السبت، 25 سبتمبر 2021

صفحات من زمن فات

 

الليل تسرب ببطئ ، النهار ينسلخ منه ، تستريح العتمة ويتسرب الضوء بخطى ناعسة ، الطيور تُسبح ، تنادى على بعضها أن قوموا للصلاة ، يتصايحون ، يصدحون بالذكر ، نسيم الفجر يتدفق يشرح الصدور ، العصافير تنفض أجنحتها ، الصغار تنقرهم امهاتهم برؤوسها ، تداعب صدورهم وظهورهم ، تمسح على رؤوسهم وتمسد أجسادهم ، الأشجار لازالت فى سبات عميق ، السماء فضية ، السحب تخرج فرادى وجماعات ، تسير على مهل ، لازال النوم مسيطر على رؤوسها ، السيارات بدأت تقطع الأرصفة ، يخرج الكادحون الى أعمالهم ، يسعى الكل لقوت يومه ، البكور مبارك ، يتدفق فيه الرزق رطبا طريا ، سهلا لينا ، مشقته منسية ، الجسد ينشط بسرعة بعد أن تنسحب منه أثار الليل ، القوة تدب فيه ، يزداد النور شيئا فشيئا ، السكون يتبدل والهمس تنبت اصواته والصمت يتردد صداه ..

أفتح صفحات كتبى المطوية فاقرأ " دخل الجيش الانجليزى الى عاصمتنا فكان لدخوله شئ مبهج وقد سُر الأهلون بتخلصهم من أسر الأحمق العاصى وطغمته ، فنادوا بالدعاء بتأييد سمو الخديو المعظم وحفظ أنجاله " ...

أى جريدة هذه التى يتصدرها هذا المقال " الأهرام " ... أكاد لا أصدق .... لابد اذن
أن الحديث عن أناس أفسدوا الوطن وأضاعوا مقدراته وفرطوا فى عرضه وممتلكاته وخانوا أمانته ، أقلب الصفحات بحثا عن الأحمق والعاصى وطغمته هؤلاء الذين فسدوا فأفسدوا .

أجد مبتغاى فى عدد أخر لذات الجريدة فى خبر عنوانه " البشرى العظمى " جاء فيه :-

" ورد تلغراف رسمى من الباسل الجنرال وولسلى أن السوارى الانجليزية احتلت العاصمة مساء أمس وأن الجيش قبض على العاصى عرابى " ...

لا أصدق عينى ، يبدو أن النوم مازال مسيطر على ، أهرع الى الداخل ، أغسل وجهى وأغرق رأسى بالماء وأعود اواصل البحث لعلى أجد الصحيح ، أعيد قراءة المنشور ، هو ذاته ، لم أكن ناعسا ولم أكن أحلم ، أنزل الى أسفل الصفحة مقال عنوانه " التهنئة " .... تهنئة بالاحتلال لأرضنا تختم بجملة " بُشراك يا مصر بُشراك فقد نلت المنى " ... عن أى بُشرى يتحدثون ..

أطالع كلمات الامام محمد عبده الخاده بعدما سجن بتهمة الانضمام الى العصاة " هل أستحق العقاب على حبى لبلادى والناس لها كارهون ؟ ، كلا والله لن يكون ذلك ، ولئن عشت لأصنعن المعروف ولأغيثن الملهوف ولأخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم ولأتجاوزن عن السيئات " ..

ثم تتوالى الأخبار وتصدر الأحكام بالاعدام على " أحمد عرابى و محمود سامى البارودى وخمسة أخرين من قادة الجيش الذين تعاونوا مع عرابى ثم تخفف الأحكام الى النفى المؤبد خارج البلاد ، ويقبض الخونة الثمن ...

لازال خطيب العصاة هاربا رغم أن ذات الجريدة زفت خبر القبض عليه بكلمات تتفجر نارا فى مقال عنوانه " نديم اللعين " جاء فيه : قبض فى العاصمة على نديم اللعين فاحتجب " الطائف " واختفى " الطائف صحيفة كان يصدرها عبدالله النديم وتدافع عن عرابى والجيش " ، وسجل الأكاذيب انطوى ، ونديم اللعين نادى والى النار قد هوى ، بغى واستكبر ، وأشار ودبر بالفساد والشر ، واستخدمه الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس ... لئيم خسيس النسب ، وغد دنئ الحسب ، خرب البلاد ونهب ، تبت يداه وتب ، سيصلى نارا ذات لهب " ، ثم كذبت الصحيفة نفسها الخبر فى اليوم التالى وأكدت أنه لا مفر له أين كان فهو على أى الأحوال فى زمرة المقبوض عليهم .

واختفى عبدالله النديم عن الأنظار فكثرت الشائعات فقالوا هرب الى السودان ، ايطاليا ، بيروت ، ذهب الى عرابى فى منفاه ، بل قالوا قد مات ، والرجل لم يخرج أساسا من مصر وظل فيه يتخفى ويتنكر ويبدل هيئته ، يصحبه خادمه ، حتى أُعلن عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يدل عليه ، أواه واحدا من أحبابه ولما قضى نحبه أواه ابنه من بعده إلى أن وشى به بعض أقاربه ففر من هناك قبل الوصول الجند وفى طريقه تعرف عليه مأمور المركز وظن أن أمره انتهى لكن الرجل رغم أنه كان شركسى الأصل إلا أنه كان عربى الكرم ، فتركه لحاله ووهبه حياته وتخلى عن المكافأة رغم احتياجه اليها وتخلى عن الرتب والمناصب التى كان سيحصلها بالقبض عليه ، بل وأعطاه ثلاثة جنيهات كانت كل ما يملك قائلا له خذها واستعن بها على أمرك ونصحه ألا يسلك هذا الطريق فيقبض عليه غيره ....

الشمس طلت من خلف البنايات ، وأخذت تصعد الى السماء ، وبدأت عملها ، ترسل أشعتها لتكسو النسيم بالدفء ، استيقظت البيوت من نومها وأخذت الشرفات تُشرع أبوابها والنوافذ تفتح والستائر تزحزح تاركة لشعاع الشمس كامل الحرية كى يخطو الى الداخل .

الذٌباب يصحو مبكرا أيضا ، هجماته المتتالية جعلتنى أغلق الكتاب وأطوى الصفحات وأضع القلم واحمل اوراقى وأرحل ....

الخميس، 23 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا "39 "

 

أضواء السيارات فى الناحية الأخرى من الطريق تؤذى عينى ، لا أعلم لما لا يرفعون الحاجز بين الطريقين لمسافة تكفى ابعاد تلك الأضواء حتى لا يتضرر قائدى السيارات ليلا ، الظلام أقام جدرانا سوداء مصمتة ، مناطق العمل فى الطريق تفاجئك والاشارات التى تدل عليها ملقاة على جانبى الطريق ، ربما اصطدم بها أحدهم كان يعانى ما أعانيه وربما أسقطها الهواء ، أبدل القيادة مع صديقى ، قال أنه يعرف هذه المنطقة جيدا وسافر عليها كثيرا ، دقائق نقاتل خلالها العتمة والشاحنات التى كأنها تتصارع فى سوقها ، بوابة جديدة للرسوم ، نسير قليلا ثم ننعطف الى الطريق المتجه الى مدينتنا ، الطريق متسع والأضواء تصيره نهارا ، "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأراضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين، ورب البحار وما أخفين ، اللهم إنا نسألك خير هذه المدينة وخير أهلها وخير من فيها ، ونعوذ بك من شر هذه المدينة وشر أهلها وشر من فيها ، اللهم حببنا فى أهلها وحبب أهلها فينا ... امين ".

نمر على متجر شهير ، السيارات فوق بعضها امامه وكأن المدينة كلها تجمعت هنا ، نتخطاه مواصلين السير ثم ننعطف يسارا ونعرج الى أسف المدينة فنحضر أسرة صديقى ، أعود الى طارة القيادة مجددا وأصطحبهم الى بيتهم ثم أدور بالسيارة عائدا للخلف ، أتخطى بعض الطرق والمناطق الداخلية ثم أزلف الى مسكنى ، أنتظر فى السيارة دقائق حتى يهدأ ارهاقها قليلا و حتى ألتقط أنفاسى ، أغلقها ثم أحمل حقيبتى وأصعد شقتى .

لمكانك اشتهاء مختلف حتى لو كنت تعيش فى أجمل أماكن الدنيا ، يبقى للمكان الذى أعتدت العيش فيه مذاق مختلف ، رائحته تشبهك ، لونه يشبهك ، هى السماء التى اعتدتها والليل الذى تحبه والقمر الذى تصحبه والنجوم التى تصطف فوق رأسك تطل عليك فى شرفتك ، الأشجار التى تألف وجودك ، الجدران التى تشعر غيابك ، والأرض التى تعشق خطاك ، حتى المكان الذى تبيت فيه السيارة كان على حاله حزينا مهموما يعانى وحدته حتى عادت إليه فتلقفها بعناق .

البدن مثقل بالأوجاع ، مرهق من فرط المشقة ، وكل ضلع منه يسير وحيدا ، أنزع ثيابى وأفتح الماء فوق رأسى فينزل على جسدى وكأنه يصطدم بطاسة قلى السمك ، أمكث تحت الماء حتى نسيت أن الماء لازال يتدفق من أعلى ، أصلى وأتناول بعض اللقيمات مع أسرتى وتكاد عينى تسقط منى .

أستيقظ باكرا أمارس طقوسى وقبل الجميع أفتح ابواب مكتبى وأصف أوراقى وحاسوبى والمستندات التى أحضرتها معى ، أتصفح بعض الأشياء وأنظر فى بعض الملفات حتى بدأ أصدقائى فى القدوم .

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا " 38 "

 

مسافة قصيرة ثم دوران وانعطاف أخر ومواصلة للسير ، مبانى الجونة على اليمين تقف على ناصية البحر الأحمر وتقتطع أجزاء منه ، يحف الطريق إليها لافتات اعلانية ضخمة ، نواصل السير حتى نصل الى كمين للشرطة تلته بوابة المغادرة وطريق بينه وبين البحر يمينا بقعة رملية وصخرية ويسارا الصحراء بتلالها ووهادها ، عدة نقاط للشرطة والاسعاف وأماكن خدمات الطريق الخاصة والعامة ورادارت لمراقبة السرعة .

