الخميس، 4 نوفمبر 2021

صد رد

 

الوقت عصرا لكن الشمس مازالت محتفظة بقوتها ، تصدم الوجوه وتحط على الرؤوس ، الموقف مكتظ بالمسافرين لكنه خلا من السيارات ، الناس تروح وتجيئ ، تجرى على كل عربة تقترب ، يغلق السائقون أبواب السيارات ويشيرون بأيديهم أنهم لن يحملوا ، أو أن وجهتهم مختلفة ، يمر رجل بجانبى يتحدث فى الهاتف مع أحدهم يبدو أنه امرأة ، يخبرها أنه سيتأخر وأن الموقف شديد الزحام وأنه اشترى لها "فايش "، تترجل من التاكسى مع أطفالها ، منه لله أبوكم ، لو كان جه خدنا مكناش ارتمينا فى الزحمة دى ، يزجرها طفلها فتقول هو السبب وتخرج هاتفها تحدثه تصف له الموقف وتدعو أن يسامحه الله ، مجموعة من الفتيات جرين نحو سيارة وزلفن جميعا إلى داخلها ، مجموعة أخرى يجبن الموقف يشغلن وقت الانتظار بأحاديث البنات التى تتجدد باستمرار كأنها طاقة لا تنضب .

يمر الوقت ويتزايد الزحام ، أفكر أن استقل سيارة لمدينة اخرى ومن هناك أستقل سيارة غلى وجهتى ، بعض الوقت فى التفكير وعندما قررت كانت عدة سيارات قد رحلت والسيارة التى نويت الركوب فيها امتلأت بالركاب ، عدت للخلف أبحث عن سيارة أخرى ثم إلتفت فوجدت سائق السيارة الأولى يشير إلى ان اركب معنا ، مراهقان فى المقعد الأمامى بجوار السائق يقولان لى " حظك تركب معنا " أحمد الله وأصمت .

السيارة محاطة من كل جانب ، يطلب السائق من زملائه أن يفسحون له مكانا للخروج ، يقضى بعض الوقت فى محاولات الرجوع للخلف حتى يتمكن من الاعتدال وتصويب مسار السيارة ، يشق الناس ويمر بينهم حتى يغادر الموقف وفى الخارج الأمر أشد من الداخل فكأن المدينة فى نفير عام ، يقحم السائق رأس السيارة وسط السيارات ، يزاحمهم ويزاحمونه ، يندس بين السيارات ويتفادى الاصطدام ، يقطع الطريق الصحراوى ، نوبات متتابعة من التكدس ، ينحرف يسارا يتخطى بوابة الرسوم ثم ينعطف يمينا فى طريق أقل ازدحاما .

على يمينه تنام البيوت والغيطان ، وعلى يساره صحراء مترامية تقطعها بعض البنايات ، بيوت معدودات تسكن وسط جنة خضراء ، الفلاحون مغروسون فى الطين ، تجرى المياه تحت أقدامهم ، يعملون فى الأرض معاولهم ، رائحة سباخ الأرض نفاذة وحقول الكرنب منتشرة هنا وأكوام التبن فى حافة الأرض وعشش على رؤوس الحقول .

ينحدر يمينا ثم يسلك طريقا ضيقا تحيط البنايات جانبيه ، يجرى العديد من الاتصالات ، أصالة تتألم كعادتها فدعا لها مطربى المهرجانات كى يخففوا من وطأة ما تعانيه من خيانة ...

المبانى أصبحت أشد فخامة وأكثر ارتفاعا والحقول غابت تماما وضجيج السيارات علا ، شارع ضيق لا يسع سيارتين متقابلتين ، تنحى السائق جانبا حتى مرت السيارة الأخرى ، ترجلت أحداهن من السيارة ، انخلع الباب فنزل السائق لاعادته .

واصل السائق سيره ثم غادرنا بعض الركاب ، أخبرنى السائق أن أبقى معه سيذهب الى المدينة التى أريدها فبقيت معه برفقة أخرين ، انضم إلينا ركاب جدد ، الطريق هذه المرة أفضل من سابقه تحاذيه سكة القطار ، يترجل المراهقان عند رأس قرية ، حل محلهما فتاتان لم يفارق هاتفهما أذنهما إلا لأعينهما ، ذراع إحداهن يصطدم بذراع السائق يبتسم ويشعل سيجارة وعندما يغادرن تنسى إحداهن اوراقها فينادى عليهما السائق فتجيبه التى كانت بجواره والأخرى مشغولة بهاتفها فيعطيه الورق ويخبرها أن تسلم على صاحبتها التى شكرته بإبتسامة .

يحل محل الفتاتين صديق للسائق هاتفه فى الطريق وطلب منه أن ينتظره فى هذا المكان ، مسافة قصيرة انزل من السيارة وأشكر السائق ، أجرى اتصالا لأعرف كيف أصل ألى وجهتى ، أسلم على بعض من وجدته هناك ويعلو أذان المغرب فاستئذن للصلاة .

