السبت، 18 سبتمبر 2021

نَبتُ الأرض

 

الأيام فى القرى كما المصائر تتشابه ، تتوالى متكررة ، كل يوم تتجدد فيه حاجتك ، حتى أيام الأطفال غير أنها لا تشبه أيام الأطفال الأخرين ، أطفال الفقراء يولدون بأيد خشنة ، بعيون مرهقة ، بأجساد يسرى فيها التعب مقدما ، يترك فيه أثاره حتى قبل أن تتعلم كيف تخطو على الأرض ، الحاجة تكسر ظهر المحتاج ، لا يملك سوى صحته التى وهبه الله إياها ، وإن مر يوم تعب فيه جاع أطفاله ، أطفاله يعملون أيضا أجراء ، يعلمونهم تخلية الأرض من الحشائش الضارة ، الاهتمام بشئون البهائم والأغنام والماعز ، يجمعون حبات الطماطم والخيار والباذنجان والفاصوليا والبازلاء ، البعض يلتحق بكتاب القرية حتى يصل الى ست سنوات فيلتحق بالمدرسة ، البنات أقل حظا ، المرأة تُربى وتعلم كى تُربى وتعلم مستقبلا .

ولدت لأبوين فقيرين ، سبقتها أختها الكبرى ، ولحقتها فى أقل من عامين ، إلتحقت بالتعليم لكنه لم يروق لها ، الحروف عصية عليها ، الأرقام جدار لا يمكن تجاوزه ، الكتابة فعل مستحيل والقراءة مثله ، فهم ما يقال أمامها لا تجيده ، أقصد لا تعرفه ، لا تستطيعه إطلاقا ، حاول معها أبواها ومعلموها ولكن إرادة الله كائنة وحكمه نافذ .

خرجت من المدرسة لتلقى نصيبها من الدنيا ولم تكن أسعد حظا على أي حال ، عقلها لا يملك القدرة على استيعاب أى شئ ، وكأن الدنيا لا تشغلها ولا تعنيها فى شئ ، فقط أخبرها أن أفعلى كذا ولا تفعلى كذا تحديدا ، فتحاول فعل وإنجاز ما طلب منها  دون زيادة أو نقصان ، لا تطلب منها إنجاز أى شئ يحتاج الى جهد عقلى ولا أن تنتظر أن تفعل شيئا من نفسها ، حتى أعمال الطهى التى تجيدها كل الفتيات لم تستطع تعلمها جيدا ، الأشياء البسيطة فقط تستطيع انجازها ، التكرار فيها علمها ، غسل الأوانى لا يحتاج إلى مهارة فتجيده ، ولكن أن تصنع الخبز فذاك يحتاج الى مهارة فاستعصى عليها ، لكنها تحمل الحطب لاشعال الفرن ، تنظف الفرن من التراب الأحمرأو الأسود بقايا الخبزات السابقة ، أن تنوع فى طرق الطهى فذاك استعصى عليها أيضا ، اللبن كثيرا ما يغفلها ويسقط على الوبور فيطفئه ، تجهيز قوالب الزبدة ، تقطيع الجبن قطعا متساوية ، كل تلك من الأعمال الصعبة لكن يمكنها أن تمسح وأن تكنس ، أن تنظف الزريبة خلف البهائم ، تحمل الروث وتصنع أقراصا من " الجلة " تصعد بها السلم الخشبى وتضعها على سطح البيت كى تطهوها الشمس وبعد ذلك تستخدم كوقود للفرن ، تحمل البستلة تملؤها مياها من الصهريج ، تحمل اللبن الى ماكينة فرز اللبن وتنتظر بصحبة السيدات حتى يحين دورها وكثيرا ما غافلنها البنات لولا أن السيدة صاحبة الماكينة تدركها وتقدمها فى دورها ، تعطى الحلة للسيدة فتلقى بها فى الماكينة وتفرز اللبن عن القشدة وتضع له اللبن فى وعاء والقشدة فى طبق وتعود بهما الى البيت ، تجرى بها السنوات ولازالت على حالها ، يخرطها خراط البنات ويصيبها ما يصيبهن جميعا ، تبدو عليها علامات الأنوثة فيعلو صدرها وتدور مؤخرتها ويتقدم الفتيان لخطبتها ويزوجها أهلها أحدهم فترضى به وتسعد .