زرقة البحر تسحبك معها الى حيث تغرق السماء مع المياه فى عناق أبدى ، أعنقة جبال تطل من فوق المياه كأنها سفن تسبح ، بوارج تسير محملة تعلوها رايات مختلفة ، عشب وحشائش شوكية ، حطام سيارات ، اطارات مستهلكة ، زجاجات مياه فارغة ، معلبات مهملة ، قطع خشبية ورماد نار ،  أوراق وفضلات من ملقيات المسافرين وسائقى الشاحنات .

الشمس فى الشتاء تطل خجلة ، تفتح عيناها فجأة فى كبد السماء ثم تغمضها بسرعة ، تأتى السحب عليها وتتكدس أمامها فتحجبها تماما ، الهواء القادم من نوافذ السيارة يغيب صوت المسجل فلا أسمع شيئا مما يقال ، أرفع الزجاج قليلا ثم أعاود فتحه مجددا فلست من محبى القيادة ونوافذ السيارة مغلقة ، أمر بجانب السيارات وتتخطانى غيرها ، كمين للمرور يشير الى البعض أن يتوقف وعندما أتى دورى نظر الى لوحة السيارة ثم أشار لى أن واصل سيرك  ، مرتفعات جبلية يتقدمها سهول ووديان ومدقات تقطعها السيارات للانتقال من هنا الى هنا دون الانتظار الى الدورانات الرسمية ، الصخور تتناثر ، الكثبان الرملية ، فضلات حيوانات ، وعظام متآكلة .

الجبال ترفع رؤوسها حتى تكاد تلامس السماء والسماء تقترب حتى تُقبل المياه والطريق يتلوى كثعبان هارب ، السماء تصفو فكأن السحب ولت و الهواء يرسل قبلات باردة ، أرى بوابة عالية أنعطف قبلها يسارا ثم أسلك الطريق يمينا صاعدا الى بداية طريق جديد ، محطة للوقود أقف عندها ، أنتظر السيارة التى أمامى حتى تنتهى ، تقودها فتاة ترتدى عوينات بإطارات كبيرة ، شعرها قصير متعرج ، تنتهى من الوقود فتتحرك الى الأمام ثم تركن السيارة وتترجل منها وتزلف الى داخل المحطة ، أزود السيارة بالوقود ، أترجل منها كى أريح قدمى قليلا ، أتناول شيئا من العصائر ثم أواصل السير ، بوابة جديدة للرسوم أدور حولها حتى أجد الطريق الذى أمر منه فكل الممرات كانت مغلقة باستثناء واحدا على أقصى اليسار ، أتخطى البوابة وانعطف يمينا فى الطريق الذى شق بين الجبال ، تلحقنى الفتاة ثم تتخطانى مسرعة ، البحر بالأسفل ، بعيدا هناك ، لا تحاول النظر حتى لا يصيبك الدوار ، استراحات للسيارات خالية من الخدمات هى فقط مساحة جانبيه متسعة تستطيع فيها الترجل من سيارتك قليلا والاطمئنان عليها وتبدل بنفسك أطارها ان كانت فى حاجة لذلك أو أن تنتظر حتى تبرد كليل ثم تزودها بالماء او الزيت وهكذا ...

النهار ينتهى والسماء اكتست بجمال أرجوانى بديع ، السيارات تزيد سرعتها والكل يتعجل تخطى هذه المسافة قبل أن يسقط علينا الليل لكن ارتفاع الطريق وعلوه يحد من سرعتك رغما عنك ثم يهوى بك أيضا رغما عنك ، فى وسط كل تلك الجبال والصخور والكثبان ترى لافتات عملاقة ومبانى رائعة ثم تعلن اللافتة عن مدينة من مدن الأثرياء التى نراها فى اعلانات القنوات يزفها إلينا المشاهير ، ومنطقة عمل تتسابق إليها الشاحنات العملاقة محملة وفارغة .

أواصل السير حتى تغرب الشمس وأنحرف إلى طريق أخر فييدركنى الليل عنده ، القيادة فى الليل ترهق نظرى وهذا الطريق خالى تمام من الانارة فى كل هذه المسافة ، أقود ببطئ وتبدأ  بعض المناطق الجديدة تولد من حولى .

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

يقف وحيدا فى باحة القصر

 

يجلس فى شرفته ، وحيدا كعادته ، يقلب وجهه فى السماء ، يرقب السحب ، ينتظر القمر ، يبحث عن نجم ، يطالع كتابا ، شغوف بالتأمل ، بالمطالعة ، بقراءة ما لا تنطقه الألسن ، يثق أن لكل شئ لغته الخاصة ، حتى الجماد ... الكل يتحدث بشكل ما ! .

السماء الليلة بيضاء باستثناء بقع صغيرة رمادية  ، السكون نثر على الكون بسخاء ، النسمات تلهو ، تتقافز ، تداعب الأغصان ، الليل لباس الأنفس ، راحة وطمأنينة ، هدوء وسكينة ، وستر لكل شئ  .

أنفاس الليل الباردة ورائحته العطرة ترطب الوجوه ، السلام يتسرب الى الداخل ، الصدر منشرح يمتص أكبر كمية من الأكسجين وكأنه صدر غواص ، يحتفظ بالهواء كى يبقى تحت الماء أطول وقت ممكن .

يقطع شروده محرك سيارة غبى ، يهدر بصوت متعجرف ، العجلات تخط فى الأرض وكأنها تحفر وراءها مجرى مائى ، تقابلها سيارة قادمة من الجهة الأخرى ، يعلو صوتها مرة واحدة ثم يتوقف تماما وكأنه أغشى عليه .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، هام عشقا بـ " زبيدة " ذات العينين الرائعتين والبشرة الخمرية والقوام المبسوط والقامة الطويلة والطلة البهية ابنة " منطقة رشيد " ، يطلب يدها من والدها فيوافق شرط أن يعلن إسلامه ، يسلم ويصير اسمه عبدالله ، يتزوجان وينجبان سليمان ، يقتل كليبر ويصير عبدالله " مينو " قائدا للحملة الفرنسية ، لا يستقر للفرنسيس البقاء فى ارض الطغيان والمتناقضات فيودعها مصطحبا زوجته وولده ويقول " وداعا لمصر ، وداعا للمسلمين ، خرجنا نحمل الذكريات القاسية من بلدكم الذى يحوى أجمل الأثار ولنا ذكريات مؤلمة فى الصحراء ولكن المجد لنا لأننا سببنا لكم القلق وسكبنا الدماء فوق ضفافكم " .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، تقدم عمره ، يستعين بولده ، يرسل إليه ليعود ليتولى زمام الأمور ، الأب غاضبا منه ولكن لا مفر ، الابن لا تعجبه أفعال والده ولكنها الفرصة والفرص لا تتأتى كثيرا ، يستعد لتولى زمام الأمر ولكن للقدر تدبير أخر ، يباغته المرض فيملؤ صدره فيقضى نحبه  ثم يلحق به والده بعده بفترة وجيزة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر فيما سيقوله الناس عنه ، وماذا سيخلده التاريخ له ، يسأل كل من يلقى ، حتى الخدم والحاشية والحلاق ، يجمع المخابيل والدراويش والمشعوذين وقارئى الكف ، جلسات تحضير الارواح تعد فى القصر ويؤمن بها ايمانا كاملا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، ثم يصدر أوامره لمسيو براناى أن يصك عملة تحمل اسمه ولا تحمل اسم الخليفة العثمانى فيسافر الرجل الى فرنسا ويقوم بصك العملة كما طلب وعندما يعود يكون الرجل قد رحل وحل محله أخر فيصدر تعليماته أن تضرب العملة مجددا ويعاد صكها بحيث تحمل اسمه هو واسم الخليفة العثمانى .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، الحماقات جعلت الديون تكثر وتتكاثر ، يقرر تقسيم الأزبكية وبيعها ليجنى بعض الأموال ، يعيد تشغيل الموظفين الذين أحيلوا الى المعاش بشرط أن يردوا الأراضى التى منحت لهم فيتسابقون الى فعل ذلك ، فيستولى على الجيد منها لنفسه والردئ يرد الى خزانة الدولة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر كيف يمكنه تغيير نظام الحكم فى أسرة محمد على بحيث يكون لابنه من بعده ، تأتيه الفكرة ويرسل لجس الأمر عند الخليفة العثمانى وتأتيه البشارة بالموافقة المبدئية فيمنح حامل البشارة خمسة عشر ألف جنيه استرلينى وينعم عليه بترقية ...

وفى العام التالى يصدر الخليفة قرارا مغايرا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يتذكر ايام طفولته وأصدقاء صباه ، والداه واخوته ، أيام المعاناة والتعب ، فترات الخوف والهرب ، صحبه الذين كانوا حوله والآن لا يجد واحدا منهم بجواره ، كلهم رحلوا ، أقصد كل منهم رحل بطريقة ما ، منهم من لقى حتفه ، منهم من قبض عليه وألقى فى مكان غير معلوم ، منهم من نُفى خارج البلاد ، منهم من ذهب عقله ومنهم من صار درويشا ، يذكر جيدا ما فعله لكل منهم ، يود أن ينسى ذلك ، يأتى على الكأس الذى فى يده دفعة واحدة ثم ... يسقط وحيدا فى باحة القصر ...

يعلو صوت المحرك مجددا ثم تولى مخلفا وراءه مزيجا من الغبار والدخان الكريه وصفحات التاريخ التى لا تنتهى منها الحكايات ولا تخلو من الغدر والخيانات ....

الاثنين، 20 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا " 37 "

 

ننتهى من طعامنا ، نغادر المكان ، نقف على الناصية ، نشير الى أول سائق ، نخطره بوجهتنا ، يقطع بنا الشوارع والطرق ، يحاول تخطى الأخرين ، حتى كدنا نصطدم بأحدهم ولكن الله سلم .