أعود أجلس بعض الوقت وأؤدى المطلوب منى ثم استئذن فى الانصراف ، أمشى حتى نهاية الشارع ثم انعطف يمينا واتخطى الطريق ، اسأل عن السيارات التى تقل إلى الموقف يخبرنى أحدهم أنه لابد من المشى لمسافة طويلة فى الخلف هناك ، أمشى وأسأل السيارات المارة ، اركب سيارة بالخطأ فانزل منها وأواصل السير ، سيارات مصطفة فى جانب مظلم من الطريق ألمح في احداهن بعض الرؤوس خباها الظلام ، اسأل السائق فيخبرنى وجهته ، انضم الى الرؤوس الغائبة فى الظلمة ، ننتظر قليلا حتى تشغل كل المقاعد ثم ينطلق السائق ، أنزل عند الموقف ومن هناك أستقل سيارة اخرى تعود بى الى حيث أسكن ، أجلس فى المعد قبل الأخير بجوار النافذة ، يشغل المقعد الأخير ثلاثة شباب يعملون فى مصنع فى مقدمة المدينة علمت ذلك عندما نزلوا ، يجلس أمامى ثلاث بنات يتقدمهم رجل وأسرته وبجوار السائق شاب استقل المقعدين ، حل بجانبى رجل خمسينى وبجانبه جلست فتاة ووضعت بينهما شنطة بلاستيكية تحمل فيها حاجتها .

يلقى الرجل بجانبى كلمات فأصمت فيلتفت إلى الوراء يحدث الشباب ويمزح معهم ويمد خيوطا للحديث مع الفتاة بجانبه ، يلقى الرجل والشباب كلمات وتعليقات على كلمات السائق وتصرفاته ، أركن رأسى على الزجاج وأرقب الطريق حتى يغلبنى النعاس ...

الجمعة، 22 أكتوبر 2021

يا فاتنى

 

القمر يطل ، يسقط مباشرة من أعلى ، ضوء خافت يتسرب ، سلم خشبى مستند إلى الجدار يرافق ظله ، ينكفئ شخص من اعلى يطل بعنقه إلى أسفل ، الليل خادع ، ليس شخصا بل هو طبق دش مثبت على حافة السطح ليس أكثر ..

ياااااا يا فاتنى

شوق أسرنى .... طال غيابك

ياااااا ليه تفارق

قلب عاشق ... دق بابك

عيناك ليل ، دافئة كليل ، باردة كليل ، آمنة كليل ، خائفة كليل ، مخيفة كليل ، ودودة كليل .

السير إليك كصعود الجبال ، شاق يقطع الأنفاس ، مرهق يُكل البدن ، شيق يطرب الفؤاد ، حارق كجمرة نار .

يغلق باب السيارة ، يصطحب زوجته واولاده ، يخطون ، يسمع صوت أقدامهم ، تصطك المفاتيح فى أيديهم ، يعلو صوتهم وتتداخل منهم الكلمات .

يا ناسى عمرى    ومالك أمرى

تعبت قلبى من عذابه

ومين بيقسى    وعادى بينسى

حبايبه لما عنه غابوا

يا ناسى شوقى وحنينى .... ياريتنى أنساك

رائحتك كرائحة المطر ، كرائحة النيل ، كرائحة الليل ، كرائحة الصمت ، كرائحة السكون .

شفتاك ثائرة ، فائرة ، شهية ، مغوية ، مكتنزة كأنها الدنيا ، حادة كأنها سيف ، رقيقة كأنها نسمة ، رقيقة كأنها طيف .

يشعل مصباح الحجرة ، يخرج الضوء من النافذة ، كبقعة بيضاء فى ثياب أسود ، أسفل منه بطابقين يشتعل مصباح أخر ، تحجب القضبان الحديدية على النافذة الضوء فيخرج متكسرا كأنه شق إلى أربع أجزاء مستطيلة .

ياااااا يا فاتنى

خدت منى .... قلبى هاته

ياااااا مين بإيده

يعنى ينسى ... ذكرياته

نباح الكلاب او هو تحديدا كلب واحد ، ينبح بصوت غليظ ، لعله جاع أو غلبه العطش أو مل الوحدة وينادى على من يؤانس ليله ، يصمت ، يتناول قسطا من الراحة ثم يعاود عمله فيغلبه النوم .

 هواك غلبنى    ليالى سايبنى

ما بين دموعى واشتياقى

وبتلاحقنى       ويا تلحقنى

يا تقضى على اللى منى باقى

يا ناسى شوقى وحنينى .... ياريتنى أنساك

يستند إلى سور الشرفة ، يتبع السيجارة السيجارة ، يعلو صوت سعاله ، تصرخ عليه رئته تستغيث مما يفعل بها ، يبصق فى الأرض ، يعاندها وويخضع لشهوته .

تسقط القطرات ، تصطدم بالإطار الحديدى للشرفة فتسقط على الأرض أو تتدحرج عليه ، الغيوم تتكوم وتتكاثر ، الرعد يدوى صوته ، الطيور تختبئ فى بيوتها ، الأرض تصير طينا بعد أن كانت ملساء ..

