الجمعة، 22 أكتوبر 2021

يا فاتنى

 

القمر يطل ، يسقط مباشرة من أعلى ، ضوء خافت يتسرب ، سلم خشبى مستند إلى الجدار يرافق ظله ، ينكفئ شخص من اعلى يطل بعنقه إلى أسفل ، الليل خادع ، ليس شخصا بل هو طبق دش مثبت على حافة السطح ليس أكثر ..

ياااااا يا فاتنى

شوق أسرنى .... طال غيابك

ياااااا ليه تفارق

قلب عاشق ... دق بابك

عيناك ليل ، دافئة كليل ، باردة كليل ، آمنة كليل ، خائفة كليل ، مخيفة كليل ، ودودة كليل .

السير إليك كصعود الجبال ، شاق يقطع الأنفاس ، مرهق يُكل البدن ، شيق يطرب الفؤاد ، حارق كجمرة نار .

يغلق باب السيارة ، يصطحب زوجته واولاده ، يخطون ، يسمع صوت أقدامهم ، تصطك المفاتيح فى أيديهم ، يعلو صوتهم وتتداخل منهم الكلمات .

يا ناسى عمرى    ومالك أمرى

تعبت قلبى من عذابه

ومين بيقسى    وعادى بينسى

حبايبه لما عنه غابوا

يا ناسى شوقى وحنينى .... ياريتنى أنساك

رائحتك كرائحة المطر ، كرائحة النيل ، كرائحة الليل ، كرائحة الصمت ، كرائحة السكون .

شفتاك ثائرة ، فائرة ، شهية ، مغوية ، مكتنزة كأنها الدنيا ، حادة كأنها سيف ، رقيقة كأنها نسمة ، رقيقة كأنها طيف .

يشعل مصباح الحجرة ، يخرج الضوء من النافذة ، كبقعة بيضاء فى ثياب أسود ، أسفل منه بطابقين يشتعل مصباح أخر ، تحجب القضبان الحديدية على النافذة الضوء فيخرج متكسرا كأنه شق إلى أربع أجزاء مستطيلة .

ياااااا يا فاتنى

خدت منى .... قلبى هاته

ياااااا مين بإيده

يعنى ينسى ... ذكرياته

نباح الكلاب او هو تحديدا كلب واحد ، ينبح بصوت غليظ ، لعله جاع أو غلبه العطش أو مل الوحدة وينادى على من يؤانس ليله ، يصمت ، يتناول قسطا من الراحة ثم يعاود عمله فيغلبه النوم .

 هواك غلبنى    ليالى سايبنى

ما بين دموعى واشتياقى

وبتلاحقنى       ويا تلحقنى

يا تقضى على اللى منى باقى

يا ناسى شوقى وحنينى .... ياريتنى أنساك

يستند إلى سور الشرفة ، يتبع السيجارة السيجارة ، يعلو صوت سعاله ، تصرخ عليه رئته تستغيث مما يفعل بها ، يبصق فى الأرض ، يعاندها وويخضع لشهوته .

تسقط القطرات ، تصطدم بالإطار الحديدى للشرفة فتسقط على الأرض أو تتدحرج عليه ، الغيوم تتكوم وتتكاثر ، الرعد يدوى صوته ، الطيور تختبئ فى بيوتها ، الأرض تصير طينا بعد أن كانت ملساء ..

" الفن كارثة فى حد ذاته ، لأنه يطلعك على لمحات من عالم ساحر أخر لم تعشه ولكن عاشه الأخرون ، إنه أشبه برائحة طعام شهى من مطعم لا تملك ثمن ارتياده ... هذه الرائحة تخبرك أن هناك طعاما رائعا ينعم به بعض الناس لكنك لم تذقه ولن تذوقه أبدا ..." . د احمد خالد توفيق .

يا فاتنى " حماقى " ، كلمات " أمير طعيمة " .

