطئ ومن يُقصر ومن فى حاجة إلى تأديب ، تعليم بلا ضرب كلحم بلا ملح ، يكنس الأطفال الكبار صحن الكُتاب فى بداية اليوم ونهايته وتجمع الأوراق المتناثرة ويقوم الشيخ بإشعال النار فيها فى مكان يبعد قليلا عن الكُتاب ، أمام الكُتاب فراغ كبير ، أقرب بيت على بعد مائتى متر ، يبدأ الشيخ بتصحيح الواجبات ، الأطفال الصغار أولا ، يبدأون بالاستماع إلى الأبجدية ثم ينتقلون إلى مرحلة كتابة الحروف ثم كتابة الحروف بالتشكيل البسيط " فتح وضم وكسر وسكون " ثم التشكيل بالشدة والمد والتنوين ، يلى ذلك كتابة الكلمات المكونة من حروف مقطعة مثل " و ز ن – ذ ر أ – و ر ث ... " ثم الكلمات ذات الحروف المتصلة ، كل ذلك من خلال كتيب صغير لمبادئ القراءة ، عُرف بإسم " و ز ن " ، وعند الانتهاء من دراسة ذلك الكتيب يكون الطفل قادرا على القراءة والكتابة جيدا  فينتقل إلى مرحلة تعلم القرآن ...
يُصحح الشيخ للجميع وحينما ينتهى من الصغار ينتقل إلى حفظة القرآن واحدا واحد ، يبدأ بتصحيح واجباتهم ثم يبدأ  كل منهم بتلاوة اللوح المقرر عليه غيبا يتبعه بتلاوة الماضى مما حفظ قبلا وتختلف أعداد آيات اللوح والماضى المقررين باختلاف عمر الطفل واستيعابه وحفظه ، وبعد أن ينتهى الطفل من التسميع يتلو عليه الشيخ اللوح الجديد ويردد خلفه الطفل ثم يحدد له الشيخ الماضى والواجب للغد وهكذا مع كل طفل إلى أن ينتهى الشيخ من الجميع ...
الظهر اوشك على الأذان ، يختار الشيخ طفلا كبيرا ، يسأله أن ينتبه لزملائه حتى يعود الشيخ من المسجد بعد أداء الصلاة ، يقوم الطفل خلال تلك الفترة بالوقوف أمام السبورة المصنعة من خشب والمطلية بلون أسود ، نسخت عليها حروف الهجاء ، يردد الطفل ويررد الأطفال خلفه ثم ينتقل فيقرأ بالتشكيل ثم التنوين ثم قراءة بعض قصار السور يليها بعضا مما يحفظ من حديث رسول الله صل الله عليه وسلم متبوعة بأسماء الله الحسنى ...
يعود الشيخ فيحدث الأطفال ويربيهم ويعلمهم ، كيفية الوضوء وأركان الإسلام وهيئة الصلاة ومبادئ الحساب ، يعلمهم الأخلاق ويربى فيهم حب العلم والعمل ، تعلم يا فتى فالجهل عار والجهل لا يرضى به إلا الحمار ، النبى كان رحيما أمينا صادقا صديقا يلقبه المشركون بالصادق الأمين ، كان عطوفا على الأطفال يضاحكهم ويلاعبهم ، ثم يعلم الأطفال بعضا من سيرة الصحابه وأخلاقهم ، يقرأ الشيخ بعض قصار السور ويردد خلفه الجميع ويختم بـ سورة العصر يتبعها نهاية الصافات" سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " ، ينتهى اليوم فيسمح الشيخ للأطفال الصغار بالانصراف أولا يتبعهم الأقدم سنا ولا يظل سوى من يختاره الشيخ لتنظيف صحن الكُتاب ، يوم الخميس يسمح بالانصراف باكرا حيث تعود أمهات الأطفال من السوق وقد اشترت لهم الفواكه التى ينتظرونها أسبوعيا ...