" الفن كارثة فى حد ذاته ، لأنه يطلعك على لمحات من عالم ساحر أخر لم تعشه ولكن عاشه الأخرون ، إنه أشبه برائحة طعام شهى من مطعم لا تملك ثمن ارتياده ... هذه الرائحة تخبرك أن هناك طعاما رائعا ينعم به بعض الناس لكنك لم تذقه ولن تذوقه أبدا ..." . د احمد خالد توفيق .

يا فاتنى " حماقى " ، كلمات " أمير طعيمة " .

الخميس، 7 أكتوبر 2021

الخط الثالث

 

تنزوى على نفسها ، تجلس فى ركن بعيد ، تستند على جدار العزلة ، تستعين بحيطان الصمت ، تقبض بيدها على الاطار الحديدى للمقعد ، ترقب المحطات ، تمر تتوالى أسماؤها ، يدس المترو رأسه فى أنفاق من العتمة ، يؤانسها ضجيج اصطكاكه بالقبضان ، تخرج هاتفها من حقيبتها ، ترتدى غطاء رأس وردى ، ترفع كم قميصها قليلا ، يبزغ بياض ذراعها ، ترتدى شوزا أبيضا فوق شراب قصير تبدو من ورائه قدمها ، يعلوه بنطال من الجينز الخفيف وقميص يليق به ، تبث عينها فى الهاتف ، تنقر بأصابعها شاشته بسرعة بالغة ، الفتيات يجدن ذلك ، تتحدث همسا ، يكاد صوت أنفاسها يعلو فوق حديثها ، نحيفة ، تلتقى عينانا .

يخلو بجانبها مكان ، يملؤه فتى يقارب سنها ، مصبوغ بالكثير من ملامحها ، يرتدى قميصا بلون حلة رأسها ، يفرج عن قدميه فتصصدم الركبتان ، تضم قدميها وتزويهما جانبا ، لا يبالى ، ينظر فى هاتفها ، يضايقها فعله ، أفكر ان أقول له انتبه لجلستك ثم أتروى قليلا ، يعود مجددا ينظر فى هاتفها ، يميل قرب وجهها ، تهمس إليه ثم تميل على كتفه برأسها ، أحظ الشبه بينهما ، يمسك بيدها ويترجلان .

ينزل ركاب ويصعد أخرون ، يجرى أحدهم ، يشغل المكان الشاغر ، تعلو وجهه ابتسامة المنتصر ، تأتى إحداهن فتقف أمامه فينهزم أمام نظرتها ويترك لها مكانه ، السيدات والفتيات يخبرنك أنهن يفضلن العربات المختلطة عن العربات المخصصة لهن خاصة فى أوقات الازدحام ، يعللن ذلك بأن السيدات لن يتخلين عن مقاعدهن لبعضهن أما الرجال والشباب فيفعلون ، يفعلون ذلك ربما بدافع الأخلاق أو دافع الشهامة أو دافع الحرج أو الظهور أو حتى بدافع التحرش ، فى النهاية يتركن له دوافعه تذهب معه حيث رحل ويفزن بالمقعد .

يخرج الناس من العربات يتدافعون ، أفواجا على رصيف المحطة ، يدفعون بتذاكرهم فى أفواه الماكينات فتبتلعها وتفتح لهم منافذ الخروج ، يتجهون ناحية السلم الكهربائى ليصعد بهم الى الأعلى ، قليل من يصعد الدرج على قدميه وأحب أن أكون من القليل دوما .

اتجاهات كثيرة ، الناس كل يحمل فوق رأسه همومه ، البعض يسأل عن اتجاهات الخروج والبعض يسأل عن الطريق لوجهته ، إحداهن تنادى فحص كامل فى ثلاث دقائق ، قديما كانت هنا فقط منافذ للصحف ثم لحق بها منافذ لكروت الشحن والأن أصبح سوقا واسعا ، ملابس وأحذية وحقائب واكسسوارات ، مستحضرات تجميل وعطور ، لافتات كثيرة تعلن عن الاتجاهات ، تشير إلى إحداهن إن اتجاه الخروج من الجهة الأخرى ، أعود للخلف وأتجاوز البوابة الأمنية ، يقابلنى أحدهم فيشير إليه مسئول الأمن أن هذا الباب للخروج والدخول من الناحية الأخرى ولا تنسى أن تضع حقيبتك على جهاز كشف الكذب  ، أصعد إلى أعلى يتلقفنى النهار ، خيمة كبيرة أقيمت كمعرض للمستلزمات المدرسية على اليسار ويمينا السيارات مصطفة يعلن اصحابها عن اتجاهات سيرهم .

أعبر الرصيف وأسير بمحاذاة المبانى الشاهقة متجها إلى وجهتى ، مازالت الكتب مختبئة فى فراشها لم يسمح لها الباعة بعد بالظهور ، وحدها محال الملابس كشفت أستارها وأزالت الحجب عن معروضاتها واطلقت الباعة فى الشوارع والطرقات يستقطبون الزبائن ، تميل إحداهن على وترش على ذراعى معطر .