نصل الى وجهتنا ، نترجل من السيارة ، الوقات لازال باكرا ، نواصل السير فى الشوارع ، نطالع تفاصيل الأبنية ، عادات الأشخاص ، نتجه يمينا ، نسير فى الممشى مسافة طويلة حتى خلا المكان من الأشخاص ، ولكن الأبنية لا تنتهى ، نعود وننعطف يسارا سالكين طريقا أخر ، أبنية خاصة كبيرة المساحة تحيطها أسوار وحراس امن ، يضعون مقاعدا ويلتفون حول بعضهم وبالقرب منهم كلاب تلهث وأمامهم حواجز حديدية ، تسحب إحداهن جروها وتسير كأنها تتقافز ، الأضواء تحد من شدة الظلمة ، الشوارع متسعة ، نتخطى رصيف الى رصيف ، نحاول تبين وجهتنا ، أى مسلك قريب يوصلنا الى حيث نقطن ، مجددا نبحث فى خرائط جوجل ، سيارة تمر مسرعة ثم صوت المكابح يصرخ ومعها رائحة الاحتكاك بالطريق ، مستشفى تحت التجهيز ، بنايات ضخمة خالية من البشر ، نلمح ماركت نتبين اسمه نظنه ذلك القريب منا ثم اتضح انه فرع أخر له ، ننتهى الى تقاطع نتوقف عنده نلتفت يمينا ويسارا حتى بدت لنا وجهتنا ، انعطفنا يمينا وسلكنا الممشى الفاصل بين جانبى الطريق حتى وصلنا ، صعدنا الى مبيتنا الصغير ، بدلنا ثيابنا ، التلفاز كالعادة وشاى يجهز ، أخرج حاسوبى وأخرج الى الشرفة وأواصل مشاهدة " ما وراء الطبيعة " ، أصوات تأتى من الشقق المجاورة ، الكثير فى شرفاتهم يمارسون عاداتهم ، يغلبنى النعاس ، اغلق الحاسوب وأدخل الى الغرفة ، اطفئ الأضواء وأستلقى على السرير .

أصحو عند الفجر ، أصلى وأقرأ ، أحاول أن أنام فلا أتمكن ، أمارس بعض التمارين الرياضية ، أزيح الستائر ، أرقب حمام السباحة ، القطة كعادتها تحاول شرب الماء ، البعض يخرج مبكرا ساعيا الى وجهته ، السكون يعم ، والشمس لازالت نائمة خلف السحب ، المكان خالى من الأشجار ربما لهذا غاب صوت طيور الصباح ، يمر الوقت ، نجمع أشياءنا ونعد حقائبنا جيدا ، ونزيل بقايا الطعام من الثلاجة وننظف المكان جيدا ونعيده كما كان ، نغلق الشرفة ونطفئ الأنوار وننزع فيشة الثلاجة والميكروويف ونحمل كيس القمامة معنا ، نغلق باب الشقة جيدا ونلقى القمامة فى الصندوق على يسار المدخل ، نودع حارس الأمن ، نراجع السيارة جيدا ونزودها بحاجتها من المياه ونسرع الى وجهتنا نود الانتهاء باكرا اليوم حتى نعود الى مدينتنا مجددا ، على عجل بدأنا العمل ، وزعناه جيدا بيننا ، نقاط محددة ومستندات معينة طلبت صورة منها ، قائمة بالملاحظات والأشياء المطلوب تجهيزها وإرسالها لنا ، الظهر أذن والوقت يجرى ، شكرناهم على حسن الضيافة واستئذناهم فى المغادرة بعد ان سلمناهم مفتاح الشقة ، ركبنا السيارة ودرنا بها للخلف ثم انعطفنا يمينا مستقلين طريق العودة .

الأحد، 19 سبتمبر 2021

وقت مستقطع

 

أجرى من هنا لهناك ، أسابق الزمن ، أشياء تتكدس فوق رأسى ، أكوام من المسئوليات ، أعمال كثيرة مطالب بإنجازها فى وقت قصير ، إلتزامات كثيرة واجبة الوفاء قريبا ، الصداع يفتك برأسى ، أغادر الفراش ، أنُهى الشياء المعتادة التى تفعل كل صباح غير أنى لا أفطر ، أسرع إلى وجهتى ، سبقنى الكثير ، أصعد الى موظف الأمن ، يشير الى غرفة لها باب زجاجى ، موظف أخر يسجل الأسماء بخط ردئ ، لم أستطع قراءة اسمى عندما سجله وتوقعت أن ينادى على بإسم خاطئ ، عرفت منه فقط رقمى ، كراسى متفرقة صفت أمام المبنى فى هيئة غير منتظم ، أقيمت من فوقها مظلة ، تناثر عليها بعض الأشخاص ، أختار مفعدا فى المقدمة ، أقضى عليه وقت الانتظار ، أجرى العديد من المكالمات ، وقراءة سريعة ، تمر ساعة أو يجاوزها ، ينادى موظف أخر اسمى بشكل خاطئ كما توقعت ، يشير إلى أن احصل على رقم من موظف أخر، أنتظر مرة أخرى ، صالة كبيرة يبردها التكييف ، الموسيقى تعج ، معزوفات روتينية مكررة ، الناس مجرد أرقام ، صوت مذيعة رتيب ، ينادى أرقاما ويشير الى أرقام ، ولافتات ضوئية تعلن الأرقام ، اسمك وصفتك وكنيتك لا تعنى شيئا ، مجرد رقم ، يوزع على المكاتب ، انذارجرس يعلو باستمرار ، أصوات الناس تتداخل ، الكاميرات تلتقط صورا لكل شئ ، من بينها قطعا صورتى وأنا أكتب الآن ، مقعد فارغ يفصل بين كل شخص وأخر ، اجراءات احترازية ، يترك هذا المقعد خاليا حفاظا على المسافة الآمنة ، هكذا كتب فى الملصقات على تلك المقاعد يحفها لوجو الجهة ، كالعادة ليس دوما يلتزم الناس بتلك القواعد ، يسعدهم دوما تجاهل الاجراءات وتجاوز القوانين .

يحين دورى ، أتوجه الى حيث رقمى ، أحداهن سبقتنى وجلست على المقعد ، أنتظر بتعجب ، فيخبرها الموظف أن تنتظر بعض الوقت ، تغادر فأجلس فى دورى ، أعطيه الرقم ، أخبره بالمعاملة التى أريد اجرائها ، يطلب بعض المستندات ، أقدمه له وأوقع على بعض الأوراق ، ثم يطلب منى الانتظار مجددا لبعض الوقت " عشر دقائق او ربع ساعة " حتى ينتهى من التوقيعات اللازمة ثم ينادى على مجددا ليسلمنى إخطارا بتنفيذ المعاملة .. هكذا قال ولم يفعل بعد ..

المكان يعج بالناس ، كل مشغول فى شأنه ، نساء ورجال ، شباب وشيوخ ، النساء تسعد بصحبة أطفالها معها لتلك الأماكن ، أسبابها كثيرة أو هى هكذا دوما ، ولا يسعنا سردها هنا وإلا لنفدت الكتب وجفت الأقلام وانتهت الأوراق وصرخت الصحف دون أن نتنهى من سرد تلك الأسباب ، عندما ترغب المرأة فى فعل شئ تفعله ، سواء وافقت أو .... وافقت والأفضل أن تتركها تفعل لسلامتك وسلامة من حولك ، حفظ النفس واجب دينى كما تعلم ، محجبات ومسدلات شعرهن على أعناقهن ، لبس متسع وألبسة إلتصقت بالأجساد كأنها مادة طلاء ، هواتف كثيرة ترن مضطربة .

أضع حاجاتى على المقعد المجاور ، حافظة بلاستيكية تحوى أوراقى  ، هاتفى ، محفظة جلدية سوداء بها بطاقات التعريف الخاصة بى ، عملات نقدية ، رخص القيادة ، كمامة لوقت الحاجة ، أصص الأشجار تفصل بين المقاعد ومثلها تفعل الأعمدة ، ألوان الجدران هادئة ، ثبت على جوانب منها شاشات للعرض ، أتجول فى وسائل التواصل ، واتساب ، فيس بوك ، تليجرام ، انستغرام ...

أتابع رسائل العمل ، اقرأ بعض مما كُتب ، الكثير متداول ومكرر يجعلنى أمل ، أشياء كثيرة منزعة القيمة تتداول ، هكذا الناس أو أكثرهم تشغلهم توافه الأشياء ، الحماقات دوما سوقها رائج والطلب عليها متزايد ، فيديوها تيك توك ، اعلانات شقق ووحدات سكنية وشاليهات ومنتجعات ومقابر أيضا ، عروض مصايف واسترخاء ، عروض مساج وتدليك ، مدربات محترفات ، ملابس ومساحيق تجميل ، عطور ومحفزات ومقويات جنسية ...

الوقت فى الانتظار دوما يمر ثقيلا ، اوشكت الساعة الثانية أن تنتهى أيضا ، طفل صغير يلهو فى المساحات الفارغة ، تلفت انتباهه أصص الشجيرات ، يقترب منها وينزع بعض الأوراق ثم يعود للخلف ثم يكر عليها ثانية وثالثة حتى انتبهت له أمه ، مالك ... تعالى هنا ، أدركت أمه النبتة قبل أن تدرك حتفها ، ينادى على الموظف باسمى هذه المرة ، أتوجه نحوه ، توقيعات أخرى مجددا ، يعطينى نسختى ، اشكره وأغادر .

السبت، 18 سبتمبر 2021

نَبتُ الأرض

 

الأيام فى القرى كما المصائر تتشابه ، تتوالى متكررة ، كل يوم تتجدد فيه حاجتك ، حتى أيام الأطفال غير أنها لا تشبه أيام الأطفال الأخرين ، أطفال الفقراء يولدون بأيد خشنة ، بعيون مرهقة ، بأجساد يسرى فيها التعب مقدما ، يترك فيه أثاره حتى قبل أن تتعلم كيف تخطو على الأرض ، الحاجة تكسر ظهر المحتاج ، لا يملك سوى صحته التى وهبه الله إياها ، وإن مر يوم تعب فيه جاع أطفاله ، أطفاله يعملون أيضا أجراء ، يعلمونهم تخلية الأرض من الحشائش الضارة ، الاهتمام بشئون البهائم والأغنام والماعز ، يجمعون حبات الطماطم والخيار والباذنجان والفاصوليا والبازلاء ، البعض يلتحق بكتاب القرية حتى يصل الى ست سنوات فيلتحق بالمدرسة ، البنات أقل حظا ، المرأة تُربى وتعلم كى تُربى وتعلم مستقبلا .