الخميس، 7 أكتوبر 2021

الخط الثالث

 

تنزوى على نفسها ، تجلس فى ركن بعيد ، تستند على جدار العزلة ، تستعين بحيطان الصمت ، تقبض بيدها على الاطار الحديدى للمقعد ، ترقب المحطات ، تمر تتوالى أسماؤها ، يدس المترو رأسه فى أنفاق من العتمة ، يؤانسها ضجيج اصطكاكه بالقبضان ، تخرج هاتفها من حقيبتها ، ترتدى غطاء رأس وردى ، ترفع كم قميصها قليلا ، يبزغ بياض ذراعها ، ترتدى شوزا أبيضا فوق شراب قصير تبدو من ورائه قدمها ، يعلوه بنطال من الجينز الخفيف وقميص يليق به ، تبث عينها فى الهاتف ، تنقر بأصابعها شاشته بسرعة بالغة ، الفتيات يجدن ذلك ، تتحدث همسا ، يكاد صوت أنفاسها يعلو فوق حديثها ، نحيفة ، تلتقى عينانا .

يخلو بجانبها مكان ، يملؤه فتى يقارب سنها ، مصبوغ بالكثير من ملامحها ، يرتدى قميصا بلون حلة رأسها ، يفرج عن قدميه فتصصدم الركبتان ، تضم قدميها وتزويهما جانبا ، لا يبالى ، ينظر فى هاتفها ، يضايقها فعله ، أفكر ان أقول له انتبه لجلستك ثم أتروى قليلا ، يعود مجددا ينظر فى هاتفها ، يميل قرب وجهها ، تهمس إليه ثم تميل على كتفه برأسها ، أحظ الشبه بينهما ، يمسك بيدها ويترجلان .

ينزل ركاب ويصعد أخرون ، يجرى أحدهم ، يشغل المكان الشاغر ، تعلو وجهه ابتسامة المنتصر ، تأتى إحداهن فتقف أمامه فينهزم أمام نظرتها ويترك لها مكانه ، السيدات والفتيات يخبرنك أنهن يفضلن العربات المختلطة عن العربات المخصصة لهن خاصة فى أوقات الازدحام ، يعللن ذلك بأن السيدات لن يتخلين عن مقاعدهن لبعضهن أما الرجال والشباب فيفعلون ، يفعلون ذلك ربما بدافع الأخلاق أو دافع الشهامة أو دافع الحرج أو الظهور أو حتى بدافع التحرش ، فى النهاية يتركن له دوافعه تذهب معه حيث رحل ويفزن بالمقعد .

يخرج الناس من العربات يتدافعون ، أفواجا على رصيف المحطة ، يدفعون بتذاكرهم فى أفواه الماكينات فتبتلعها وتفتح لهم منافذ الخروج ، يتجهون ناحية السلم الكهربائى ليصعد بهم الى الأعلى ، قليل من يصعد الدرج على قدميه وأحب أن أكون من القليل دوما .

اتجاهات كثيرة ، الناس كل يحمل فوق رأسه همومه ، البعض يسأل عن اتجاهات الخروج والبعض يسأل عن الطريق لوجهته ، إحداهن تنادى فحص كامل فى ثلاث دقائق ، قديما كانت هنا فقط منافذ للصحف ثم لحق بها منافذ لكروت الشحن والأن أصبح سوقا واسعا ، ملابس وأحذية وحقائب واكسسوارات ، مستحضرات تجميل وعطور ، لافتات كثيرة تعلن عن الاتجاهات ، تشير إلى إحداهن إن اتجاه الخروج من الجهة الأخرى ، أعود للخلف وأتجاوز البوابة الأمنية ، يقابلنى أحدهم فيشير إليه مسئول الأمن أن هذا الباب للخروج والدخول من الناحية الأخرى ولا تنسى أن تضع حقيبتك على جهاز كشف الكذب  ، أصعد إلى أعلى يتلقفنى النهار ، خيمة كبيرة أقيمت كمعرض للمستلزمات المدرسية على اليسار ويمينا السيارات مصطفة يعلن اصحابها عن اتجاهات سيرهم .