الاثنين، 4 أكتوبر 2021

هموم الكتابة

 

يا عزيزى ما عليك إلا أن تمسك بالقلم وستجد الكلمات تتشكل أمامك ؟ ... نعم تتشكل ؟!

نعم وستنساب كأنها المطر ، عذبة رطبة طرية كحبات الندى ، اول مولدها ، بزوغ فجر أول أيام الأرض ، شروق شمس بدء الخلق ، تخرج كأنها وحى ...

يا صديقى إنى أتكبد العرق فى كتابة جملة واحدة ، أتعثر فى صياغة سطر واحد ، وأنت تقول ذلك ؟

نعم أقول ذلك وأقسم عليه

يا عزيزى ، القلم يعلم شهوته ويمتلك غريزته ، يتحكم فيها ، يرسلها حيث شاء ويضعها حيثما راق له ، لا يعبء بأحد ، لن يلومه أحد إن خرجت كدمية أو خرقة بالية ولا إن تشكلت كلؤلؤ وضاء ، لن يضره إن كتب شجرة ثم أتى عليها بمنشار ، ولا إن بنى بيتا ثم ترك فيه المعاول تهدم ولا إن سطر عمرا ثم أشعل فيه النيران ولا إن أقام قصرا ثم تركه للصعاليك ، كل ما يعنيه ويسعى له هو الكتابة ، الكتابة للكتابة لا لغير ذلك ، هى الغواية ، المعشوقة ، العابدة ، الزاهدة ، الغانية ، القوية ، الضعيفة ، الراضية ، المتسلطة ، هى الأميرة وليدة الغوغاء ، هى الذئب والحمل ، الماء والنار ، هى الصبر والعجلة ، لا يهم فى أى صورة كانت ، أو فى أى هيئة تشكلت ، هى فى كل أحوالها خالدة حتى تفنى الدنيا أو تضيع هباء ، ساحرة ، شبقة تنز من فرجها الشهوة ومن عينها الغواية .

ماذا أكتب ؟

أكتب وطنا ، اكتب حلما ، أكتب حبا ، أكتب صمتا ، اكتب وجعا ، أكتب قهرا ، أكتب ألما ، أكتب فرحا ، اكتب أملا ، أكتب أرضا ، أكتب غضبا ، أكتب سرقة ، أكتب كذبا ...

كلماتى شاقة عليك ! ... حسنا سأعيد الصياغة بشكل أيسر !.

صفحات الجرائد ...تعرفها طبعا ... ما بها ؟

لا أفهم قصدك ...

صفحات تُعدد الانجازات والاخبار واللقاءات والبطولات ، صفحات تنقل الحروب والصدامات ، صفحات لهو وسهرات ، أخبار خفيفة ، غرائب وطرائف ، صفحات تنقل المصائب والحوادث ، صفحات للوفيات ، صفحات تنشر التهانى والمباركات ، صفحات للفضائح والشائعات ، صفحات للرياضة ، صفحات علمية وأدبية ودينية وكلها تحاصرها الاعلانات ...

لو نظرت مليا لجريدة واحدة لوجدت ما بها كل ما قلته لك أنفا أما العبارة الأخيرة فهى كل الصحيفة .

رغم كل ذلك ... لا أجد ما أكتبه !

يا عزيزى أنت واهم ، أكتب عنك ، عن حكاياتك ، حلمك ومخاوفك ، أكتب سرك الذى لا تبوح به ، أكتب ما تخشاه ، لا تقلق لن يعرفه أحد ، الكُتاب يظنهم الناس كذبة مهرة لذا لا يصدقون شيئا مما يقولون ، لذا إن أردت ان تتخلص من أثقال أحمالك فاملأ بها فراغ الصفحات ، ألقها فى الكتابة دفعة واحدة او على دفعات فوق بعضها ، ضعفك تستطيع أن تمقته بين سطورك وأن تصور أنك البطل الذى لم يهزمه أحد وأنك تستطيع تحريك العالم بجرة قلم وأن ديانا كانت لا تشبعك فى سريرك وأن انجلينا جولى تئن تحتك وأنك مللت رسائل كيت وينسليت .

أكتب أنك حاولت تنبيه قطز قبل إن يغدر به بيبرس وأنك اول من اقتحم حصون عكا وأنك من أشرت على صلاح الدين بخطته وأنك الناجى الوحيد من مذبحة القلعة .

أكتب أنك صعدت جبال كليمنجارو وجلست وسط الثلوج تتوهج فى أرض بيضاء ، أكتب أنك نجوت من اكلى لحوم البشر بل وإنك أكلت لحومهم ، أكتب أنك صاحبت الأسد وركبت النمر ونمت تحرسك الذئاب ، أكتب أنك من أطفأت حريق القاهرة وأنك من أشعلت حرائق روما .

أكتب أنك من كتبت التاريخ وأن الجبرتى سرقه وأنك وحدك تعرف تاريخ موته وتتحدى أن يعرفه غيرك ، أكتب أنك حاولت إنقاذ مكتبة بغداد ولم تدرك حريق مكتبة الاسكندرية ، اكتب أن الاسكندر كان بنفذ خططك وأنك من وضعت قواعد الاسكندرية .

