السبت، 4 سبتمبر 2021

رائحة الزمن

 

أستغل وقت الانتظار الذى فرض على أثناء تواجدى فى المدينة التى لم أزرها منذ نحو عقدين من الزمن ، فأنزل الى الشوارع أقضى بها بعضا من هذا الوقت ، التوقعات أن المدينة ستكون قد اختلفت كليا كما هو الحال فى باقى الأماكن ، المحال التى كنت أعرفها ستكون قد اختفت وحل محلها غيرها ، الأبنية ستكون اختلفت ، الأماكن القديمة قطعا ستكون هدمت وأنشئ بدلا عنها الأبراج ذات الارتفاعات العملاقة ، ولكن المفاجأة أن كل شئ كان كما كان ،  حتى أننى كنت أخشى أن أضل الطريق ولكنى وجدتنى ذلك الفتى الذى كان قبل ما يقارب الثلاث عقود يحمل حقيبته المدرسية ويسير فى طرقات وشوارع تلك المدينة ، الأرصفة كما هى مكسرة تتقافز عليها السيارات وسباب السائقين يصطدم بوجوه وأسماع المارة ، باعة ملخصات الكتب المدرسية القديمة يفترشون الشوارع كما هم ، يشترونها بأسعار زهيدة من الأسر التى انتهى ابناؤها من أعوامهم الدراسية ويعيدون بيعها للطلاب الجدد بسعر معقول ولأن مناهجنا ثابتة كما الأهرامات " باستثناء ما يحدث مؤخرا من هدم " تطوير " للمناهج ،  فان تلك الكتب لا تختلف عن الجديد منها سوى فى تاريخ الاصدار ، يتوسطون باعة الخبز الناشف والفاكهة والخضروات ، مكتبة العلوم والمعارف تتقدم محال الحدايد ، كشرى الزعيم ، محل عصير يجاور محل الحلاقة الذى صففت فيه يوما شعرى مستخدما كريمات " فرد " الشعر كـ " معاطى " الطالب الوسيم الذى تغلب على تصرفاته البلطجة دون أن يمتلك فى جسده أيا من مقوماتها ، كان يعجبنى شعره الذى صفف بتلك الكيفية وعندما كان يجرى أو يتحرك كانت خصلات شعره تتقافز وكأنها أعلنت النفير ، كم علقة تلقيتها لأمتنع عن تلك التسريحة وكم من جنيهات أنفقتها لاقتناء تلك الكريمات والمثبتتات التى تتبعها ، نفس بائعى الحقائب والأحذية حتى ان المعروضات يبدو الغبار مستقرا عليها كأن الحداثة ضلت طريقها إلى هذا المكان ، رائحة الحلوى والفطائر والجبن تتداخل مع روائح الأسماك والفسيخ ورائحة المبانى والشوارع ورائحة الزمن .

المقهى القديم ، مقاعده ومناضده وشيشه ، بائع الأحذية الجلدية يقف مقابله ، متاجر الصاغة ، مجوهرات وفضيات ، محال اقتحمت مربعا كاملا ، فاترينات العرض تجلب المارة من الرجال والنساء ، الفتايات أكثر من يقضين الوقت أمام تلك الفاترينات ، كل منهن تمنى نفسها وتحلم بلحظة تتخطى فيها عتبة المحل متعلقة بيد أحدهم يشترى لها ما يعجبها من المعروضات ثم يتركون أمر السعر لرجال الاسرة يفاصلون ويتفاوضون فى المصنعية قدر الاستطاعة ، وتقضى هى الوقت ترقص على أصوات الطبل والمزمار مع رفيقاتها ..

السكة الحديدية يجرى على قضبانها أعمال الصيانة ، الأكشاك المقامة على أرصفتها أصبحت خاوية ، كان الكشك الذى يتصدر الرصيف تعلق عليه بوسترات الألبومات الجديدة والكاسيت يصم الأذان بجديد الاصدارات والفرشة تحتوى على الكتب والجرائد اليومية والاسبوعية تفوقها عددا الصحف الصفراء تتقدمها الصدور النافرة وأخبار عن فضائح لا تنتهى ، حوادث ، النبأ ، النجوم ، الاذاعة والتلفزيون ، روز اليوسف ، أسوكة وجلابيب وسراويل واسدالات ، كتب ومصاحف وأشرطة كاسيت ، وقارئ يصدح بدعاء ليلة القدر ..

قصر الثقافة يطل على ترعة يسمونها بحرا ، كورنيشه كما هو فقط سقط جزء منه فى المياه فإلتهمته ، مجلس المدينة والبريد ، ممر ضيق بين المبانى الحكومية وبرمج ضخم قالوا أنه مملوك لواحد قضى ممثلا للدائرة فى البرلمان ما يقارب العقدين من الزمن ، الممر ينزل الى فراغ واسع يفترشه الباعة القادمون من القرى القريبة ، الكوبرى الذى دوما مزدحما وخاصة يوم الاثنين حيث الموعد الاسبوعى لسوق المدينة ، المساحات المتروكة لمرور السيارات او الناس صغيرة ، لا تجد موضع قدم الا افترشه بائع ، بيض وألبان وجبن ، زبدة ومش ، بقوليات ، أقفاص وصوانى وصناديق ، أطقم منزلية ، ملابس داخلية ، شرابات ......

 موقف سيارات تملؤه العربات ذات الصناديق المفتوحة من الخلف ، الوسيلة الرئيسية لنقل المواطنين فى هذه الأماكن ، عرقين من الخشب ، كل منهما يوضع فى ناحية من السيارة ، متقابلان ، يصطف فوقهما الركاب ، ست أشخاص هنا ويقابلهم مثلهم فى الجهة الأخرى ويمكن الاتفاق على أن يكونوا خمسة فقط شرط رفع الأجرة طبعا بما يغطى تكلفة السادس أو يزيد ، فضلا عن الذى اتخذ من الاكصدام مقعدا ، الواقفين بالخارج معلقون بين الاكصدام وسقف السيارة يكادون يجعلون مقدمة السيارة ترتفع لأعلى لولا الجالسون فوق الكبود أعلى السيارة الذين يحفظون للسيارة توازنها ...

نفس العربات أيضا تستخدم لنقل المواشى والماعز والأغنام للأسواق ولكن بعد أن ينزع الكبود وترفع العروق الخشبية ...

أشجار عتيقة تتقدم مبنى يماثلها فى العمر ، ترتفع أمامه بوابة حديدية ضخمة ، تحتاج لعصبة رجال لزحزحتها عن موضعها ، مديرية الرى ومبنى للصرف الصحى ، فيلل تطل على الجانب الأخر للبحر ، احتفظت بهيئتها كما هى ، ألوانها صفراء واهية ، كأنها شاحبة ، كلت من توالى السنون ، جمعية قديمة تكدست فيها شكائر الأرز والسكر وبراميل الزيت وكراتين الشاى ، عصير قصب شهى ابتسامة صاحبه تزيد لذته ، وصيدلية احتفظت بكل شئ تتصدرها لافتة " اجزاخانة مصر " .

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الله الله الله ....والله كأنى اتنقل فى هذه المدينه
ما أدق التفاصيل وما أروع الوصف المحال والسكك الحديدية الباعة وموقف السيارات حتى طعم عصير القصب والله كأنى اتنقل فيها .....كم أشتاق لرائحة هذا الزمن كم كم وكم ......ما أروعك اللهم بارك