الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

يقف وحيدا فى باحة القصر

 

يجلس فى شرفته ، وحيدا كعادته ، يقلب وجهه فى السماء ، يرقب السحب ، ينتظر القمر ، يبحث عن نجم ، يطالع كتابا ، شغوف بالتأمل ، بالمطالعة ، بقراءة ما لا تنطقه الألسن ، يثق أن لكل شئ لغته الخاصة ، حتى الجماد ... الكل يتحدث بشكل ما ! .

السماء الليلة بيضاء باستثناء بقع صغيرة رمادية  ، السكون نثر على الكون بسخاء ، النسمات تلهو ، تتقافز ، تداعب الأغصان ، الليل لباس الأنفس ، راحة وطمأنينة ، هدوء وسكينة ، وستر لكل شئ  .

أنفاس الليل الباردة ورائحته العطرة ترطب الوجوه ، السلام يتسرب الى الداخل ، الصدر منشرح يمتص أكبر كمية من الأكسجين وكأنه صدر غواص ، يحتفظ بالهواء كى يبقى تحت الماء أطول وقت ممكن .

يقطع شروده محرك سيارة غبى ، يهدر بصوت متعجرف ، العجلات تخط فى الأرض وكأنها تحفر وراءها مجرى مائى ، تقابلها سيارة قادمة من الجهة الأخرى ، يعلو صوتها مرة واحدة ثم يتوقف تماما وكأنه أغشى عليه .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، هام عشقا بـ " زبيدة " ذات العينين الرائعتين والبشرة الخمرية والقوام المبسوط والقامة الطويلة والطلة البهية ابنة " منطقة رشيد " ، يطلب يدها من والدها فيوافق شرط أن يعلن إسلامه ، يسلم ويصير اسمه عبدالله ، يتزوجان وينجبان سليمان ، يقتل كليبر ويصير عبدالله " مينو " قائدا للحملة الفرنسية ، لا يستقر للفرنسيس البقاء فى ارض الطغيان والمتناقضات فيودعها مصطحبا زوجته وولده ويقول " وداعا لمصر ، وداعا للمسلمين ، خرجنا نحمل الذكريات القاسية من بلدكم الذى يحوى أجمل الأثار ولنا ذكريات مؤلمة فى الصحراء ولكن المجد لنا لأننا سببنا لكم القلق وسكبنا الدماء فوق ضفافكم " .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، تقدم عمره ، يستعين بولده ، يرسل إليه ليعود ليتولى زمام الأمور ، الأب غاضبا منه ولكن لا مفر ، الابن لا تعجبه أفعال والده ولكنها الفرصة والفرص لا تتأتى كثيرا ، يستعد لتولى زمام الأمر ولكن للقدر تدبير أخر ، يباغته المرض فيملؤ صدره فيقضى نحبه  ثم يلحق به والده بعده بفترة وجيزة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر فيما سيقوله الناس عنه ، وماذا سيخلده التاريخ له ، يسأل كل من يلقى ، حتى الخدم والحاشية والحلاق ، يجمع المخابيل والدراويش والمشعوذين وقارئى الكف ، جلسات تحضير الارواح تعد فى القصر ويؤمن بها ايمانا كاملا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، ثم يصدر أوامره لمسيو براناى أن يصك عملة تحمل اسمه ولا تحمل اسم الخليفة العثمانى فيسافر الرجل الى فرنسا ويقوم بصك العملة كما طلب وعندما يعود يكون الرجل قد رحل وحل محله أخر فيصدر تعليماته أن تضرب العملة مجددا ويعاد صكها بحيث تحمل اسمه هو واسم الخليفة العثمانى .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، الحماقات جعلت الديون تكثر وتتكاثر ، يقرر تقسيم الأزبكية وبيعها ليجنى بعض الأموال ، يعيد تشغيل الموظفين الذين أحيلوا الى المعاش بشرط أن يردوا الأراضى التى منحت لهم فيتسابقون الى فعل ذلك ، فيستولى على الجيد منها لنفسه والردئ يرد الى خزانة الدولة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر كيف يمكنه تغيير نظام الحكم فى أسرة محمد على بحيث يكون لابنه من بعده ، تأتيه الفكرة ويرسل لجس الأمر عند الخليفة العثمانى وتأتيه البشارة بالموافقة المبدئية فيمنح حامل البشارة خمسة عشر ألف جنيه استرلينى وينعم عليه بترقية ...

وفى العام التالى يصدر الخليفة قرارا مغايرا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يتذكر ايام طفولته وأصدقاء صباه ، والداه واخوته ، أيام المعاناة والتعب ، فترات الخوف والهرب ، صحبه الذين كانوا حوله والآن لا يجد واحدا منهم بجواره ، كلهم رحلوا ، أقصد كل منهم رحل بطريقة ما ، منهم من لقى حتفه ، منهم من قبض عليه وألقى فى مكان غير معلوم ، منهم من نُفى خارج البلاد ، منهم من ذهب عقله ومنهم من صار درويشا ، يذكر جيدا ما فعله لكل منهم ، يود أن ينسى ذلك ، يأتى على الكأس الذى فى يده دفعة واحدة ثم ... يسقط وحيدا فى باحة القصر ...

يعلو صوت المحرك مجددا ثم تولى مخلفا وراءه مزيجا من الغبار والدخان الكريه وصفحات التاريخ التى لا تنتهى منها الحكايات ولا تخلو من الغدر والخيانات ....

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الله الله على طريقة وبساطة عرضك الله والله ....ببساطه وسلاسه سردت احداث معقده إلى حد ما وكأنه مسلسل نشاهده ....وفى النهايه تبقى المطامع البشريه سيدة كل المواقف ....برافو عليك بجد