أكتب طرقا جديدة وسلالما تصعد بالناس إلى أحلامهم ، أكتب أدوية الأوجاع ووسائل السعادة ومبيدات الفقر وقاتلات المرض وموبقات السحر ، أكتب وردا وزهورا وافرش للناس بساتين الجنة .

الأحد، 3 أكتوبر 2021

الغرق : حكايات القهر والونس

 

الغرق : حكايات القهر والونس ----- الروائى السودانى الرائع : حمور زيادة – دار العين للنشر- عام 2018 م

حجر نارتى ، على حافة النيل ، تعرفه ويمر عليها كغيرها ، لا تثير انتباهه ولا تشغل شغفه ، يهبها الحياة كما يفعل مع غيرها ويرسل لها من عطاياه ، ولكن ليست كل العطايا تبهج .

يمشى عبدالرازق على قيفة النيل ، لا هم له ، يعقد كفيه خلفه ، مدكوك الجسم كأنه مصارع قديم ، لحظ الشلاء الحمراء تسير فى الجدول ، اقترب منها ثم صرخ .

أهل القرية يقضون أكثر أوقاتهم فى عريش " فايت ندو " ، يحتسون الشاى والقهوة واحيانا يلتهمون الطعام ولا خمر كـ " فايت ندو ووكر " ، يسمعون الصراخ فيهرولون نحوه .

حاج بشير يهيم عشقا فى جمال سكينة وهل فى الناحية مثل سكينة ، سكينة حلوة كقرطاس حلاوة ، كانت بنت البدر ، مكتملة حسنا ، وفائقة لطفا ، تمشى فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين ، تصفق فيطرب النيل ، تضحك فيرقص النخيل ، كان وجهها ناعما كثمرة مانجو ، تتغنى البلاد لجمالها ويأتيها الخطاب من كل صوب ويغار عليها بشير كأنه النار ، تفترق الأقدار فيبكى عليها وينوح ، يجلس وحيدا يطرب نفسه ، ليس للمرء وليف كذاته ولا مطرب كصوته ، ثم يستجيب القدر ، يمرض فيزعجه الضوء كأنما ألف شمس تقرع عينيه.

عز القوم ، فايت ندو ، عبير ، سلسال كبعضه ، المولد واحد واللون واحد والمصير ، ألغى الرق ومازال عالقا به ، لا يحل لهم ما يحل لغيرهم ، حتى اسم عبير صار عبيرا لأنه لا يجوز أن يكون غير ذلك ، حتى مدرستها ارغمت على تركها لأنها لا ينبغى أن تكون كذلك ، حتى مصيرها لقيته لأنه ينبغى أن يكون كذلك ، هكذا حال المتناسلون من اللامكان فى قرية تتفاخر بالأنساب .

أحمد شقرب ، فر من المدينة بأفكاره الى القرية ، ممرض يحاول أن يحيا حياة جديدة ، يرى عبير فتتبدل ملامحه ويتسرب سحرها الى جسده ، نظرت إليه بعينين ميتتين ، هام بها حتى فر منها .

عبير كأنها ثمرة جوافة ثقبتها الطير ، رائحته فواحة مغوية ، شعرها مبعثر مغبر كما يليق بطفلة ،  ليست حسناء ، لكنها شهية كالعافية للسقيم ، يشتهيها الصبية فيتحرشون بها ، يشتهيها الشباب فيجدون عندها متعتهم ، يشتهيها الرجال فيقضون بها وترهم ، يشتهيها العجائز فتذكرهم بسابق عهدهم .

الصبية النحيلة ، سوداء كسحر سفلى ، تلمع ساقاها الصبيتان كأنما القمر يطل على بحر النيل ، صدرها ليمونتان لم تنضجا ، لا يكاد تستره ثياب الطفولة .

سكينة ، اذا مرت بمكان مس المكان شذى كرائحة الجوافة تحت المطر ، عيناها غمامتان من الصدق تمطران حنانا.

يخرجون الجسد من النيل ، فتاة لا يعرفونها ، يرسلون الى القرى المجاورة ، ربما يتعرف أى منهم على الفتاة ويتركونها تحت الحراسة عدة أيام ، المكان هادئ جدا ، صمت إلا من طير يثرثر بعيدا ، نهيق حمار فى مكان ما ونسيم يهمس بين جريد النخيل ، خلوة ليس فيها إلا الظل .

يأتى أهل القرى ربما تعرفوا على المتوفاة ، أتوا كما الغيم قبل المطر يأتى ، صامتون على حميرهم ، يبعثرون التراب الناعم كدخان قلق .

لا يعرفونها ، يقضون الوقت يتسامرون ، ياخذون واجبهم عند فايت ندو ثم يغربون ، تتنهد الشمس شفقها الأخير وتهم بالغوص فى الغياب .

فايت ندو ، فارعة ، جسدها مفتول العضلات ، شعرها خشن قصير ، ملامحها تحمل عذوبة فاتنة كأنما خلقت من نبيذ صافى .