ولدت لأبوين فقيرين ، سبقتها أختها الكبرى ، ولحقتها فى أقل من عامين ، إلتحقت بالتعليم لكنه لم يروق لها ، الحروف عصية عليها ، الأرقام جدار لا يمكن تجاوزه ، الكتابة فعل مستحيل والقراءة مثله ، فهم ما يقال أمامها لا تجيده ، أقصد لا تعرفه ، لا تستطيعه إطلاقا ، حاول معها أبواها ومعلموها ولكن إرادة الله كائنة وحكمه نافذ .

خرجت من المدرسة لتلقى نصيبها من الدنيا ولم تكن أسعد حظا على أي حال ، عقلها لا يملك القدرة على استيعاب أى شئ ، وكأن الدنيا لا تشغلها ولا تعنيها فى شئ ، فقط أخبرها أن أفعلى كذا ولا تفعلى كذا تحديدا ، فتحاول فعل وإنجاز ما طلب منها  دون زيادة أو نقصان ، لا تطلب منها إنجاز أى شئ يحتاج الى جهد عقلى ولا أن تنتظر أن تفعل شيئا من نفسها ، حتى أعمال الطهى التى تجيدها كل الفتيات لم تستطع تعلمها جيدا ، الأشياء البسيطة فقط تستطيع انجازها ، التكرار فيها علمها ، غسل الأوانى لا يحتاج إلى مهارة فتجيده ، ولكن أن تصنع الخبز فذاك يحتاج الى مهارة فاستعصى عليها ، لكنها تحمل الحطب لاشعال الفرن ، تنظف الفرن من التراب الأحمرأو الأسود بقايا الخبزات السابقة ، أن تنوع فى طرق الطهى فذاك استعصى عليها أيضا ، اللبن كثيرا ما يغفلها ويسقط على الوبور فيطفئه ، تجهيز قوالب الزبدة ، تقطيع الجبن قطعا متساوية ، كل تلك من الأعمال الصعبة لكن يمكنها أن تمسح وأن تكنس ، أن تنظف الزريبة خلف البهائم ، تحمل الروث وتصنع أقراصا من " الجلة " تصعد بها السلم الخشبى وتضعها على سطح البيت كى تطهوها الشمس وبعد ذلك تستخدم كوقود للفرن ، تحمل البستلة تملؤها مياها من الصهريج ، تحمل اللبن الى ماكينة فرز اللبن وتنتظر بصحبة السيدات حتى يحين دورها وكثيرا ما غافلنها البنات لولا أن السيدة صاحبة الماكينة تدركها وتقدمها فى دورها ، تعطى الحلة للسيدة فتلقى بها فى الماكينة وتفرز اللبن عن القشدة وتضع له اللبن فى وعاء والقشدة فى طبق وتعود بهما الى البيت ، تجرى بها السنوات ولازالت على حالها ، يخرطها خراط البنات ويصيبها ما يصيبهن جميعا ، تبدو عليها علامات الأنوثة فيعلو صدرها وتدور مؤخرتها ويتقدم الفتيان لخطبتها ويزوجها أهلها أحدهم فترضى به وتسعد .

اقطاعيات الباشوات والبكوات كبيرة وأراضيهم وبساتينهم لا تحصرها العين ، كل منهم لديه أفدنة ربما هو نفسه لا يعلم منتهاها ولا مكانها ، مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال والمانجو وأشجار النخيل ، يتخللها أعواد الذرة ، يملؤها المزارعون ، يستئجرهم الواصى على البستان ، يعمل عند المالك ويبنى له بيتا وسطع مزارعه يقيم فيه بصحبة أهل بيته وكلهم يعملون أجراء لدى الباشا أو البيك ، حسب اللقب الذى حصل عليه أو لم يحصل ، ورغم أن تلك الألقاب ألغيت إلا أنها فى هذه المناطق أو هذا الوطن عموما لا تسقط مطلقا حتى لو مات صاحبها ، يستأجرون الأنفار من المناطق القريبة فيعملون فى الجناين والبساتين ، الرجال للأعمال الشاقة والسيدات لحمل الأقفاص وتنقية العشب وجمع الثمار والأشياء الأقل جهدا .

ولد صبى جميل الطلة ، عيناه رائقتان كبحر ، وجهه أبيض كقمر ، شعره أصفر كشعاع شمس ، سبقه فى الميلاد صبيان وفتاة ، احبه والده وأمه ، قرباه وأعطوه الكثير من الاهتمام وأُلحق بالتعليم ، يكبر وتكبر معه الأحلام التى ترسم له ، اخوة أخرون ولدوا صبيان وفتاة أيضا ، يصاب الوالد بالمرض الذى لم يكن له علاج وقتها ، يحفظ ابتسامته ويحارب مرضه حتى غلبه ، يذهبون للجنازة ويخرج كل أبناؤه مودعين أباهم ، على حافة القبر يقف يبكى فتغلبه نفسه فيسقط فى القبر ، يسرع الواقفين يجذبونه ويخرجونه ، يتحدثون إليه فلا يتحدث ، فقد النطق تماما ، سنوات وسنوات فى رحلات مع الطب والأطباء والمشايخ والمشعوذين والسحرة ، وطبعا ترك دراسته واستقبلته الأرض ، يعمل فيها بصحبة اخوانه وجيرانه ، أصبح من أجراء الباشا ، العاملين فى بساتينه ، طيب ، ملامحه وديعة ، مهما حملته يحمل ومهما قسوت عليه يتقبل ومهما غاضبته لا يغضب ومهما قلت له إلتفت إليك مبتسما ويمضى ، كانت نتيجة الزيارات الطويلة على الأطباء أن أصبح ينطق متعسرا ، الحروف ثقيلة كعدو ونطقها شاق كـ لغة .

كبر الفتى وأصبح شابا ، سعى أهله لتزويجه وكانت حكمة القدر أن يتزوج الفتى الطيب بالفتاة المتعبة ، تنتقل معه إلى قريته ، بيوت متناثرة متفرقة عن بعضها وسط مساحات كبيرة من الفراغ والطرق الرملية ، فى قريتها كانت تعمل فى الحقول ويأتى الشتاء فيملأ الأرض طينا ومياها تعيق الحركة لأيام ، أما فى بيتها الجديد فالمطر شحيح وإن هطل لا تبدو على الأرض " الرمال " أى أثار تدل عليه ، فى قريتها كانت البيوت تدفئ بعضها أما هنا فلا بيوت تجاورهم ، فقط مساحات خضراء تمتد حتى تصطدم بصف من الأشجار السامقة أو أكوام الحطب الكدسة على جانبى السكة وعلى رؤوس الحقول .

فى قريتها الناس ينامون مبكرا اما هنا فالحرارة تعيق نومهم فيجسلون أمام البيت يمزحون ويتسامرون حتى يتساقطون الواحد تلو الأخر.

متماثلان تقريبا ، كلاهما طيب القلب ، المكر والخبث ومكائد البشر لا تطرق فكرهما ولا تتقبلها عقولهما ، كل شئ تقوله لهما مصدق ، كلاهما يعمل فى الأرض ، هو فى اقطاعية الباشا أو أملاك العمدة وهى تجمع العشب من البساتين فتطعم الحيوانات والطيور ، الزراعات هنا مختلفة ربما القمح والذرة يتماثل لكن الأرز غائب ، هنا الفول السودانى والبطاطس ، الجو حار بدل بشرتها ووجهها القمرى طُلى بصبغة أهدتها لها الشمس ، شعرها قاوم ذلك واحتفظ بجماله ناعما بلون ليل ثقيلة ظلمته .

تُنجب الأطفال فيشبهونها ويشبونه ، تعلمهم جدتهم وأعمامهم وعماتهم ، يثقل النطق على احدهم لبضع سنوات ثم يستطيعه ويثقل الفهم والتعلم على احدهم ولا يستطيعه ...

الأربعاء، 15 سبتمبر 2021

إفاقة

 

السحب تتناثر كـبقع بيضاء ، تترك بعض الفراغات كى لا تصطدم ببعضها ، تروح وتجيئ سابحة فى نفس المساحة من الفضاء ، تمر فتٌخلف من ورائها مساحة رمادية ، ما تلبث أن تبيض حين تعاودها ، النسائم تهب مختالة ، قدوم من يعرف حجم شوق المنتظرين لوصوله .

يتوغل الليل ، تثقل النسائم ، يعلو نباح الكلاب وتخفت الأضواء وتخلو الشوارع من المارة وتبقى السيارات والبيوت والأشجار فى سبات عميق .

أغوص مع كتبى ، اتنقل بين الصفحات ، حرف عطف بين حبيبين ، مبتدأ لحياة تولد ، وخاتمة لجهد وتعب ، إشارة لكل منتظر ، وضبطا لكل قافية .

كـ طيف يمر بخاطرك ، وفكرة تتصيدة ، وفائدة تقتنصها قبل أن تنفلت ، وغنيمة انتزعتها بحرب ، ووثاقا قوى العرى وحبل متين .

