الأربعاء، 8 سبتمبر 2021

عيش وملح

 

الوقت لازال باكرا ، السماء تنفض أثار النوم عنها ، الطيور تهز أجنحتها من الندى الذى بللها ، النسائم تجول تدفع بما بقى من رائحة الليل ، يرفع الغطاء أو ما تبقى منه بعد أن سقط أكثره من عليه ، يزلف إلى الكنيف ، يفرغ مثانته ، أصوات اضطراب معدته عاليا ، تستيقظ زوجته ، تأخذ كوبا لتصب عليه الماء من الطست الرابض بجوار الزير فى صحن الدار ، الكنيف بجوار السلم ، يفرغ الرجل وتسرع زوجته تصب عليه الماء ، يغسل يده ووجهه وتفرغ ما تبقى على رأسه الذى يغمره الصلع ، فوطة أو هكذا كانت يوما يجفف بها أثار الماء ، يفتح الباب الخارجى ، يلتفت يمينا حيث الحوش الذى يستخدمه كزريبة تبيت فيه أغنامه وماعزه ، مسورة بسور من غاب ملطخ بالطين ، بابها الخشبى فى قوائمه يتوسطه صاج قطعه من برميل قديم ، الكلاب نائمة أمام البيت والزريبة ، ترفع رأسها تلتفت إليها ، تطمئن أنه هو فتعاود نومها ، يعود إلى الحجرة ، جدرانها طينية عريضة ، سقفها خشب وبوص ، صورة قديمة لأمه معلقة على الجدار تكاد الملامح أن تختفى منها ، بالغرفة السرير الذى ينام عليه ، سرير زواجه ، كان فراش الزواج هذا السرير المصنوع من ذلك الخشب الردئ ، ليس خشب تحديدا ولكنه تبن مضغوط ، وضعت عليه مرتبة دعمت بالعديد من الكراتين الفارغة ، مغطى بملاءة بها الكثير من البقع ، والباقى دولاب وأوعية وأوانى الطهى ووبور .

يحضر المنقد "المصنوع من الصاج " من فوق الفرن النائم فى صحن الدار ، يحضر الكوالح من الشيكارة المركونة على السلم ، يجلس ، يرص الكوالح على الموقد كأنه يبنى كوخا أو عشا ، يضع واحدة أسفلها ويرش عليها قطرات من وبور الجاز ، يشعل ثقاب الكبريت فتنفر النار تلتهم الكوالح ويتعالى الدخان ، يملأ كنكة بالماء من الزير ، يضع عليها بعضا من شاى التموين من العبوة الخضراء المتروكة فى كرتونة تحت السرير بجوار الزيت والسكر وبعض الحبوب المحفوظة ، ينتظر حتى يقل الدخان ثم يضع الكنكة على الموقد ، يجذب الشيشة المتكئة على قائم السرير ، الجوزة " الشيشة " عبارة عن علبة بيروسول فارغة صنع بها ثقبا توضع فيه مقدمة عود من البوص بعد أن يكون قد فرغ من كل ما فى داخله جيدا كأنه ناى ، وتوصل بحجر "قطعة فخارية " تربط على فتحة الزجاجة ، تستخدم كوعاء للمعسل والفحم ، يغير المياه الموجودة فى العبوة ، ويقوم يرتدى الصديرى والجلابية ،  تضع زوجته المشنة بجواره ، تهدأ النار وتبقى حرارتها ولونها ، تسخن أرغفة الخبز وتضع ما يسخن أمامه ، قطعة جبن مع قرون شطة حارة ومزيج من المخللات ، أعواد رجلة وسريس ، يقطع الرغيف لقيمات كبيرة ويلتهمها ويبلعها بسرعة ، يكب فوقها الماء من " القلة " التى باتت ليلتها فى الشباك تبردها نسمات الليل ، يناول ابنه رغيفا فيتمعض وجهه فتضع الأم امامه طبقا البيض فتعاوده بشاشته ، ينادى الابنة فتتأخر فى الرد فيسبها ، وينادى مجددا فلا تجيب ، أخيرا قدمت فيقابلها بحذاء كاد أن يرشق فى وجهها لولا أنها انتبهت ، يا " بنت الكلب " لما لا تردين من اول مرة ؟ ، تبتسم له وتقدم له طبقا فيه بعض الكعك وطبق فيه عسل أسود ، فتهدأ ثورته ويواصل طعامه ، ينادى زوجته أن تحضر بعض الملح يرغب فى أن يغمس فيه الكعك ، جرعات أخرى من الماء ، يتجشأ ويبعد الطعام من أمامه ، يجذب كوبا زجاجيا ويضع فيها سبع معالق من السكر ، يصب الشاى الذى مل من الغليان فى الكنكة ، يترك متسعا لإضافة اللبن الذى أحضرته ابنته ، تجلس زوجته تجهز له الشيشة ، يخرج المعسل من علبة كرتونية مكتوب عليها " دخان عباس " ، تضع المعسل أولا فى الحجر ثم تضع الفحم بعد أن طاب فى الموقد ، تضبطه بالماشة ، يضع مقدمة الجوزة فى يده ويبدأ فى تناول جرعته ، يجلس مستندا ظهره على الحائط ويرفع وركه الأيمن ، يخرج الدخان من فمه وأنفه فيلطخ جو الغرفة ، اعتادت زوجته عليه فأدمنته حتى أنها أصبحت تشاركه وخاصة فى سهرات الخميس ، لكن الابنة لم تعتد ذلك بعد فتسارع تفتح الشباك من الخارج حتى لا تكتم الغرفة بعد أن عبئها الدخان ، حجر يليه حجر يليه حجر ، شهيقا يملأ صدره ، ينتهى فيترك الشيشة ويلقى بعض الماء على بقايا النار فى الموقد فيطفئها ثم ينزع الحجرعن الجوزة ويفرغ ما فيه فى الموقد وينظفه جيدا بالماء ، ثم يرمى الماء الذى فى " علبة البروسول " المستخدمة وعاء للشيشة فيخرج الماء برائحة الدخان العطنة ، يجففهم جيدا ثم يضعهم فى كيس بلاستيكى ، ويغلق عبوة الدخان جيدا ويضعها فى جيب الصديرى الذى يرتديه أسف الجلابيه ، يتحرك قائما ويشير لابنه ليلحق به ...

يفتح باب الحوش ، فتتسابق النعاج فى الخروج والماعز أخف منها فيسبقها وكبش يتعدى على صاحباته ، يسير الابن فى مقدمة الموكب يتبعه الأغنام والماعز والجحش الصغير الذى ماتت أمه مؤخرا وفى المؤخرة يسير الاب تلحقه الكلاب تمنع النعاج والماعز من أن تزوغ هنا أو هنا ، يخرجون من الحارة الضيقة مخلفين وراءهم زوبعة من الغبار والأتربة ، تتبعهم دعوات الأم بالرزق واشمئزاز الجيران الذين ضاقوا ذرعا بالغبار الذى اقتحم صدورهم وبيوتهم عنوة ...

2 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الله ايه الجمال دا .....لا بجد الله الله والله مش لاقيه كلام يوصف حلاوة التدوينة دى ...ما شاء الله ما شاء الله رائع والله ما أروعك موهوب موهبة فوق الوصف ايه دقة دقة الوصف دى والله ولا كأنك بتعزف حقيقى ما شاء الله عليك ربنا يزيدك ويبارك يارب

Asmaa Latif يقول...

السماء تنفض آثار النوم عنها النسائم تجول تدفع بما بقى من رائحة الليل.....ما أجمل وصفك للصباح