اقطاعيات الباشوات والبكوات كبيرة وأراضيهم وبساتينهم لا تحصرها العين ، كل منهم لديه أفدنة ربما هو نفسه لا يعلم منتهاها ولا مكانها ، مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال والمانجو وأشجار النخيل ، يتخللها أعواد الذرة ، يملؤها المزارعون ، يستئجرهم الواصى على البستان ، يعمل عند المالك ويبنى له بيتا وسطع مزارعه يقيم فيه بصحبة أهل بيته وكلهم يعملون أجراء لدى الباشا أو البيك ، حسب اللقب الذى حصل عليه أو لم يحصل ، ورغم أن تلك الألقاب ألغيت إلا أنها فى هذه المناطق أو هذا الوطن عموما لا تسقط مطلقا حتى لو مات صاحبها ، يستأجرون الأنفار من المناطق القريبة فيعملون فى الجناين والبساتين ، الرجال للأعمال الشاقة والسيدات لحمل الأقفاص وتنقية العشب وجمع الثمار والأشياء الأقل جهدا .

ولد صبى جميل الطلة ، عيناه رائقتان كبحر ، وجهه أبيض كقمر ، شعره أصفر كشعاع شمس ، سبقه فى الميلاد صبيان وفتاة ، احبه والده وأمه ، قرباه وأعطوه الكثير من الاهتمام وأُلحق بالتعليم ، يكبر وتكبر معه الأحلام التى ترسم له ، اخوة أخرون ولدوا صبيان وفتاة أيضا ، يصاب الوالد بالمرض الذى لم يكن له علاج وقتها ، يحفظ ابتسامته ويحارب مرضه حتى غلبه ، يذهبون للجنازة ويخرج كل أبناؤه مودعين أباهم ، على حافة القبر يقف يبكى فتغلبه نفسه فيسقط فى القبر ، يسرع الواقفين يجذبونه ويخرجونه ، يتحدثون إليه فلا يتحدث ، فقد النطق تماما ، سنوات وسنوات فى رحلات مع الطب والأطباء والمشايخ والمشعوذين والسحرة ، وطبعا ترك دراسته واستقبلته الأرض ، يعمل فيها بصحبة اخوانه وجيرانه ، أصبح من أجراء الباشا ، العاملين فى بساتينه ، طيب ، ملامحه وديعة ، مهما حملته يحمل ومهما قسوت عليه يتقبل ومهما غاضبته لا يغضب ومهما قلت له إلتفت إليك مبتسما ويمضى ، كانت نتيجة الزيارات الطويلة على الأطباء أن أصبح ينطق متعسرا ، الحروف ثقيلة كعدو ونطقها شاق كـ لغة .

كبر الفتى وأصبح شابا ، سعى أهله لتزويجه وكانت حكمة القدر أن يتزوج الفتى الطيب بالفتاة المتعبة ، تنتقل معه إلى قريته ، بيوت متناثرة متفرقة عن بعضها وسط مساحات كبيرة من الفراغ والطرق الرملية ، فى قريتها كانت تعمل فى الحقول ويأتى الشتاء فيملأ الأرض طينا ومياها تعيق الحركة لأيام ، أما فى بيتها الجديد فالمطر شحيح وإن هطل لا تبدو على الأرض " الرمال " أى أثار تدل عليه ، فى قريتها كانت البيوت تدفئ بعضها أما هنا فلا بيوت تجاورهم ، فقط مساحات خضراء تمتد حتى تصطدم بصف من الأشجار السامقة أو أكوام الحطب الكدسة على جانبى السكة وعلى رؤوس الحقول .

فى قريتها الناس ينامون مبكرا اما هنا فالحرارة تعيق نومهم فيجسلون أمام البيت يمزحون ويتسامرون حتى يتساقطون الواحد تلو الأخر.

متماثلان تقريبا ، كلاهما طيب القلب ، المكر والخبث ومكائد البشر لا تطرق فكرهما ولا تتقبلها عقولهما ، كل شئ تقوله لهما مصدق ، كلاهما يعمل فى الأرض ، هو فى اقطاعية الباشا أو أملاك العمدة وهى تجمع العشب من البساتين فتطعم الحيوانات والطيور ، الزراعات هنا مختلفة ربما القمح والذرة يتماثل لكن الأرز غائب ، هنا الفول السودانى والبطاطس ، الجو حار بدل بشرتها ووجهها القمرى طُلى بصبغة أهدتها لها الشمس ، شعرها قاوم ذلك واحتفظ بجماله ناعما بلون ليل ثقيلة ظلمته .

تُنجب الأطفال فيشبهونها ويشبونه ، تعلمهم جدتهم وأعمامهم وعماتهم ، يثقل النطق على احدهم لبضع سنوات ثم يستطيعه ويثقل الفهم والتعلم على احدهم ولا يستطيعه ...

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الله حقيقى الله
ما أجمل وصفك لحالة الفتى والفتاة
ما أروع وصفك لحال الفقراء من أهل القرى الذين لم يسعفهم الحظ ولم تنصفهم الأيام
الحاجه تكسر ظهر المحتاج صدقت بل تألقت كالعادة والله الله يفتح عليك ويزيدك