الغرق : حكايات
القهر والونس ----- الروائى السودانى الرائع : حمور زيادة – دار العين للنشر- عام
2018 م
حجر نارتى ، على
حافة النيل ، تعرفه ويمر عليها كغيرها ، لا تثير انتباهه ولا تشغل شغفه ، يهبها
الحياة كما يفعل مع غيرها ويرسل لها من عطاياه ، ولكن ليست كل العطايا تبهج .
يمشى عبدالرازق
على قيفة النيل ، لا هم له ، يعقد كفيه خلفه ، مدكوك الجسم كأنه مصارع قديم ، لحظ
الشلاء الحمراء تسير فى الجدول ، اقترب منها ثم صرخ .
أهل القرية يقضون
أكثر أوقاتهم فى عريش " فايت ندو " ، يحتسون الشاى والقهوة واحيانا
يلتهمون الطعام ولا خمر كـ " فايت ندو ووكر " ، يسمعون الصراخ فيهرولون
نحوه .
حاج بشير يهيم
عشقا فى جمال سكينة وهل فى الناحية مثل سكينة ، سكينة حلوة كقرطاس حلاوة ، كانت
بنت البدر ، مكتملة حسنا ، وفائقة لطفا ، تمشى فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين ،
تصفق فيطرب النيل ، تضحك فيرقص النخيل ، كان وجهها ناعما كثمرة مانجو ، تتغنى
البلاد لجمالها ويأتيها الخطاب من كل صوب ويغار عليها بشير كأنه النار ، تفترق
الأقدار فيبكى عليها وينوح ، يجلس وحيدا يطرب نفسه ، ليس للمرء وليف كذاته ولا
مطرب كصوته ، ثم يستجيب القدر ، يمرض فيزعجه الضوء كأنما ألف شمس تقرع عينيه.
عز القوم ، فايت
ندو ، عبير ، سلسال كبعضه ، المولد واحد واللون واحد والمصير ، ألغى الرق ومازال
عالقا به ، لا يحل لهم ما يحل لغيرهم ، حتى اسم عبير صار عبيرا لأنه لا يجوز أن
يكون غير ذلك ، حتى مدرستها ارغمت على تركها لأنها لا ينبغى أن تكون كذلك ، حتى
مصيرها لقيته لأنه ينبغى أن يكون كذلك ، هكذا حال المتناسلون من اللامكان فى قرية
تتفاخر بالأنساب .
أحمد شقرب ، فر من
المدينة بأفكاره الى القرية ، ممرض يحاول أن يحيا حياة جديدة ، يرى عبير فتتبدل
ملامحه ويتسرب سحرها الى جسده ، نظرت إليه بعينين ميتتين ، هام بها حتى فر منها .
عبير كأنها ثمرة
جوافة ثقبتها الطير ، رائحته فواحة مغوية ، شعرها مبعثر مغبر كما يليق بطفلة
، ليست حسناء ، لكنها شهية كالعافية
للسقيم ، يشتهيها الصبية فيتحرشون بها ، يشتهيها الشباب فيجدون عندها متعتهم ،
يشتهيها الرجال فيقضون بها وترهم ، يشتهيها العجائز فتذكرهم بسابق عهدهم .
الصبية النحيلة ،
سوداء كسحر سفلى ، تلمع ساقاها الصبيتان كأنما القمر يطل على بحر النيل ، صدرها
ليمونتان لم تنضجا ، لا يكاد تستره ثياب الطفولة .
سكينة ، اذا مرت
بمكان مس المكان شذى كرائحة الجوافة تحت المطر ، عيناها غمامتان من الصدق تمطران
حنانا.
يخرجون الجسد من
النيل ، فتاة لا يعرفونها ، يرسلون الى القرى المجاورة ، ربما يتعرف أى منهم على
الفتاة ويتركونها تحت الحراسة عدة أيام ، المكان هادئ جدا ، صمت إلا من طير يثرثر
بعيدا ، نهيق حمار فى مكان ما ونسيم يهمس بين جريد النخيل ، خلوة ليس فيها إلا
الظل .
يأتى أهل القرى
ربما تعرفوا على المتوفاة ، أتوا كما الغيم قبل المطر يأتى ، صامتون على حميرهم ،
يبعثرون التراب الناعم كدخان قلق .
لا يعرفونها ،
يقضون الوقت يتسامرون ، ياخذون واجبهم عند فايت ندو ثم يغربون ، تتنهد الشمس شفقها
الأخير وتهم بالغوص فى الغياب .
فايت ندو ، فارعة
، جسدها مفتول العضلات ، شعرها خشن قصير ، ملامحها تحمل عذوبة فاتنة كأنما خلقت من
نبيذ صافى .
يترك كليته فى
سنته الأخيرة ويعود الى قريته بناء على تلغراف من عائلته أحضر فورا قبل أن تضيع
منا العمودية ، أدرك إرثك ، يعلم أن أباه قد توفى من هذه الرسالة ، يسرع عائدا ثم
يدرك العمودية قبل أن تنتقل الى أل البدرى ، تضطرب الأحوال وتكثر الصراعات والهرج
والقتل فى مكان ولا يعنى ذلك للقرية شئ ، من يحكم يحكم ، ما يهمنا سوى الجازولين ،
اما باقى الأشياء لا تعنينا ، يحدث حاج بشير ، الأمر مختلف هذه المرة ، لا شئ يكفى
شر العسكر يا بشير ، لا شئ يكفى شر العسكر ، لكنه مبلغ حيلتنا ، يرسل التأييد
المطلوب ويؤدى واجبه ليحفظ مكانه ومكانته .
الرشيد يتخطى
الثلاثين ومازال عازفا عن الزواج ، جرب فقط سبع نساء لكنه لم يتزوج قط ويأبى ،
تفتنه عبير ، نحيفة صموت كمعزة بكماء ، لكنها مثيرة ، معطاءة كقبيلة من البغايا لا
ترفض أحدا .
خرجت حافية فى
قرية كلها تعرفها ، مشت توزع الابتسامات للناس والحيطان والرمال والحمير والشمس
والنخيل واشجار المانجو وجنائن البرتقال .
تمشى تتهادى يرتج
جسدها كأنما تمشى على الماء ، شعرها ثائر كغابة من الشوك ، تفوح إثارة كحرارة جمر فى ليل شتوى .
يجذبها من يدها
فتطيعه ، لا تسمع لها الا الصمت ، يختلى بها فى غرفته ، ينزع عنها ثيابها ، سحره
يغشاها ، كان يعلم أنها خرجت لتوها من تحت غيره ، عيناه الواسعتان كنهر مضطرب ،
عيناها الميتتان كمنزل مهجور .
يلقيها ، تدفعه
عنها ، لن تطئنى إلا بعد أن تعدنى ....
صوت أنفاسه فى
الظلام كريح عاصف ، تفوح منه الرغبة يوشك أن يخترق فيضئ المكان .
لا يرى الصبية لكن
وجودها وحده يغمره بالشبق كفيضان ، احتضنها ، قبلها فى نزق ، يثما انزلقت شفتاه
لثم ، عبث بجسدها وعبثت بهياجه .
ضحكت ضحكة رائقة
كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر ، ثم علت بطنها وأعلنت الراضية مصيرها .
بالنيل تبدأ
الحكاية وعند النيل ختامها وفى طريق النيل دماء تراق وأجساد تنتهك ووجوه توشم
ومصائر تسطر وأمم تنتصر وجيوش تنكسر ، حكايا عن القهر ، يتسامرون بها لنثر الونس
وكل حكاية تتفرع الى جبال من الحكايا التى لا تنضب .