أعبر الرصيف وأسير بمحاذاة المبانى الشاهقة متجها إلى وجهتى ، مازالت الكتب مختبئة فى فراشها لم يسمح لها الباعة بعد بالظهور ، وحدها محال الملابس كشفت أستارها وأزالت الحجب عن معروضاتها واطلقت الباعة فى الشوارع والطرقات يستقطبون الزبائن ، تميل إحداهن على وترش على ذراعى معطر .

الاثنين، 4 أكتوبر 2021

هموم الكتابة

 

يا عزيزى ما عليك إلا أن تمسك بالقلم وستجد الكلمات تتشكل أمامك ؟ ... نعم تتشكل ؟!

نعم وستنساب كأنها المطر ، عذبة رطبة طرية كحبات الندى ، اول مولدها ، بزوغ فجر أول أيام الأرض ، شروق شمس بدء الخلق ، تخرج كأنها وحى ...

يا صديقى إنى أتكبد العرق فى كتابة جملة واحدة ، أتعثر فى صياغة سطر واحد ، وأنت تقول ذلك ؟

نعم أقول ذلك وأقسم عليه

يا عزيزى ، القلم يعلم شهوته ويمتلك غريزته ، يتحكم فيها ، يرسلها حيث شاء ويضعها حيثما راق له ، لا يعبء بأحد ، لن يلومه أحد إن خرجت كدمية أو خرقة بالية ولا إن تشكلت كلؤلؤ وضاء ، لن يضره إن كتب شجرة ثم أتى عليها بمنشار ، ولا إن بنى بيتا ثم ترك فيه المعاول تهدم ولا إن سطر عمرا ثم أشعل فيه النيران ولا إن أقام قصرا ثم تركه للصعاليك ، كل ما يعنيه ويسعى له هو الكتابة ، الكتابة للكتابة لا لغير ذلك ، هى الغواية ، المعشوقة ، العابدة ، الزاهدة ، الغانية ، القوية ، الضعيفة ، الراضية ، المتسلطة ، هى الأميرة وليدة الغوغاء ، هى الذئب والحمل ، الماء والنار ، هى الصبر والعجلة ، لا يهم فى أى صورة كانت ، أو فى أى هيئة تشكلت ، هى فى كل أحوالها خالدة حتى تفنى الدنيا أو تضيع هباء ، ساحرة ، شبقة تنز من فرجها الشهوة ومن عينها الغواية .

ماذا أكتب ؟

أكتب وطنا ، اكتب حلما ، أكتب حبا ، أكتب صمتا ، اكتب وجعا ، أكتب قهرا ، أكتب ألما ، أكتب فرحا ، اكتب أملا ، أكتب أرضا ، أكتب غضبا ، أكتب سرقة ، أكتب كذبا ...

كلماتى شاقة عليك ! ... حسنا سأعيد الصياغة بشكل أيسر !.

صفحات الجرائد ...تعرفها طبعا ... ما بها ؟

لا أفهم قصدك ...

صفحات تُعدد الانجازات والاخبار واللقاءات والبطولات ، صفحات تنقل الحروب والصدامات ، صفحات لهو وسهرات ، أخبار خفيفة ، غرائب وطرائف ، صفحات تنقل المصائب والحوادث ، صفحات للوفيات ، صفحات تنشر التهانى والمباركات ، صفحات للفضائح والشائعات ، صفحات للرياضة ، صفحات علمية وأدبية ودينية وكلها تحاصرها الاعلانات ...

لو نظرت مليا لجريدة واحدة لوجدت ما بها كل ما قلته لك أنفا أما العبارة الأخيرة فهى كل الصحيفة .