معلق فى سقف من قدمى ، جسدى ينز دما ، وكل موضع من بدنى فيه وجع مغاير ، كل عضلة فى جسدى دب بينها وبين اخواتها خصام ، بجوارى أحدهم مقيد من عنقه بسلسلة حديدية مثبتة بالحائط ، وأخر مكبلة يديه ، قالوا أنهم أمسكوا بنا أثناء تعليق مجلة حائط قامت على أثرها مظاهرة طلابية فألقوا القبض علينا باعتبارنا المحرضين ، غموا أعيننا فلا نعلم مكان السجن الذى نحن فيه ، خلعوا عنا ملابسنا كلها ، جعلونا ندور أمامهم يمينا ويسارا ، بدأوا بأكبرنا سنا وأكثرنا شهرة وأقدمنا فى العمل ، نقلونا فى عربات مصفحة ، كنا كحيوانات مكدسة فوق بعضها ، العربات تترنح على الطريق متقافزة كأننا نسير فى طريق وعر ، يعلو صوت محركها وتعلو حرارتنا ، ينقلوننا من مكان الى مكان ، يلقوا إلينا بسترة سيئة ، نقضى حاجتنا أمام بعضنا فى جردل وضعناه فى إحدى الزوايا وحاولنا تغطيته كى تقل الرائحة ، السجائر تٌهرب ، الكتب ممنوعة ، التريض ممنوع ، جرعات متتالية من التعذيب أفقد على أثرها وعيى .

أجلس بوسط صحن واسع ، أطالع الزخارف ، سيوف معلقة ، نقوش فى الجدران ، اعمدة ذهبية ، رؤوس غزلان ، رماح ودروع ، أنتبه لملابسى لا تشبه ملابسى ، أسمع صوت أقدام مختلطا بالكلمات ، تدخل جماعة على ، يلقون التحية ويجلسون حولى ، لقد انتهينا من تجهيز كل شئ كما أمرت ، رتبنا مع الخدم والجاريات ودفعنا للتى قلت لنا عليها ببزخ ، عندما يغرق السلطان فى ملذاته تكون ساعته قد حانت ، نهجم عليه دفعة واحدة ونخلص العباد من شره ، الحرس نراقبهم جيدا وأكثرهم معنا ومن حاول المقاومة فنفسه وما سولت له ، تأتى الساعة ويبدأ الهجوم وأتلقى ضربة من الخلف على رأسى أفقد على أثرها وعيى .

أنتبه على اصوات لا أفهمها ، ينز من جسدى العرق ، أرتدى جينزا وقميصا مقطع ، ونظارة ذات اطار كبير سقطت إحدى عدستيها ، فى قدمى حذاء جلدى عالى الرقبة يناسب الغابة التى تحيط بى ، أشعر بالوجع ، أجد دماء حولى ، جذع شجرة يخترق جانبى ، شجرة تظللنى ، عشب يحيط بى ، زواحف تتحرك ، ألمح جماعة يتسللون ، ملابس غريبة تشبه تلك التى شاهدتها فى الأفلام ، تلمع عيونهم وسط الظلمة كأنها تضئ ، أحاول التماسك ، ثم فجأة يد تكتم أنفاسى من الخلف وتضغط على عنقى ...

أغلق الكتاب وألملم الأوراق وأغلق الحقيبة عليهم ، أقفز من السيارة التى طلبت من سائقها أن ينزلنى على الجانب فأكتفى بتهدئة سرعته ، أنظر للامام وأقفز فيزيد سرعته حتى كدت أقع على وجهى ، أتماسك ، أعدل هندامى ، أعبر الطريق متعجلا ، فتاة فى الجهة المقابلة ترتدى زيا ضيقا يصف كل شئ وسترة تكشف أعلاها وشعرها يتدلى الى منتصف ظهرها ، يقترب ناحيتها فتيان يركبان دراجة نارية ، يلقون بعض الكلمات التى لا أتبينها ، يجذبون حقيبتها فتتمسك بها فيسرعون فتقع فى الأرض ومازالت ممسكة بحقيبتها ، اسرع نحوها دون أن أنتبه وفجأة ...

أسمع تغريد الطيور ، تتسلل أشعة الشمس متسربة من فتحات الشباك مخترقة للستائر ، يعلو صوت المنبه يعلن موعد الاستيقاظ ....

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

مقتنيات قديمة

 

وليمة اليوم التى اكتسبتها ، عدة أكياس بلاستيكية ، ألقيتها كلها بجوار المكتب ، اشتريتها من بائعى الأشياء القديمة ، تجد عندهم كل شئ ، تخبرك رائحته عن مدى قدمه ، المخطوطات ونسخ يدوية ، حفر على جلود وأحجار ، جرائد وصحف ، ألات موسيقية ، جرامافون ، خناجر وسيوف ، أنتيكات ، أحذة وملابس ، اصدارات دورية ، ثقافية وسياسية ، مهما تقدم العالم وارتقت وسائل التواصل فيه تبقى للخطابات ولرسائل البريد لذتها وعطرها الخاص ، لرسائل البريد طلة مختلفة ، كريمة بسخاء ، متعة لا يدركها إلا من جربها ولا ينبئك مثل خبير ...

أفرغ محتويات الشنط ، بعض الأوراق المهملة التى لا تربط بينها صلة ، كتيبات قديمة منزوع منها الغلاف وبعضها منزوع منه بعض الصفحات وبعضها مدون عليه بعض الملاحظات ، مذكرات مكتوبة باليد ، بعض الرسومات غير الممهورة بتوقيع ، أعداد محدودة من الصحف والاصدارات القديمة التى صدرت خلال الحملة الفرنسية ( جريدة بريد مصر " كورييه دوليجيت " – العشرية المصرية " لاديكاد ايجيبسيان ) ، وبعض ما صدر ابان حكم محمد على واسرته من بعده وحتى السنوات الخوالى " جورنال الخديو – وقائع مصر " الوقائع المصرية " – الشاشة المصرية التى كانت تصدر فى الاسكندرية بلغة فرنسية – الهلال - السلطنة – الجوائب – روزنامة الوقائع المصرية – صحيفة القطر المصرى – الجريدة العسكرية المصرية – وادى النيل – روضة الأخبار – مونيتور ايجيبسيان –روايات الجيب - الأهرام – العروة الوثقى – الزمان – مرآة الشرق – الفلاح – الهدى - المصور- روز اليوسف – المنبر – الاذاعة والتلفزيون – عالم المعرفة .....

شنط تحوى مجموعات من الخطابات والمكاتبات البريدية ، أفرغتها كلها أمامى دفعة واحدة على الأرض بعد أن أبعدت كل المقاعد والأشياء التى قد تعيقنى عن إتمام عملى ، أسرعت إلى المبطخ ، أعددت قهوتى ، وعلى عجل أخذتها وعدت إلى الغرفة ، أغلقت الأبواب وهيأت نفسى لما أنا مقبل عليه ، الآن خلوت بك ولابد لى من فك طلاسمك ...

بدأت تنظيم الخطابات محاولا الاسترشاد بما يظهر من التواريخ المطبوعة على أختامها ، أرتبها من الأقدم إلى الأحدث وأرقمها وأصفها فى كراتين صغيرة فى صفوف متوازية ، أفصل خطابات الأشخاص عن المكاتبات الرسمية ، أرتب الخطابات التى تخص كل منطقة وحدها من العناوين المدونة على كل خطاب لعلى أستطيع الربط بين شخوصها أثناء مطالعتها ، أندس بين مُرسلى الخطابات ، أجلس بجوارهم وهم يكتبون ، بعضهم يكتب على عجل وبعضهم يكتب والدمع يغرقه وبعضم يكتب أداء للواجب ، خطوطهم تفضحهم ، اعيش معهم مشاعرهم وأسرع كى أصل قبل ساعى البريد فأنتظره لدى المتلقى ، أجلس بجواره مثلما جلست مع الراسل ، أرى مشاعره ، أرقب رد فعله ، حتى الخطابات التى ضلت طريقها فلم يتسلمها أحد حتى وقعت فى يدى فى النهاية ، آن وقت قرائتها ، أتقمص حالة الراسل والمرسل إليه ، أفكر .. ، ماذا لو وصلت تلك الرسائل ، أشياء كثيرة كانت ستتغير ، وحقوق كانت ستصل إلى أصحابها ، أناس تعرف حقيقتهم ومظلومون تظهر برائتهم ، زيجات تمنع وزيجات تقام واخوة يؤلف بينهم وطالبى وظائف تحقق احلامهم ، ولكنه القدر ... لا يعبث ، له حكمة فى كل تدبير وتقدير .

أمى الغالية .. أبى العزيز

بعد سلامى وقبلاتى

أطمئنكم بأن صحتى تحسنت عن المرة الأخيرة التى راسلتكم فيها ، الطبيب يقول لى بأننى سأتمكن من مغادرة المشفى قريبا ، بقول أيضا بأننى سأحتاج بعض الوقت أتلقى فيه نوعا من العلاج الطبيعى كى أستطيع التحرك على قدماى ثانية ، أنا الأن أفضل ، الحمد لله ، استطيع أن أشعر بقدمى وأن أحرك أطرافى ، لا تتخيلى يا أمى مقدار الفرح والسعادة التى انتابتنى عندما بدأت أشعر بهما مجددا ، الحادثة كانت مروعة بحق ولم يخطر فى بالى أن أكون الناجى الوحيد منها ولكن كان ذلك بفضل دعواتك يا أمى وصلوات أبى ، أبى هل لازالت تحافظ على نزهتك الصباحية ، تقضى نفس الساعة مشيا على حافة البحيرة القريبة ، هل لازلت تقدم لأمى الوردة التى تقطفها كل صباح وكأنها تنبت خصيصا لكما ، كيف حال أخى سليم ، وأخواتى فريدة وعائشة وصفية ، لابد أنهن كبرن الآن وأصبحن على وشك الزواج ، كيف حال عمى وأبناؤه ، هل مازال ابنه مشاغبا كما كان ، وعمتى هل تحسنت صحتها ، وخالى يا أمى هل أعطاك حقك فى الميراث أم مازال مماطلا كعادته ؟ ، حتى لو لم يفعل .. لا تحزنى يا أمى ، عندما أعود سأعوضك عن كل شئ ..

ابنكم المحب

أطوى الورقة واعيدها إلى المظروف ، الكتابة كانت بخط متعرج ، تبدو عليه أثار التعب ، يتوجع حين يكتب ويتوجعون حين يقرأون وتسقط من أبواه العبرات ، أبحث فى باقى الأظرف عن رسائل لنفس الشخص ، صادرة منه أو له لكنى لا أجد ، تدور فى خاطرى الكثير من الأسئلة ، هل فعلا وقف على قدميه مجددا ، هل عاد إلى أمه وحقق لها وعده ، لو استسلمت للتساؤلات لانتهى الوقت ولم انتهى من انجاز اى شئ ، أحاول ان أخلع نفسى من أثاره وأضعه جانبا ، يخطفنى مظروف أخر ، تتحرك نحوه يدى رغما عنى ، يحمل توقيع أنثى ...