يترك كليته فى سنته الأخيرة ويعود الى قريته بناء على تلغراف من عائلته أحضر فورا قبل أن تضيع منا العمودية ، أدرك إرثك ، يعلم أن أباه قد توفى من هذه الرسالة ، يسرع عائدا ثم يدرك العمودية قبل أن تنتقل الى أل البدرى ، تضطرب الأحوال وتكثر الصراعات والهرج والقتل فى مكان ولا يعنى ذلك للقرية شئ ، من يحكم يحكم ، ما يهمنا سوى الجازولين ، اما باقى الأشياء لا تعنينا ، يحدث حاج بشير ، الأمر مختلف هذه المرة ، لا شئ يكفى شر العسكر يا بشير ، لا شئ يكفى شر العسكر ، لكنه مبلغ حيلتنا ، يرسل التأييد المطلوب ويؤدى واجبه ليحفظ مكانه ومكانته .

الرشيد يتخطى الثلاثين ومازال عازفا عن الزواج ، جرب فقط سبع نساء لكنه لم يتزوج قط ويأبى ، تفتنه عبير ، نحيفة صموت كمعزة بكماء ، لكنها مثيرة ، معطاءة كقبيلة من البغايا لا ترفض أحدا .

خرجت حافية فى قرية كلها تعرفها ، مشت توزع الابتسامات للناس والحيطان والرمال والحمير والشمس والنخيل واشجار المانجو وجنائن البرتقال .

تمشى تتهادى يرتج جسدها كأنما تمشى على الماء ، شعرها ثائر كغابة من الشوك ،  تفوح إثارة كحرارة جمر فى ليل شتوى .

يجذبها من يدها فتطيعه ، لا تسمع لها الا الصمت ، يختلى بها فى غرفته ، ينزع عنها ثيابها ، سحره يغشاها ، كان يعلم أنها خرجت لتوها من تحت غيره ، عيناه الواسعتان كنهر مضطرب ، عيناها الميتتان كمنزل مهجور .

يلقيها ، تدفعه عنها ، لن تطئنى إلا بعد أن تعدنى ....

صوت أنفاسه فى الظلام كريح عاصف ، تفوح منه الرغبة يوشك أن يخترق فيضئ المكان .

لا يرى الصبية لكن وجودها وحده يغمره بالشبق كفيضان ، احتضنها ، قبلها فى نزق ، يثما انزلقت شفتاه لثم ، عبث بجسدها وعبثت بهياجه .

ضحكت ضحكة رائقة كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر ، ثم علت بطنها وأعلنت الراضية مصيرها  .

بالنيل تبدأ الحكاية وعند النيل ختامها وفى طريق النيل دماء تراق وأجساد تنتهك ووجوه توشم ومصائر تسطر وأمم تنتصر وجيوش تنكسر ، حكايا عن القهر ، يتسامرون بها لنثر الونس وكل حكاية تتفرع الى جبال من الحكايا التى لا تنضب .



السبت، 2 أكتوبر 2021

طرح الصبح

 

الديك يصدح وحده ، ينادى مرات ومرات ، زقزقة العصافير تتم لحنه ، وكلب يتلكئ أمام البيوت ، أشجار تنفض أثار النوم عنها ، ونهار يتسرب بلطف وليل جمع حاجاته وسكن ، الأغصان تفتح أعينها ، تتثاءب ، تبتسم كأنها ملائكة .

هدهد يسير بتؤدة ثم يقف مليا ينقر أمامه ، حمامة تضرب بجناحيها ، تجرى عمليات إحماء سريعة ، عربة يصدر منها ضجيج مُسجل ، الضوء نشر بسخاء ، أضواء المصابيح ضاع أثرها وأصبحت كالعدم ، السيارات تكتسى برداء شفاف من الندى ودثار من الضباب ، الشمس تتفجر أنوارها والبرد يتدفئ به .

أسير ، يغمر النعاس عينى ، على يسارى الترعة ويمينا تستقر الحقول فى اطمئنان ، فئران تجرى على الجسور يطاردها ثعبان جائع ، ضفادع تتقافز فزعة ، تغمس الأشجار أغصانها فى الماء تبلل أوراقها ، البقرة امامى وصغيرها فى الخلف ، أمسك بحبلهما ، أمر على حوض ماء فأسقيهما ثم نواصل ، الأشجار سامقة على حافة الترع ، صفصاف ، كافور ، شجرة جميز وحيدة ، تكتلات من البامبو والبوص ، ورد النيل يعلو سطح المياه تتبعه أسراب الريم .

بستان محاط بسياج من سلك مجدول تخرج منه سنون تقطع ، تطل الورود منه رغما عن حراسها ، فل وياسمين وورد بلدى ، فى شم النسيم يزوره الكثير وكلابه تتصدى لهم .

رائحة الزرع رطبة ، طرية كشفتيك ، لها اشتهاء قبلتك ولمعة عينك وشغف امتلاكك ، طعمها كرحيق عشقك ، دفئها كجمر غريزتك ، شهية حيثما انزلقت لثمتها .