رغم كل ذلك ... لا أجد ما أكتبه !

يا عزيزى أنت واهم ، أكتب عنك ، عن حكاياتك ، حلمك ومخاوفك ، أكتب سرك الذى لا تبوح به ، أكتب ما تخشاه ، لا تقلق لن يعرفه أحد ، الكُتاب يظنهم الناس كذبة مهرة لذا لا يصدقون شيئا مما يقولون ، لذا إن أردت ان تتخلص من أثقال أحمالك فاملأ بها فراغ الصفحات ، ألقها فى الكتابة دفعة واحدة او على دفعات فوق بعضها ، ضعفك تستطيع أن تمقته بين سطورك وأن تصور أنك البطل الذى لم يهزمه أحد وأنك تستطيع تحريك العالم بجرة قلم وأن ديانا كانت لا تشبعك فى سريرك وأن انجلينا جولى تئن تحتك وأنك مللت رسائل كيت وينسليت .

أكتب أنك حاولت تنبيه قطز قبل إن يغدر به بيبرس وأنك اول من اقتحم حصون عكا وأنك من أشرت على صلاح الدين بخطته وأنك الناجى الوحيد من مذبحة القلعة .

أكتب أنك صعدت جبال كليمنجارو وجلست وسط الثلوج تتوهج فى أرض بيضاء ، أكتب أنك نجوت من اكلى لحوم البشر بل وإنك أكلت لحومهم ، أكتب أنك صاحبت الأسد وركبت النمر ونمت تحرسك الذئاب ، أكتب أنك من أطفأت حريق القاهرة وأنك من أشعلت حرائق روما .

أكتب أنك من كتبت التاريخ وأن الجبرتى سرقه وأنك وحدك تعرف تاريخ موته وتتحدى أن يعرفه غيرك ، أكتب أنك حاولت إنقاذ مكتبة بغداد ولم تدرك حريق مكتبة الاسكندرية ، اكتب أن الاسكندر كان بنفذ خططك وأنك من وضعت قواعد الاسكندرية .

أكتب طرقا جديدة وسلالما تصعد بالناس إلى أحلامهم ، أكتب أدوية الأوجاع ووسائل السعادة ومبيدات الفقر وقاتلات المرض وموبقات السحر ، أكتب وردا وزهورا وافرش للناس بساتين الجنة .

الأحد، 3 أكتوبر 2021

الغرق : حكايات القهر والونس

 

الغرق : حكايات القهر والونس ----- الروائى السودانى الرائع : حمور زيادة – دار العين للنشر- عام 2018 م

حجر نارتى ، على حافة النيل ، تعرفه ويمر عليها كغيرها ، لا تثير انتباهه ولا تشغل شغفه ، يهبها الحياة كما يفعل مع غيرها ويرسل لها من عطاياه ، ولكن ليست كل العطايا تبهج .

يمشى عبدالرازق على قيفة النيل ، لا هم له ، يعقد كفيه خلفه ، مدكوك الجسم كأنه مصارع قديم ، لحظ الشلاء الحمراء تسير فى الجدول ، اقترب منها ثم صرخ .

أهل القرية يقضون أكثر أوقاتهم فى عريش " فايت ندو " ، يحتسون الشاى والقهوة واحيانا يلتهمون الطعام ولا خمر كـ " فايت ندو ووكر " ، يسمعون الصراخ فيهرولون نحوه .

حاج بشير يهيم عشقا فى جمال سكينة وهل فى الناحية مثل سكينة ، سكينة حلوة كقرطاس حلاوة ، كانت بنت البدر ، مكتملة حسنا ، وفائقة لطفا ، تمشى فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين ، تصفق فيطرب النيل ، تضحك فيرقص النخيل ، كان وجهها ناعما كثمرة مانجو ، تتغنى البلاد لجمالها ويأتيها الخطاب من كل صوب ويغار عليها بشير كأنه النار ، تفترق الأقدار فيبكى عليها وينوح ، يجلس وحيدا يطرب نفسه ، ليس للمرء وليف كذاته ولا مطرب كصوته ، ثم يستجيب القدر ، يمرض فيزعجه الضوء كأنما ألف شمس تقرع عينيه.