نينه الغالية ... صباحى الشهى ... لذتى التى لا تفارقنى عينها

أرسل إليك قبلاتى الحارة ، أطبعها على خدك  وجبينك ، لعلها تصف لك حجم اشتياقى إليك ، أشتهى حضنك ، والنوم على قدمك ، ويدك تمس شعرى ، الصغار شغلونى قليلا فتأخرت فى الكتابة إليك هذه المرة ، الصبيان شقاوتهم شديدة كما قلت لى ، لكن فريدة هادئة كـ طيف ، أحمل إليك محبة حسن ومودته ، كلفنى أن أبلغك تحيته الحارة وأمنياته بدوام الصحة والعافية ، الحياة هنا قاسية بقدر ما هى مدهشة ، الجميع يعمل ، الجميع يخرج ، الجميع يتكلم ، الجميع يسهر ثم يستسلمون للنوم دفعة واحدة ، وحشنى أكلك يا نينه ، نفسى فى صينية بطاطس من ايدك الحلوة ، سامحينى ن اعلم أن الوحدة ثقيلة لكنك تعلمين أننا كنا مضطرين للسفر ، وعدنى حسن بان نزورك قريبا ، كلنا لهفة إلى لقائك .

طفلتك

يا ويلى ، يبدو أننى فتحت على نفسى بابا لن أستطيع إغلاقه ، أطوى الورقة وأعيدها إلى المظروف ، وعلى عجل أصف باقى الخطابات فى عدة كراتين صغيرة على أن أعود إليها ثانية عندما تتخلص روحى من الأثار التى علقت بها ....



الاثنين، 13 سبتمبر 2021

لوحة

 

أغيب مع صوتها الناعم ، الدافئ ، يقطر منه سحر مبهج ، شفتاها رقيقتان كنسمة ، خدودها محمرة كسماء ، عيناها خجلاوان كقمر ، يزيدها حجابها جمالا ، تخرج الكلمات من ثغرها همسا ، تفوح كأنها عطرا ، تتأبط ذراعى ، تداعب برأسها كتفى ، تهمس فى أُذنى .... أحبك .

لوحة مثبتة على الجدران ، تضم هذه الوجه ، وقفت أمامها مشدوها ، تسمرت فى مكانى ، سمعت همسها ، تنفست عطرها وداعبتنى عيناها ، خلفها أغصان شجر ومن فوقها سماء صافية وشمس تنشر أشعتها خطوط متوازية تشق عناق الأغصان ...

كما فى الأفلام والروايات تمتطى جوادا أبيضا ، ترمى على الحافة ملابسها وتسبح فى البحيرة ، تداعب جروها ، تلهو مع رفيقاتها ، يشغلها الفتى صاحب العيون الزرقاء والشعر الشاحب صفرة المهذب يمينا والبذلة الأنيقة .... لا ... هذا يكون فى الأفلام والروايات فقط ان كانت الأحداث مكانها مزرعة فى نيوزلندا أو منتجعا فى ايطاليا أو حديقة غناء فى استراليا .

ربما ان كانت فى هولندا ستجدها مزارعة بسيطة تحلب البقر وتجلس القرفصاء بالسوق او تقعد بمؤخرتها على كرسى خشبى تصطف أمامها الأوعية التى تحوى الجبن والقشدة والألبان ..

ربما تراها ملاكا فى رداء أبيض ، تسهر على رعاية المرضى ، تخفف عنهم معاناتهم ، تستمع إلى أوجاعهم بإنصات أُم وتبكى لتألمهم ، تحقنهم فلا يشعرون متى غرست الحقنة فى شرايينهم ومتى نزعتها ، تطيب جراحهم ، مر الدواء يجدونه من يدها شهدا .

ربما معلمة ، تدرس الصغار فى المدارس ، يتعلقون بها وترتبط بهم ، تقابلهم بعناق وتودعم بعناق ، تلعب معهم ، يحبون المدرسة لأنها فيها ، وتغار منها امهاتهم ورغم ذلك كلهن يطلبن إلحاق أطفالهم بفصلها ...

ربما زوجة ، تهذب بيتها ، تصحو باكرا ، تغتسل وتمشط شعرها وتغرق جسدها بالطيب ، تُيقظ زوجها بقبلة ، تطعمه بيدها ، تجهز له ملابسه بعناية ، تختار له المناسب تماما ، تعلم منه أعمال اليوم التالى فتجهز له ملابسا تليق بذلك ، بذلة كاملة أو جينزا  أو قميصا أو سترة صيفية أو بالطو محشو بالفرو ....، تختار الحذاء الذى يناسب الزى ، تختار لكل وقت عطره ، تطبع قبلات على وجهه قبل أن يغادر وتسقيه بفمها شهدا فى فمه ، يطمئن أنها تحفظه فى غيابه ، تنتبه لأطفالهم وتشغل بتعليمهم وتربيتهم ، تتابع دروسهم وتراجع معلميهم ...

ربما تجدها صحفية ، تستمع لشكاوى الضعفاء وتنشر دموع المظلومين وتبكى حرقة للمحتاجين .

أو يليق بها أن تكون سفيرة للنوايا الحسنة ، تقضى كل الوقت بصحبة متضررى الحروب والأوبئة والفقر والمجاعات  ، تواجه العالم بحقيقته ، تضع بين عينيه بشاعة فعله وأثار جشعه وطمعه ، يحيطها الأطفال وتلتف حولها النسوة وحتى الحيوانات تطمئن بقربها ..

فجأة تجدها واقفة أمامك ، بشرية تماما من لحم ودم ، تنثر جمالها من حولها ، طلتها تخطف ، كأنها غادرت الاطار لتوها ، نفس الملابس ، نفس الملامح ، هو ذات الخجل ، لا تشعر بنفسك ، تمد يدك ...

عفوا ... هذه اللوحة ليست للبيع يا عزيزى ... إنها زوجتى ....

الأحد، 12 سبتمبر 2021

من سيرالطيبين

 

يا " أبا " الشغل مبقاش زى الأول ومبقاش حد بينقل حاجة على الجمال ، فى كام عربجى فى البلد دلوقتى غير اللى جابوا عربيات ربع نقل ونص نقل ، طول النهار أنقل للناس الحطب وأودى وأجيب وأشيل وأحط وكل دا عشان نص ريال وقلت الحمد لله فضل ونعمة بس يوم شغل وعشرة لا ، وواحد يدفع وعشرة لا وبقى عندى كوم لحم فى رقبتى " 3 عيال " كل يوم بيكبروا والحمل معهم بيكبر ، فى واحد ورانى اعلان فى جورنال بيقول أن فى شركة كبيرة طالبة ناس من المتعلمين وغير المتعلمين ، هيخدوهم يعلموهم ويدربوهم ويعينوهم فى الشركة فى مواقع شغلهم ، بس الشغل فى مصر يا أبا .... وهتسيبنا يا أبنى ... البركة فى أخويا يا أبا وفى البنات وأنا هنزل لكم كل أسبوع يا أبا .... وماله يا ابنى ربنا يرزقك .

فى احتفالات أكتوبر لعام 1981 م أغتيل الرئيس السادات مما أدى إلى حالة من الفوضى والقرارات العنيفة ثم اعلان حالة الطوارئ وبدء تجهيز نائبه ليكون رئيسا للبلاد والسعى نحو ما يسمى بالجماعات الارهابية المتطرفه ومحاولة تثبيت عرى الحكم للرئيس الجديد ، الأوضاع فى البلاد مشتعلة ولقمة العيش تطحن الجميع وكان السادات يقول دوما من لم يصبح ثريا فى عصرى فلن يتمكن من ذلك مطلقا نظرا لسياسة الانفتاح الاقتصادى التى كان ينتهجها ، الفلاحون فى القرى حالهم لا يخفى على أحد وخاصة الأجراء منهم الذين لا يمتلكون أى شبر من الأرض ، كل ما عندهم هى صحتهم التى أغناهم الله بها واستعانوا بها على العمل بالأجرة لدى المزارعين كى يكتسبوا أقوات يومهم .

تكبر شركة المقاولون العرب التى أنشئت على يد المهندس عثمان أحمد عثمان ، وتتوسع يوما بعد يوم ويسند إليها اقامة وتشييد المشروعات الكبرى فى القطاعات المختلفة ونظرا لخطط التوسع فى الشركة فقد أعلنت حاجتها لتدريب الألاف من الشباب وتعيينهم بالعمل فى مواقعها على أن يتم التدريب فى مركزها بمدينة نصر ..

شهور التدريب على أعمال التشييد والبناء بكل مراحله مرت ، دربونا على القيام بكل الأعمال واختاروا منا من سيكون عاملا ومن سيكون " صنايعيا " من الذين أجادوا العمل وكنت واحدا منهم وتم تثبيتى فى الشركة وأصبحت موظفا بالمقاولون العرب ..

الأجر الشهرى بدأ بثلاث جنيهات ، أدفع منه ايجارا للغرفة التى أقيم فيها ومنهم الأكل والشرب ونفقات الانتقالات وأرسل الباقى للعائلة للانفاق على الزوجة والأولاد ، أبحث عن أى عمل أستطيع القيام به وقت الفراغ لكن الحقيقة أنه لا يوجد اصلا وقت فراغ ، أمشى على قدمى مسافات طوال حتى أصل الى مقر العمل بالجبل الأصفر وكانت مدينة نصر فى هذه الفترة خالية خاوية لا تكاد تمر فيها السيارات ، فى عملنا يتم نقل من موقع لأخر وهكذا ، استطعت ادخار بعض الجنيهات اشتريت بها دراجة " نصر 28 " كى ترحم قدمى من عناء المسير وتوفر لى بعض الوقت ، ألتقى مهندسا من بلدة قريبة لى فأتعرف إليه وعندما تتوطد علاقتنا أسأله أن يساعدنى فى الانتقال الى فرع الشركة بمحافظتنا كى أكون بالقرب من العائلة ، سنوات حتى يتم الأمر ويتحقق أمر النقل ، بعض السنوات فى طنطا وبعضها فى بنها وبعضها فى المواقع الجديدة بمراكز ومدن محافظتك وحتى قراها ، أعمل معهم فى مشروعات الانشاءات ، الجامعات والانشاءات الحكومية ، محطات المياه ومحطات الصرف الصحى ، المدن الجامعية ... أترقى فى الدرجات الوظيفية ولازلت أحافظ على ابتسامتى ، على الرضا البادى على ملامحى ، فضل ربنا علينا كبيرا ، مكنتش أبدا اتعشم فى أفضل من كدا .

