السبت، 8 فبراير 2020

الكُتاب


الساعة تقترب من السادسة صباحا ، يعود الوالد من صلاة الفجر ، كعادته يؤدى الصلاة ويجلس يتلو القرآن مع الشيوخ بالمسجد ، جلسة تلاوة صباحية ، اعتاد الناس على الجلوس فيها لتلاوة آيات من كتاب الله بخشوع وتدبر ، كل منهم يتلو ربعا من القرآن ، لا يهم أن تكون ماهرا بالقرآن ولا يهم حتى أن تكون مجيدا أو مستطيعا للقراءة ،فيمكنك الجلوس للاستماع ، القرآن مالوش كبير يا بنى حتى ولو كان يحمل أعلى الشهادات فيمكنه أن يخطئ فى قراءة القرآن لأن القرآن يُتلقى فتتعلم قرائته ، ليس كتابا عاديا يستطيع الكل قرائته ومع ذلك فقد يسر الله قرائته وحفظه لمن يريد " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر "  ، يجلس بعض الصبية محاولين التقليد والتعلم من الكبار والإندماج وسطهم ويشجعهم الشيوخ على ذلك ،  يبتسمون لهم ويضاحكونهم ويشدون على أيديهم ، لا تقلدوا شيوخ السعودية ، كن على فطرتك وسجيتك يا بنى تكون أفضل وتقرأ بشكل صحيح ، تنتهى القراءة فيغادر البعض سعيا لقوت يومه ويبقى البعض منتظرا حتى طلوع الشمس وتتخطى أوان شروقها برمح او رمحين فيصلى ركعات الضحى آملا أن يُحصل أجر حج وعمرة .
يطرق الرجل على الباب فتسرع الزوجة لتفتح ، يسألها هل أيقظت الأولاد للصلاة فتجيب الجو بارد فتركتهم نائمين ، الشمس أوشكت على الشروق لابد من إدراك الصلاة قبل الشروق ، ينادى على الأبناء استيقظوا وأسرعوا كى تدركوا الصلاة قبل الشروق ...
تُعد الأم الإفطار ، تساعدها البنات ، تشعل النار على ما تبقى من طعام العشاء ، تسخن بعض الخبز وبعض البطاطس التى تم قليها بالزيت وقطعة من الجبن الطازج فصلت لتوها من الحصيرة وأضيف إليها القليل من الملح لضبط طعمها وبعض من الخضروات ، كل ذلك وضع على طبلية تتوسط الغرفة ، يتناول الكل الطعام ، تجلس الأم فى جانب من الغرفة تصنع لفافة من الورق ، تضع بها خبز وجبن وخضروات ، تلفها جيدا ، أصبح شكل اللفافة اسطوانيا ، هذا غداء والدكم ، يغادر الوالد قبيل الساعة السابعة ويعود عند الغروب ..
الإبن البكر يصحب الأم إلى الحقل ، يمسك بيده حبل البقرة التى تسير أحيانا أمامه وأحيانا خلفه وأحيانا جانبه ، يألف البقرة وتألفه ، يقرب يده من فمها فتداعبها بلسانها ، يبتسم لها ويربت على جبهتها ، يشقون الطريق الزراعى وسط الحقول حتى يصلون إلى الحقل ، حبات الندى تغطى الزرع ، أذن الصبى صارت حمراء وأنفه زُكمت ، على رأس الحقل مُهدت مساحة صغيرة صنع بها ما يشبه الحظيرة ، شطر من جذع نخلة قيدت حركته بقطع من الأخشاب ثبتت حوله كى لا تدفعه البقرة من مكانه ، أمامه وتد " قطعة خشبية تأخذ شكل اسطوانى تقطع من فروع الأشجار يعقد به حبل البقر عدة عقد حتى لا يكون سهل الفك فتحله البقرة أو تنزعه ، وبقطعة أخرى من الحبل تقيد قدميها الأماميتان ، يترك الحبل بطول مناسب حتى تستطيع البقرة تحريك رأسها بحرية وتناول طعامها والنوم وقتما تشبع ، البقر أخف من الجاموس ، أخف فى كل شئ ، وزنه وهيئته وحركته وقوته ، حتى كثافة لبنه ودسمه أشد خفة من لبن الجاموس ، توضع كمية مناسبة من الطعام أمام جذع النخلة تكفى البقرة لبضع ساعات ، يعود الصبى بصحبة أمه إلى الدار بعد أن أحضرت بعض الخضار من الحقل ، تصنع له ساندوتشا وتخبره أن يحمل قلمه وكراسته ويسرع إلى الكُتاب .
الكٌتاب قريب ، دقائق من المشى ، يخرج من حارتهم الصغيرة ، يتجه ناحية اليسار ثم ناحية اليسار مجددا ثم ناحية اليمين لمسافة قصيرة وعلى الجانب مقر الكُتاب .