الزرائب تقف على رؤوس الحقول ، سواقى الماء وأشجار النخيل ، عروق خشبية تصل ما بين الجسرين تكاد تلامسها المياه ومن نعس قليلا غشيته فأفاق ...

فى جانب متفرع يمينا " مزقة صغيرة " ، تمر فى هذا الجانب حتى تنتهى فى المصرف المار على البلدة التى تلينا ، تسقى الحقول الرابضة على جانبيها ، يحيطها ما يحيط غيرها من الترع والمصارف ، ناحية من الطريق مهدها سير الجرارات الزراعية عليها والناحية الأخرى لا تصلح سوى لسير المزارعين وحميرهم ومواشيهم ...

أواصل السير ، أتخطى الكوبرى الواصل بين الترعة على يسارى ومصرف أخر قدم من ناحية اليمين ويمتد إلى البلاد التى تمتد مع غروب الشمس ، أنعطف يسارا ثم يمينا فأصبحت الترعة عن يمينى الأن والحقول عن يسارى ، فى الأفق بيوت متناثرة لعزبة صغيرة يتقدمها مسجد يكاد يكفى سكانها محدودى العدد ، يعمل قاطنوها فى الحقول وجناين البرتقال والعنب والملاصقة لهم ومن بعدهم تأتى عزب أخرى وكفور ، بيوت من الطوب النيئ ، لا يزيد ارتفاعها عن طابقين ، كلها لها تلك الأبواب الخشبية ذات المزلاجات الضخمة والشبابيك المغروس بين حديها قضبان الحديد ، قليل من جدرانها طلى بدهان ..

معدية صغيرة أتخطاها ، على الجانب تسكن الساقية وبجوارها مربط البهائم ، أربط البقرة وابنها ، من الجانب أرفع غطاء القش ، وأحمل البرسيم أفرده امام رأسيهما ، أغطى المتبقى مجددا ، أحضر الفأس والمقطف من مضجعهما ، أحفر المربط ، انزع منه الروث ، أكومه فى جانب ، نستخدمه فيما بعد سماد للغيطان ، من على حافة الترعة أقطع الكتل الترابية الصلبة ، أفتتها جيدا ، أملأ بها المقطف ، أفرشها تحت أقدام البهائم ، أكرر الأمر حتى يُفرش المربط كاملا ، "الردم" من طمى الترعة ، تستخرجه الكراكات من باطن الترع وتضعه على الجسور عندما تأتى لعمليات التنظيف الدورية ، نتركه حتى يجف ويقسو ويصير صلدا ثم نستخدمه مجددا ، وعندما يختلط بروث البهائم وبولها ننظف المرابط والزرائب ونضع نتاجها جانبا حتى يتحول الى سماد ، نعيده الى الأرض مجددا وهكذا تتكرر دورته وحياته ، بعض الردم ينتج من تجريف الأرض لاعدادها لزراعة الأرز واكثر هذا يستخدم لردم وتغطية قواعد المبانى الحديثة .

أنزل إلى الحقل ، أدور على الحد حولها ، أجمع بعض " قرون " الفول ، فى ظل شجرة على حافة الترعة أجلس ، أتسلى بما جمعته ثم أقرأ فى لوحى ...

تأكل البهائم حتى تمتلئ بطونها ، تتشبع من الشمس ، تلتفت الى صغيرها ، تطمئن عليه ثم يغرقان فى نوم عميق ...

السبت، 25 سبتمبر 2021

صفحات من زمن فات

 

الليل تسرب ببطئ ، النهار ينسلخ منه ، تستريح العتمة ويتسرب الضوء بخطى ناعسة ، الطيور تُسبح ، تنادى على بعضها أن قوموا للصلاة ، يتصايحون ، يصدحون بالذكر ، نسيم الفجر يتدفق يشرح الصدور ، العصافير تنفض أجنحتها ، الصغار تنقرهم امهاتهم برؤوسها ، تداعب صدورهم وظهورهم ، تمسح على رؤوسهم وتمسد أجسادهم ، الأشجار لازالت فى سبات عميق ، السماء فضية ، السحب تخرج فرادى وجماعات ، تسير على مهل ، لازال النوم مسيطر على رؤوسها ، السيارات بدأت تقطع الأرصفة ، يخرج الكادحون الى أعمالهم ، يسعى الكل لقوت يومه ، البكور مبارك ، يتدفق فيه الرزق رطبا طريا ، سهلا لينا ، مشقته منسية ، الجسد ينشط بسرعة بعد أن تنسحب منه أثار الليل ، القوة تدب فيه ، يزداد النور شيئا فشيئا ، السكون يتبدل والهمس تنبت اصواته والصمت يتردد صداه ..

أفتح صفحات كتبى المطوية فاقرأ " دخل الجيش الانجليزى الى عاصمتنا فكان لدخوله شئ مبهج وقد سُر الأهلون بتخلصهم من أسر الأحمق العاصى وطغمته ، فنادوا بالدعاء بتأييد سمو الخديو المعظم وحفظ أنجاله " ...