عز القوم ، فايت ندو ، عبير ، سلسال كبعضه ، المولد واحد واللون واحد والمصير ، ألغى الرق ومازال عالقا به ، لا يحل لهم ما يحل لغيرهم ، حتى اسم عبير صار عبيرا لأنه لا يجوز أن يكون غير ذلك ، حتى مدرستها ارغمت على تركها لأنها لا ينبغى أن تكون كذلك ، حتى مصيرها لقيته لأنه ينبغى أن يكون كذلك ، هكذا حال المتناسلون من اللامكان فى قرية تتفاخر بالأنساب .

أحمد شقرب ، فر من المدينة بأفكاره الى القرية ، ممرض يحاول أن يحيا حياة جديدة ، يرى عبير فتتبدل ملامحه ويتسرب سحرها الى جسده ، نظرت إليه بعينين ميتتين ، هام بها حتى فر منها .

عبير كأنها ثمرة جوافة ثقبتها الطير ، رائحته فواحة مغوية ، شعرها مبعثر مغبر كما يليق بطفلة ،  ليست حسناء ، لكنها شهية كالعافية للسقيم ، يشتهيها الصبية فيتحرشون بها ، يشتهيها الشباب فيجدون عندها متعتهم ، يشتهيها الرجال فيقضون بها وترهم ، يشتهيها العجائز فتذكرهم بسابق عهدهم .

الصبية النحيلة ، سوداء كسحر سفلى ، تلمع ساقاها الصبيتان كأنما القمر يطل على بحر النيل ، صدرها ليمونتان لم تنضجا ، لا يكاد تستره ثياب الطفولة .

سكينة ، اذا مرت بمكان مس المكان شذى كرائحة الجوافة تحت المطر ، عيناها غمامتان من الصدق تمطران حنانا.

يخرجون الجسد من النيل ، فتاة لا يعرفونها ، يرسلون الى القرى المجاورة ، ربما يتعرف أى منهم على الفتاة ويتركونها تحت الحراسة عدة أيام ، المكان هادئ جدا ، صمت إلا من طير يثرثر بعيدا ، نهيق حمار فى مكان ما ونسيم يهمس بين جريد النخيل ، خلوة ليس فيها إلا الظل .

يأتى أهل القرى ربما تعرفوا على المتوفاة ، أتوا كما الغيم قبل المطر يأتى ، صامتون على حميرهم ، يبعثرون التراب الناعم كدخان قلق .

لا يعرفونها ، يقضون الوقت يتسامرون ، ياخذون واجبهم عند فايت ندو ثم يغربون ، تتنهد الشمس شفقها الأخير وتهم بالغوص فى الغياب .

فايت ندو ، فارعة ، جسدها مفتول العضلات ، شعرها خشن قصير ، ملامحها تحمل عذوبة فاتنة كأنما خلقت من نبيذ صافى .

يترك كليته فى سنته الأخيرة ويعود الى قريته بناء على تلغراف من عائلته أحضر فورا قبل أن تضيع منا العمودية ، أدرك إرثك ، يعلم أن أباه قد توفى من هذه الرسالة ، يسرع عائدا ثم يدرك العمودية قبل أن تنتقل الى أل البدرى ، تضطرب الأحوال وتكثر الصراعات والهرج والقتل فى مكان ولا يعنى ذلك للقرية شئ ، من يحكم يحكم ، ما يهمنا سوى الجازولين ، اما باقى الأشياء لا تعنينا ، يحدث حاج بشير ، الأمر مختلف هذه المرة ، لا شئ يكفى شر العسكر يا بشير ، لا شئ يكفى شر العسكر ، لكنه مبلغ حيلتنا ، يرسل التأييد المطلوب ويؤدى واجبه ليحفظ مكانه ومكانته .