الاثنين، 3 فبراير 2020

الواحة


وكأنى أسير وسط منطقة غريبة عنى ، مزارع ، مجرى مائى ، حقول زراعية ، الطريق منحدر ، أسير على غير هدى ، أسأل أول شخص ألقاه فيخبرنى أن أمامى طريقان ، اسلك الطريق المقابل ولكنك لابد أن تمضى وقتا طويلا حتى تصل للطريق الرئيسى ، وتستطيع أن تختصر المسافة مرورا ببعض الحقول والحظائر التى تواجهك ، اخترت الطريق الثانى وبدأت السير ، كلاب ضاله تجرى متجهة نحوى ، يقشعر بدنى وأرتعد قليلا ، يدركنى صاحبها قبل أن تعتدى على ، يخبرنى أنى لابد أن أستقل معدية أصل إليها بعد قطع مسافة من السير على هذا البر ، المعدية تنقلنى الى البر الغربى ، بالمجرى المائى ما يشبه السدود مصنعة من براميل رصت متجاورة وربطت بحبل يصلها كلها مجتمعة ويحافظ على وجودها كى لا تسحبها المياه أثناء جريانها ، الحبل مجدول من التيل ، الأشجار متناثرة ، كافور وصفصاف ، مجموعات من البامبو ، نخيل على مسافات ، جميزة عتيقة ، قطع أخشاب ، أعواد جافة ، تراكمات وكتل من الطمى ، بعضها مكور يشبه ثدى مكتنز وبعضها مترهل وبعضها صلد كصخر ، ومنها القاسى قلبه رغم لين ملامحه ،  فى البر الغربى الطريق ممهد لكن طوال سيرى لم ألمح سيارة واحدة تمر ، ولازلت أجهل السبب ، لا أعلم ماذا أتى بى إلى هنا ، كنت نائما أو كنت غائبا أو كنت تائها أو أن عينى غفت وفجأة وجدتنى هنا ، لا أعلم متى وأين البداية ، لم أرانى مستلقى تحت ظل شجرة ، وجدتنى وسط زروع ، ألتفت يمنة ويسرة فلا أستطيع معرفة مكانى  ، أواصل السير ، يدعونى شيخ عجوز لتناول لقيمات معه ابتسم له واشكره ، يقسم أن أتناول ولو كوبا من الشاى فألبى دعوته وأبر بقسمه ، يفرش الأرض ببعض أعواد القش ، يسوى ما بينها ، أقترب وأجلس بجانبه ، يقدم إلى الطعام ، خبز وجبن وخضروات ، أشكره مجددا ، تناول قدر استطاعتك حتى يغلى الشاى ، ألتهم الطعام وفجأة أشعر وكأنى ما تناولت طعاما منذ أيام ، لا أعرفك يا بنى ، لم أرك هنا من قبل ، نعم لست من هنا ولا أعرف أين أنا ولا كيف جئت هنا ، حكاية لا أعرف معالمها ، يتأملنى الشيخ العجوز ويحافظ على صمته وبسمة تعلو وجهه ...
أشرد ثانية سابحا فيما حولى ، عشة قوائمها أعمدة صنعت من جذوع الأشجار ، أربعة قوائم تتخلها عيدان الغاب ، جدلت فيما بينها بالخوص ، السقف من ذات المكونات ، أعد فى شكل طبقات كل طبقة تعلو الأخرى ودعمت بحزم من القش ، يقطع شرودى صوت الشيخ يقدم إلى الشاى ، أنتهى من شرب الشاى ، أشكره وأستئذن للرحيل ، يبتسم إلى وتتبدل ملامح وجهه فتسير سماته حائرة ويوصينى " انتبه لطريقك فليس كل ما فى الصحراء سراب وفى الصمت خير وفى الغيب رحمة " .
أبتسم وأقبل رأسه شاكرا ممتنا وأواصل السير ، مواشى بالزرائب وأغنام وماعز ، حمار مستلقى ممدا أقدامه ، بقرة غطى على عينيها وعلقت بساقية مصنعة من صاج قديم تدور على ترس حول قطرها  ومثبتة ، جذعى شجر أحدها وضع على رقبة البقرة والأخرمن خلفها ، موصولة بحبل ، تدور البقرة فينهمر الماء من فتحات الساقية فيجرى إلى قناة صغيرة شقت وسط الحقول ، طفل صغير يمسك بحبل بقرة أخذها ليسقيها الماء من القناة الضيقة والبقرة قد حنت رأسها لتروى عطشها ، الأشجار هنا تبدو قديمة قدم الزمان ، جفت جذوعها وأرهقتها الأيام والسنوات التى مرت عليها ،على الجسر سويت قطعة صغيرة وبنى من حولها سور بارتفاع صغير وتركت فى السورمساحة فارغة أعدت كـباب للدخول ، فرشت بحصيرة قديمة تحيطها أعواد القش ، ووسطها كهل يصلى ، بجانبها طلمبة لاستخراج المياه الجوفيه وأمام الطلمبة بنى حوض جدرانه خضبت بالأسمنت ، بنى على مرحلتين  ، الأولى مرتفعة بحيز ضيق والثانية أكبر وقاعها أشد عمقا أعدت لسقيا البهائم والماشية ، ألمح المعدية على مرمى البصر فأبتسم !