حتى إذا تحدث معى أحد المهندسين أو الاداريين بغلظة ، ابتسم واصمت وان تكلمت لا ازيد على كلمة : حاضر ، هم فى مثل عمر ابنى ويوما ما سيفوقهم أبنائى مكانة ولا أرجوا منهم أن يتعاملوا مع أحد من الذين تحت اشرافهم بغلظة أو قسوة أبدا فالرحمة كما الأخلاق تورث ..

تقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام أو مستخدما للدراجة اذا كان المكان فى المتداول مثلا عشرون كيلومترا ، تحاول توفير كل قرشا فأبنائك فى حاجة إليه ، استفدت من نقلك لمحافظتك فاستأجرت قطعة من الأرض تزرعها ، يعينك أولادك وزوجتك ، تعود من عملك فتسرع الى الحقل تنجز العمل الذى يحتاجه ولا يقوى عليه أبناؤك ولا زوجتك ..

تستيقظ مع فجر كل يوم ، تيقظ الجميع للصلاة وتجلس تعلم أبناءك القرأن فقد تعلمت القراءة والكتابة فى القرية عندما كنت صغيرا ، قبل أن تتعلق بتروس الحياة فلم يكن لك نصيب فى الإلتحاق بالمدارس ، تتناولون الافطار ، وتعد لك زوجتك لفافة بها رغيفا من الخبز وقطعة من الجبن وحبة أو حبتين من الطماطم ، تلفهم جميعا فى ورقة تقطعها من شكائر الأسمنت الفارغة من الطبقات الوسيطة التى لا يمسها الأسمنت ، عند موعد الغداء فى الواحدة ظهرا ، تتوضأ وتصلى ثم تجلس فى ركن منفرد وأحيانا مع أصحابك ، تتناول غداءك ثم تقيل باقى الساعة حتى يحين موعد العودة الى العمل مجددا .

البنات كاللبن سريعة الفوران ، تكبر وهمومهم تكبر معهم وقد رُزقت بأربعة منهم ، توفر الشركة الأجهزة الكهربائية والمنزلية مثل الغسالات والبوتجازات والثلاجات والتلفزيونات والخلاطات ... بالتقسيط ، فتقدم طلبا لشراء ايا منها وعندما ينتهى قسط الجهاز تقدم على جهازا غيره وهكذا ، حتى تستطيع شراء الأجهزة اللازمة لعرس البنات ..

تصيبك امراض الشيخوخة وتتحامل على نفسك قدر الاستطاعة فلا تذهب إلى الطبيب إلا عندما يطول المرض ويشتد الوجع ويضغط عليك أبناءك لتفعل ، تحاول أن تعلم أبناءك الحكمة فتشركهم معك فى القرارات والاتفاقات وتصبحهم لصلة أقاربهم حتى يظل حبل الود موصولا بينهم وبين كل أقاربهم ، لا تشترى لنفسك شيئا إلا بعد أن تشتد حاجتك له وتحلفك زوجتك وتقسم لك أن تشترى لنفسك حذاء أو جلبابا أو "شالا أو تلفيعة " – غطاء للرأس ، أو بالطو يقيك برد الشتاء .

تبلغ سن المعاش فتغادر العمل فتستخدم المكافأة التى حصلت عليها فى اقامة مسكنا جيدا لأولادك ، تقضى الوقت بين المسجد والبيت وأصبحت مهمة الذهاب الى السوق أسبوعيا عليك بعد أن تزوجت بناتك وغادر أولادك لبلاد أخرى سعيا على لقمة عيشهم وأعيا المرض زوجتك فما عادت تستطيع فعل ذلك ، تلاطف وتلاعب أحفادك ، تملؤ جيبك بحبات الكرامل توزعها على الصغار فى أى مكان تجدهم فيه ، عرفوا عنك ذلك فأصبحوا ينتظرون لحظات رؤيتك فيسرعون إليك يعانقونك ويقبلونك ويطلبوا نصيبهم ، تشتاق لرؤية أولادك الذين يغيبون عنكم لأيام طوال وينبض وجهك فرحا وحبورا فور رؤيتهم ، تشتاق للحج فييسره الله لك وتود لو تحج زوجتك أيضا فقد ساندتك فى كل شئ وباعت ذهبها وحليها ، مثلك تماما تتحمل كل مر ولا ينطق لسانها إلا بالشكر والرضا ....

السبت، 11 سبتمبر 2021

ضحكتك فيها كهربا

 

الظلام خائف ، يجثم على حافة الليل برفق خشية أن ينتبه له ، يشمه بلسانه كأفعى ، ثم يتوغل فيه بخفة كـ حلم .

الأصوات تشطر الصمت ، تفرق بين عراه ، وتفجر مسامه ، فيصدح منها النغم ، كلمات تعزف ، يتردد صداها ، لحن وغنوة .

الصوت هذه المرة كان صوت زغاريد ، أصوات النساء كتصفيقهن يجذب بعضه بعضا ، النساء تزغرد وكذا أبواق السيارات ، أيقظ الضجيج الكلاب فارتفع عوائها مشاركا فى العُرس ولا عجب أن تسمع صياح الديوك أيضا ..

تدافع السيارات ، يُحدث زوبعة من الغبار والأتربة ، تقتحم أنفك عنوة ، كل شئ يحدث فجأة وبسرعة ، تكون جالسا تناجى قمرك وترقب الظلمة التى تتسرب كأنها سجين يفر من سجنه وفجأة : المنطقة التى كانت مٌغلفة بالعتمة تحيلها مصابيح السيارات الى نهار وكأن السجين شوهد وهو يفر فانطلقت صافرات الانذار فأسرع نحوه الجنود فأُمسك به وأُسر، الصمت حمل أمتعته وأختبئ فى كوخه ، صليل المفاتيح واصطكاك الأبواب ...

قمر آفل ونجوم غائبة وسماء حزينة وفتيات ضحكاتهن رنانة ، تسمع لحديثهن دويا كـ طنين النحل .. خادمات يسرين عن ملكتهن ...

لا أعتقد أن النساء فى حاجة إلى موسيقى ، يكفى فقط أن يجتمعن وتتفق أصواتهن ، قطعا ستسمع ألحانا بديعة ، فرحة و شجية ، هادئة وصاخبة ، ثم ينشر السكون جنده ويفرض سيطرته فلا تسمع إلا الهمس ... وسعال عجوز يدخن بشراهة ، وأطفال وكأن الليل انشق عنهم فخرجوا يجرون خلف كرتهم ..

يتحدثن ، يحكين أحداث الليلة حتى لا يفوت على إحداهن ما رأته الأخرى  ، فستان العروس يكشف أكثر صدرها وعندما حملها العريس ودار بها ظهر "اللانجيرى" الأبيض ، عن فلانة التى كانت ترتدى ملابسا فاضحة أكثر من اللازم ، عن التى كانت ترقص " فاكرة نفسها صافيناز " فيتقافز نهداها امامها حتى أوشكا على الخروج مع صوت الجاسمى ضحكتك فيها كهربا ....، وبنبرة خبيثة واضح أنها لم ترتدى سوتيانا عمدا لتلك اللحظات ، عن نظرات الرجال التى كادت أن تنخلع على صدرها ومؤخرتها ، عن الغيرة التى بانت فى عيون صاحباتها فقفزن بجوارها كى لا يدركن حظهن من العرض ... وبنبرة خبيثة  " مش طبيعى يا حبيبتى " .

عن العريس وأنه كان يستحق من هى افضل منها ، عن وسامته ومكانته ، عن عائلته وثروته ، عن النادى الذى أقيم به العرس ، عن أصدقاء العريس الذين أحاطوه وكانوا يرتدون ملابسا خاصة جهزوها لهذا العرس ، عن الأغنية التى رددوها سويا ، " كان هيموت على بنت أختى بس باباها موافقش .... عنده لها عريس أحسن ".

 عن الجاتوه الذى كان ينقصه السكر والشيكولاته التى ينقصها الكاكاو والمخبوزات التى كان ملحها قليل ، عن مفارش المناضد التى لم تكن نظيفة بما يكفى ، عن الست وأبنائها الذين كانوا يلتهمون الطعام إلتهاما ، عن المشروبات التى لم تكن باردة .

النساء يستطعن الإتيان بكل المشاعر والأحاسيس فى نفس اللحظات ، ينتقلن من ذم الى مدح ، ومن سب إلى قبلات وأحضان ، ومن بكاء الى رقص وفرح ، لسن منافقات ولكن طبيعتهن كذلك ، تغلبهن عواطفهن فيندفعن بالكلية الى اى شئ يتحدثن فيه فتنهمر الكلمات والمشاعر دفعة واحدة .... الليلة كانت حلوة قوى يا عمو ربنا يفرحكم بأخواتها يارب ، كانت أجمل عروسة ولو لف الدنيا مش هيلاقى فى ضفرها ...

انتهى الحوار بضحكات "مشبعة بالرغبات" أيقظت كل المنطقة وأيقظت الشهوة لدى البعض وأحضان وقبلات وتمنى أن يدرك الفرح جميعا قريبا ...