الرشيد يتخطى الثلاثين ومازال عازفا عن الزواج ، جرب فقط سبع نساء لكنه لم يتزوج قط ويأبى ، تفتنه عبير ، نحيفة صموت كمعزة بكماء ، لكنها مثيرة ، معطاءة كقبيلة من البغايا لا ترفض أحدا .

خرجت حافية فى قرية كلها تعرفها ، مشت توزع الابتسامات للناس والحيطان والرمال والحمير والشمس والنخيل واشجار المانجو وجنائن البرتقال .

تمشى تتهادى يرتج جسدها كأنما تمشى على الماء ، شعرها ثائر كغابة من الشوك ،  تفوح إثارة كحرارة جمر فى ليل شتوى .

يجذبها من يدها فتطيعه ، لا تسمع لها الا الصمت ، يختلى بها فى غرفته ، ينزع عنها ثيابها ، سحره يغشاها ، كان يعلم أنها خرجت لتوها من تحت غيره ، عيناه الواسعتان كنهر مضطرب ، عيناها الميتتان كمنزل مهجور .

يلقيها ، تدفعه عنها ، لن تطئنى إلا بعد أن تعدنى ....

صوت أنفاسه فى الظلام كريح عاصف ، تفوح منه الرغبة يوشك أن يخترق فيضئ المكان .

لا يرى الصبية لكن وجودها وحده يغمره بالشبق كفيضان ، احتضنها ، قبلها فى نزق ، يثما انزلقت شفتاه لثم ، عبث بجسدها وعبثت بهياجه .

ضحكت ضحكة رائقة كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر ، ثم علت بطنها وأعلنت الراضية مصيرها  .

بالنيل تبدأ الحكاية وعند النيل ختامها وفى طريق النيل دماء تراق وأجساد تنتهك ووجوه توشم ومصائر تسطر وأمم تنتصر وجيوش تنكسر ، حكايا عن القهر ، يتسامرون بها لنثر الونس وكل حكاية تتفرع الى جبال من الحكايا التى لا تنضب .



السبت، 2 أكتوبر 2021

طرح الصبح

 

الديك يصدح وحده ، ينادى مرات ومرات ، زقزقة العصافير تتم لحنه ، وكلب يتلكئ أمام البيوت ، أشجار تنفض أثار النوم عنها ، ونهار يتسرب بلطف وليل جمع حاجاته وسكن ، الأغصان تفتح أعينها ، تتثاءب ، تبتسم كأنها ملائكة .

هدهد يسير بتؤدة ثم يقف مليا ينقر أمامه ، حمامة تضرب بجناحيها ، تجرى عمليات إحماء سريعة ، عربة يصدر منها ضجيج مُسجل ، الضوء نشر بسخاء ، أضواء المصابيح ضاع أثرها وأصبحت كالعدم ، السيارات تكتسى برداء شفاف من الندى ودثار من الضباب ، الشمس تتفجر أنوارها والبرد يتدفئ به .

أسير ، يغمر النعاس عينى ، على يسارى الترعة ويمينا تستقر الحقول فى اطمئنان ، فئران تجرى على الجسور يطاردها ثعبان جائع ، ضفادع تتقافز فزعة ، تغمس الأشجار أغصانها فى الماء تبلل أوراقها ، البقرة امامى وصغيرها فى الخلف ، أمسك بحبلهما ، أمر على حوض ماء فأسقيهما ثم نواصل ، الأشجار سامقة على حافة الترع ، صفصاف ، كافور ، شجرة جميز وحيدة ، تكتلات من البامبو والبوص ، ورد النيل يعلو سطح المياه تتبعه أسراب الريم .