السبت، 1 فبراير 2020

نجمة أغسطس " مقتطفات "


مقتطفات
·       كان التراب تتخلله قطع من الصخور الرمادية والزرقاء المختلفة الأحجام وكان يرتفع إلى مستوى منبسط من الرمال تعمل فوقه عدة آلات متحركة وينتهى بخط من البراميل المتجاورة يبدأ خلفها مستوى مرتفع جديد من الصخور ...
·       مضيت من أمام عشرات المحلات الصغيرة التى تبيع كل شئ سوية من الورق إلى الملاءات والطعمية ، لمحت مبنى جمعية تعاونية بواجهته الخضراء التقليدية المؤلفة من عدة أبواب فولجته ، ودفعت عند المدخل ثمن أربع قطع من الصابون وأخذت إيصالا قدمته إلى أحد الباعة فأحضر كيسا رص فيه الصابون ورأيته يسقط قطعة منه على الأرض فى الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع ظننتها زائدة وعندما وصلت الفندق اكتشفت أنى عدت بثلاث قطع فقط ...
·       ارتجت الأرض من حولنا ، وأمسكت بالحاجز فى قوة ، طارت بضع صخور فى الهواء وتصاعد الغبار فى سرعة فحجب المكان كله وعندما طاولت ألسنته السماء شرع يزحف نحونا منتشرا فى كل اتجاه ...
·       الخريطة كانت تمثل قطاعا عرضيا فى السد مقسما بالألوان إلى قطاعات متعددة متباينة الأحجام ، تشير إلى المواد المختلفة التى يتكون منها السد ، كان بعضها يمثل الصخور وبعضها الأخر الصخور الملبسة بالرمال الناعمة والثالث الرمال الخشنة ، وفى الوسط حيث يرتفع السد فى شكل هرمى مثلث رمادى اللون يشير إلى النواة الصماء التى تتكون من الطمى ، كان هذا المثلث يمتد فى شبه عمود أسف مستوى السد إلى قاع النهر وكان يمتد منه خط أفقى إلى الجزء الأمامى من جسم السد المواجهة لمنابع النيل ...
·       ولعنة العصر يمكن أن تصبح أروع نعمة عندما يخلو المبنى الأصفر الكئيب من صداه وتتشوق الآذان إلى نغمة واحدة تصل بنى البشر بماضيهم ، لكن الأزرار فى يد حارس يدرك أنه لو سمح للصوت أن يتسرب لإلتوت جميع الآذان فى اتجاهه وعند الغروب اقتادونا إلى الفناء فى سكون مطبق وأجلسونا القرفصاء على الأرض ليؤكدوا لنا أننا فقدنا حريتنا .
·       فوقنا امتدت السماء شديدة فى الصفاء لا أثر بها للقمر أو النجوم .
·       كانت هناك خارطة للموقع بدا السد فيها كائنا ضخما يواجه الجنوب وقد احتجز الماء بجسده وارتكز بساعديه على حافتى النهر باسطا إياهما إلى أقصاهما وبدت الذراع اليمنى أطول من اليسرى بوضوح وفى موقع القلب استقرت النواة الصماء وامتدت ستارة رأسية صلبة إلى قاع النهر وأخرى أفقية تخللت الساعد الأيمن ..
·       أبطأ الصندل سرعته ومضى يدور فى بطء حول كتلة ضخمة من الصخور برز فى وسط المجرى وبدت لى الصخور فى صورة جماعة من المماليك الذين لجأوا إلى النوبة فرارا من مذابح محمد على وقد تجمعوا لبحث أمر خطير وأحنوا رؤوسهم التى تغطيها عمائم ضخمة .
·       راقبت الشمس وهى تختفى خلف سحابة داكنة صانعة زجزاجا ذهبيا فر طرفها الأول وضوءا مكتوما فى الطرف الأخر ثم تبدت لحظة من خلال فجوة وسط السحابة ثم اختفت من جديد فى ثناياها .
·       أوشكت الشمس على الظهور من طرف السحابة الأسفل وما لبثت أن تجلت قوسا متوهجا كالبدر وأخذت السحابة تتحلل أمام وهجها حتى تلاشت وتبدى قرص الشمس كاملا .