الخميس، 9 سبتمبر 2021

وليلة أخرى

 

الليلة الوضع مختلف ، السماء خالية تماما حتى النجمة الوحيدة البعيدة غادرت أيضا ، السحب هرعت إلى أسرتها ، القمر والنجوم اختفوا خلف أسراب رمادية ، الهواء قدم باكرا ، تتمايل الستائر وأغصان الشجر ، نفس المصابيح موقدة ، السيارات نائمة فى أماكنها ، إحداهن ربما شعرت بالبرد قليلا فتدثرت بلحافها ، مذاق الشاى يزداد لذة ، كل شربة تزيح أمامها شيئا من أثار الصداع ، سعف النخيل يتمايل راقصا ..

عيناها صافيتان هادئتان ، صوتها دافئ ، خجلها مُربِك ، تنظر إلى فتذوب ضلوعى ، وتحمر وجنتى وتجرى الدماء فى عروقى ويسيل العرق على جبهتى وتسمع ازيزا لنبضات قلبى ..

شفتاها شهيتان فتُؤكل ، يخرج من فمها رحيق يُمتص ، عسلها يُسكِر ، سحرها آخاذ ، ودود تشتهى قربها ، تقترب فتخشى لهيبها ، ناعمة كـ أفعى ، قوية كـ لبؤة ، وفية كـ ذئب ، غامضة كـ سر ..

الشارع الليلة نشطا ، خطوات كثيرة ، أطفال يعبون بدراجاتهم ، تعلو صيحاتهم ورنات كثيرة تطرق الهواتف ، وأبواب لا تكف عن الارتطام وشرفات خالية .

باب يفتح فيخرج منه شاب يرتدى شورتا يصل الى ركبته وفانلة منزوعة الأذرع ، يجذب خرطوما بيده ، يثبته بصنوبر الماء ثم يفتحه فتنتفخ جنبات الخرطوم ثم يقفز الماء يعانق الشجار والشجيرات والعشب فتفوح رائحته تعانق رائحة الليل ، ثم ينثر المياه أمام بيته ، يرى بعض المارين فينتظر ثم يواصل بعد أن يتخطوا بيته ....

البيوت ناعسة وأكثرها نائم ، العتمة تغلف واجهاتها ، يأتى الليل فتنزع عباءة النهار على عجل ، ثم تبدأ فى رحلة الخمول حتى تتوغل إلى أقصاها ، متلاصقة يحمى بعضها بعضا ، متقابلة يرقب بعضها بعضا .

المساحة التى تصطف فيها السيارات كانت قريبا مروجا خضراء ، أشجارا وشجيرات وعشبا منسقة ومتناسقة ، فل وياسمين وريحان ، كانت تلامسها حبات الندى فتملأ المكان بهجة ثم أهملت فحزنت فذبلت وافترستها الزواحف وغطتها الأتربة وأفات البشر ، شاخت وذبلت فتساقطت أوراقها ، كـ حالى بدونك ، هش لا أقوى على الحركة ، ضال لا أعرف وجهتى ، حزين يئن قلبى بحرقة ، شارد يظن الناس بى جنون ....

شفتاك ليل ، مكتنزتان كـ وجع ، شهيتان كـ حلوى ، معذبتان كـ وطن ، فائرتان كـ بركان ، جامحتان كـ ثورة .

عيناك مخيفتان كـ صحراء ، غامضتان كـ عدو ، هادئتان كـ بحيرة ، لا معتان كـ نجمة ، غاضبتان كـ ثورة .

الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

عيش وملح

 

الوقت لازال باكرا ، السماء تنفض أثار النوم عنها ، الطيور تهز أجنحتها من الندى الذى بللها ، النسائم تجول تدفع بما بقى من رائحة الليل ، يرفع الغطاء أو ما تبقى منه بعد أن سقط أكثره من عليه ، يزلف إلى الكنيف ، يفرغ مثانته ، أصوات اضطراب معدته عاليا ، تستيقظ زوجته ، تأخذ كوبا لتصب عليه الماء من الطست الرابض بجوار الزير فى صحن الدار ، الكنيف بجوار السلم ، يفرغ الرجل وتسرع زوجته تصب عليه الماء ، يغسل يده ووجهه وتفرغ ما تبقى على رأسه الذى يغمره الصلع ، فوطة أو هكذا كانت يوما يجفف بها أثار الماء ، يفتح الباب الخارجى ، يلتفت يمينا حيث الحوش الذى يستخدمه كزريبة تبيت فيه أغنامه وماعزه ، مسورة بسور من غاب ملطخ بالطين ، بابها الخشبى فى قوائمه يتوسطه صاج قطعه من برميل قديم ، الكلاب نائمة أمام البيت والزريبة ، ترفع رأسها تلتفت إليها ، تطمئن أنه هو فتعاود نومها ، يعود إلى الحجرة ، جدرانها طينية عريضة ، سقفها خشب وبوص ، صورة قديمة لأمه معلقة على الجدار تكاد الملامح أن تختفى منها ، بالغرفة السرير الذى ينام عليه ، سرير زواجه ، كان فراش الزواج هذا السرير المصنوع من ذلك الخشب الردئ ، ليس خشب تحديدا ولكنه تبن مضغوط ، وضعت عليه مرتبة دعمت بالعديد من الكراتين الفارغة ، مغطى بملاءة بها الكثير من البقع ، والباقى دولاب وأوعية وأوانى الطهى ووبور .

يحضر المنقد "المصنوع من الصاج " من فوق الفرن النائم فى صحن الدار ، يحضر الكوالح من الشيكارة المركونة على السلم ، يجلس ، يرص الكوالح على الموقد كأنه يبنى كوخا أو عشا ، يضع واحدة أسفلها ويرش عليها قطرات من وبور الجاز ، يشعل ثقاب الكبريت فتنفر النار تلتهم الكوالح ويتعالى الدخان ، يملأ كنكة بالماء من الزير ، يضع عليها بعضا من شاى التموين من العبوة الخضراء المتروكة فى كرتونة تحت السرير بجوار الزيت والسكر وبعض الحبوب المحفوظة ، ينتظر حتى يقل الدخان ثم يضع الكنكة على الموقد ، يجذب الشيشة المتكئة على قائم السرير ، الجوزة " الشيشة " عبارة عن علبة بيروسول فارغة صنع بها ثقبا توضع فيه مقدمة عود من البوص بعد أن يكون قد فرغ من كل ما فى داخله جيدا كأنه ناى ، وتوصل بحجر "قطعة فخارية " تربط على فتحة الزجاجة ، تستخدم كوعاء للمعسل والفحم ، يغير المياه الموجودة فى العبوة ، ويقوم يرتدى الصديرى والجلابية ،  تضع زوجته المشنة بجواره ، تهدأ النار وتبقى حرارتها ولونها ، تسخن أرغفة الخبز وتضع ما يسخن أمامه ، قطعة جبن مع قرون شطة حارة ومزيج من المخللات ، أعواد رجلة وسريس ، يقطع الرغيف لقيمات كبيرة ويلتهمها ويبلعها بسرعة ، يكب فوقها الماء من " القلة " التى باتت ليلتها فى الشباك تبردها نسمات الليل ، يناول ابنه رغيفا فيتمعض وجهه فتضع الأم امامه طبقا البيض فتعاوده بشاشته ، ينادى الابنة فتتأخر فى الرد فيسبها ، وينادى مجددا فلا تجيب ، أخيرا قدمت فيقابلها بحذاء كاد أن يرشق فى وجهها لولا أنها انتبهت ، يا " بنت الكلب " لما لا تردين من اول مرة ؟ ، تبتسم له وتقدم له طبقا فيه بعض الكعك وطبق فيه عسل أسود ، فتهدأ ثورته ويواصل طعامه ، ينادى زوجته أن تحضر بعض الملح يرغب فى أن يغمس فيه الكعك ، جرعات أخرى من الماء ، يتجشأ ويبعد الطعام من أمامه ، يجذب كوبا زجاجيا ويضع فيها سبع معالق من السكر ، يصب الشاى الذى مل من الغليان فى الكنكة ، يترك متسعا لإضافة اللبن الذى أحضرته ابنته ، تجلس زوجته تجهز له الشيشة ، يخرج المعسل من علبة كرتونية مكتوب عليها " دخان عباس " ، تضع المعسل أولا فى الحجر ثم تضع الفحم بعد أن طاب فى الموقد ، تضبطه بالماشة ، يضع مقدمة الجوزة فى يده ويبدأ فى تناول جرعته ، يجلس مستندا ظهره على الحائط ويرفع وركه الأيمن ، يخرج الدخان من فمه وأنفه فيلطخ جو الغرفة ، اعتادت زوجته عليه فأدمنته حتى أنها أصبحت تشاركه وخاصة فى سهرات الخميس ، لكن الابنة لم تعتد ذلك بعد فتسارع تفتح الشباك من الخارج حتى لا تكتم الغرفة بعد أن عبئها الدخان ، حجر يليه حجر يليه حجر ، شهيقا يملأ صدره ، ينتهى فيترك الشيشة ويلقى بعض الماء على بقايا النار فى الموقد فيطفئها ثم ينزع الحجرعن الجوزة ويفرغ ما فيه فى الموقد وينظفه جيدا بالماء ، ثم يرمى الماء الذى فى " علبة البروسول " المستخدمة وعاء للشيشة فيخرج الماء برائحة الدخان العطنة ، يجففهم جيدا ثم يضعهم فى كيس بلاستيكى ، ويغلق عبوة الدخان جيدا ويضعها فى جيب الصديرى الذى يرتديه أسف الجلابيه ، يتحرك قائما ويشير لابنه ليلحق به ...

يفتح باب الحوش ، فتتسابق النعاج فى الخروج والماعز أخف منها فيسبقها وكبش يتعدى على صاحباته ، يسير الابن فى مقدمة الموكب يتبعه الأغنام والماعز والجحش الصغير الذى ماتت أمه مؤخرا وفى المؤخرة يسير الاب تلحقه الكلاب تمنع النعاج والماعز من أن تزوغ هنا أو هنا ، يخرجون من الحارة الضيقة مخلفين وراءهم زوبعة من الغبار والأتربة ، تتبعهم دعوات الأم بالرزق واشمئزاز الجيران الذين ضاقوا ذرعا بالغبار الذى اقتحم صدورهم وبيوتهم عنوة ...