بستان محاط بسياج من سلك مجدول تخرج منه سنون تقطع ، تطل الورود منه رغما عن حراسها ، فل وياسمين وورد بلدى ، فى شم النسيم يزوره الكثير وكلابه تتصدى لهم .

رائحة الزرع رطبة ، طرية كشفتيك ، لها اشتهاء قبلتك ولمعة عينك وشغف امتلاكك ، طعمها كرحيق عشقك ، دفئها كجمر غريزتك ، شهية حيثما انزلقت لثمتها .

الزرائب تقف على رؤوس الحقول ، سواقى الماء وأشجار النخيل ، عروق خشبية تصل ما بين الجسرين تكاد تلامسها المياه ومن نعس قليلا غشيته فأفاق ...

فى جانب متفرع يمينا " مزقة صغيرة " ، تمر فى هذا الجانب حتى تنتهى فى المصرف المار على البلدة التى تلينا ، تسقى الحقول الرابضة على جانبيها ، يحيطها ما يحيط غيرها من الترع والمصارف ، ناحية من الطريق مهدها سير الجرارات الزراعية عليها والناحية الأخرى لا تصلح سوى لسير المزارعين وحميرهم ومواشيهم ...

أواصل السير ، أتخطى الكوبرى الواصل بين الترعة على يسارى ومصرف أخر قدم من ناحية اليمين ويمتد إلى البلاد التى تمتد مع غروب الشمس ، أنعطف يسارا ثم يمينا فأصبحت الترعة عن يمينى الأن والحقول عن يسارى ، فى الأفق بيوت متناثرة لعزبة صغيرة يتقدمها مسجد يكاد يكفى سكانها محدودى العدد ، يعمل قاطنوها فى الحقول وجناين البرتقال والعنب والملاصقة لهم ومن بعدهم تأتى عزب أخرى وكفور ، بيوت من الطوب النيئ ، لا يزيد ارتفاعها عن طابقين ، كلها لها تلك الأبواب الخشبية ذات المزلاجات الضخمة والشبابيك المغروس بين حديها قضبان الحديد ، قليل من جدرانها طلى بدهان ..

معدية صغيرة أتخطاها ، على الجانب تسكن الساقية وبجوارها مربط البهائم ، أربط البقرة وابنها ، من الجانب أرفع غطاء القش ، وأحمل البرسيم أفرده امام رأسيهما ، أغطى المتبقى مجددا ، أحضر الفأس والمقطف من مضجعهما ، أحفر المربط ، انزع منه الروث ، أكومه فى جانب ، نستخدمه فيما بعد سماد للغيطان ، من على حافة الترعة أقطع الكتل الترابية الصلبة ، أفتتها جيدا ، أملأ بها المقطف ، أفرشها تحت أقدام البهائم ، أكرر الأمر حتى يُفرش المربط كاملا ، "الردم" من طمى الترعة ، تستخرجه الكراكات من باطن الترع وتضعه على الجسور عندما تأتى لعمليات التنظيف الدورية ، نتركه حتى يجف ويقسو ويصير صلدا ثم نستخدمه مجددا ، وعندما يختلط بروث البهائم وبولها ننظف المرابط والزرائب ونضع نتاجها جانبا حتى يتحول الى سماد ، نعيده الى الأرض مجددا وهكذا تتكرر دورته وحياته ، بعض الردم ينتج من تجريف الأرض لاعدادها لزراعة الأرز واكثر هذا يستخدم لردم وتغطية قواعد المبانى الحديثة .

أنزل إلى الحقل ، أدور على الحد حولها ، أجمع بعض " قرون " الفول ، فى ظل شجرة على حافة الترعة أجلس ، أتسلى بما جمعته ثم أقرأ فى لوحى ...

تأكل البهائم حتى تمتلئ بطونها ، تتشبع من الشمس ، تلتفت الى صغيرها ، تطمئن عليه ثم يغرقان فى نوم عميق ...