مساحة واسعة محاطة بجدران من جهات ثلاث ، لا باب لها ، شُيدت من الطوب الأحمر والطمى ، يفترش الصبية الأرض ، الشيخ يجلس فى المقدمة على فرش من حصير ، بجانبه خرزانة يعاقب بها من يخطئ ومن يُقصر ومن فى حاجة إلى تأديب ، تعليم بلا ضرب كلحم بلا ملح ، يكنس الأطفال الكبار صحن الكُتاب فى بداية اليوم ونهايته وتجمع الأوراق المتناثرة ويقوم الشيخ بإشعال النار فيها فى مكان يبعد قليلا عن الكُتاب ، أمام الكُتاب فراغ كبير ، أقرب بيت على بعد مائتى متر ، يبدأ الشيخ بتصحيح الواجبات ، الأطفال الصغار أولا ، يبدأون بالاستماع إلى الأبجدية ثم ينتقلون إلى مرحلة كتابة الحروف ثم كتابة الحروف بالتشكيل البسيط " فتح وضم وكسر وسكون " ثم التشكيل بالشدة والمد والتنوين ، يلى ذلك كتابة الكلمات المكونة من حروف مقطعة مثل " و ز ن – ذ ر أ – و ر ث ... " ثم الكلمات ذات الحروف المتصلة ، كل ذلك من خلال كتيب صغير لمبادئ القراءة ، عُرف بإسم " و ز ن " ، وعند الانتهاء من دراسة ذلك الكتيب يكون الطفل قادرا على القراءة والكتابة جيدا  فينتقل إلى مرحلة تعلم القرآن ...
يُصحح الشيخ للجميع وحينما ينتهى من الصغار ينتقل إلى حفظة القرآن واحدا واحد ، يبدأ بتصحيح واجباتهم ثم يبدأ  كل منهم بتلاوة اللوح المقرر عليه غيبا يتبعه بتلاوة الماضى مما حفظ قبلا وتختلف أعداد آيات اللوح والماضى المقررين باختلاف عمر الطفل واستيعابه وحفظه ، وبعد أن ينتهى الطفل من التسميع يتلو عليه الشيخ اللوح الجديد ويردد خلفه الطفل ثم يحدد له الشيخ الماضى والواجب للغد وهكذا مع كل طفل إلى أن ينتهى الشيخ من الجميع ...
الظهر اوشك على الأذان ، يختار الشيخ طفلا كبيرا ، يسأله أن ينتبه لزملائه حتى يعود الشيخ من المسجد بعد أداء الصلاة ، يقوم الطفل خلال تلك الفترة بالوقوف أمام السبورة المصنعة من خشب والمطلية بلون أسود ، نسخت عليها حروف الهجاء ، يردد الطفل ويررد الأطفال خلفه ثم ينتقل فيقرأ بالتشكيل ثم التنوين ثم قراءة بعض قصار السور يليها بعضا مما يحفظ من حديث رسول الله صل الله عليه وسلم متبوعة بأسماء الله الحسنى ...
يعود الشيخ فيحدث الأطفال ويربيهم ويعلمهم ، كيفية الوضوء وأركان الإسلام وهيئة الصلاة ومبادئ الحساب ، يعلمهم الأخلاق ويربى فيهم حب العلم والعمل ، تعلم يا فتى فالجهل عار والجهل لا يرضى به إلا الحمار ، النبى كان رحيما أمينا صادقا صديقا يلقبه المشركون بالصادق الأمين ، كان عطوفا على الأطفال يضاحكهم ويلاعبهم ، ثم يعلم الأطفال بعضا من سيرة الصحابه وأخلاقهم ، يقرأ الشيخ بعض قصار السور ويردد خلفه الجميع ويختم بـ سورة العصر يتبعها نهاية الصافات" سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " ، ينتهى اليوم فيسمح الشيخ للأطفال الصغار بالانصراف أولا يتبعهم الأقدم سنا ولا يظل سوى من يختاره الشيخ لتنظيف صحن الكُتاب ، يوم الخميس يسمح بالانصراف باكرا حيث تعود أمهات الأطفال من السوق وقد اشترت لهم الفواكه التى ينتظرونها أسبوعيا ...


1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

أبدعت في الوصف .....سبحان من وهبك وزين عقلك.....وكأني أراها مشاهد حقيقيه تتجسد في صورة أسرة علي سجيتها وأب بسيط وأم طيبه وإفطار شهي وبسيط حتي البقره ووصفكم الفرق بينها وبين
الجاموس.....شيخكم وكتابكم حتي خميسكم ....فعلا حقيقي أبدعت