أى جريدة هذه التى يتصدرها هذا المقال " الأهرام " ... أكاد لا أصدق .... لابد اذن
أن الحديث عن أناس أفسدوا الوطن وأضاعوا مقدراته وفرطوا فى عرضه وممتلكاته وخانوا أمانته ، أقلب الصفحات بحثا عن الأحمق والعاصى وطغمته هؤلاء الذين فسدوا فأفسدوا .

أجد مبتغاى فى عدد أخر لذات الجريدة فى خبر عنوانه " البشرى العظمى " جاء فيه :-

" ورد تلغراف رسمى من الباسل الجنرال وولسلى أن السوارى الانجليزية احتلت العاصمة مساء أمس وأن الجيش قبض على العاصى عرابى " ...

لا أصدق عينى ، يبدو أن النوم مازال مسيطر على ، أهرع الى الداخل ، أغسل وجهى وأغرق رأسى بالماء وأعود اواصل البحث لعلى أجد الصحيح ، أعيد قراءة المنشور ، هو ذاته ، لم أكن ناعسا ولم أكن أحلم ، أنزل الى أسفل الصفحة مقال عنوانه " التهنئة " .... تهنئة بالاحتلال لأرضنا تختم بجملة " بُشراك يا مصر بُشراك فقد نلت المنى " ... عن أى بُشرى يتحدثون ..

أطالع كلمات الامام محمد عبده الخاده بعدما سجن بتهمة الانضمام الى العصاة " هل أستحق العقاب على حبى لبلادى والناس لها كارهون ؟ ، كلا والله لن يكون ذلك ، ولئن عشت لأصنعن المعروف ولأغيثن الملهوف ولأخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم ولأتجاوزن عن السيئات " ..

ثم تتوالى الأخبار وتصدر الأحكام بالاعدام على " أحمد عرابى و محمود سامى البارودى وخمسة أخرين من قادة الجيش الذين تعاونوا مع عرابى ثم تخفف الأحكام الى النفى المؤبد خارج البلاد ، ويقبض الخونة الثمن ...

لازال خطيب العصاة هاربا رغم أن ذات الجريدة زفت خبر القبض عليه بكلمات تتفجر نارا فى مقال عنوانه " نديم اللعين " جاء فيه : قبض فى العاصمة على نديم اللعين فاحتجب " الطائف " واختفى " الطائف صحيفة كان يصدرها عبدالله النديم وتدافع عن عرابى والجيش " ، وسجل الأكاذيب انطوى ، ونديم اللعين نادى والى النار قد هوى ، بغى واستكبر ، وأشار ودبر بالفساد والشر ، واستخدمه الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس ... لئيم خسيس النسب ، وغد دنئ الحسب ، خرب البلاد ونهب ، تبت يداه وتب ، سيصلى نارا ذات لهب " ، ثم كذبت الصحيفة نفسها الخبر فى اليوم التالى وأكدت أنه لا مفر له أين كان فهو على أى الأحوال فى زمرة المقبوض عليهم .

واختفى عبدالله النديم عن الأنظار فكثرت الشائعات فقالوا هرب الى السودان ، ايطاليا ، بيروت ، ذهب الى عرابى فى منفاه ، بل قالوا قد مات ، والرجل لم يخرج أساسا من مصر وظل فيه يتخفى ويتنكر ويبدل هيئته ، يصحبه خادمه ، حتى أُعلن عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يدل عليه ، أواه واحدا من أحبابه ولما قضى نحبه أواه ابنه من بعده إلى أن وشى به بعض أقاربه ففر من هناك قبل الوصول الجند وفى طريقه تعرف عليه مأمور المركز وظن أن أمره انتهى لكن الرجل رغم أنه كان شركسى الأصل إلا أنه كان عربى الكرم ، فتركه لحاله ووهبه حياته وتخلى عن المكافأة رغم احتياجه اليها وتخلى عن الرتب والمناصب التى كان سيحصلها بالقبض عليه ، بل وأعطاه ثلاثة جنيهات كانت كل ما يملك قائلا له خذها واستعن بها على أمرك ونصحه ألا يسلك هذا الطريق فيقبض عليه غيره ....

الشمس طلت من خلف البنايات ، وأخذت تصعد الى السماء ، وبدأت عملها ، ترسل أشعتها لتكسو النسيم بالدفء ، استيقظت البيوت من نومها وأخذت الشرفات تُشرع أبوابها والنوافذ تفتح والستائر تزحزح تاركة لشعاع الشمس كامل الحرية كى يخطو الى الداخل .

الذٌباب يصحو مبكرا أيضا ، هجماته المتتالية جعلتنى أغلق الكتاب وأطوى الصفحات وأضع القلم واحمل اوراقى وأرحل ....

الخميس، 23 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا "39 "

 

أضواء السيارات فى الناحية الأخرى من الطريق تؤذى عينى ، لا أعلم لما لا يرفعون الحاجز بين الطريقين لمسافة تكفى ابعاد تلك الأضواء حتى لا يتضرر قائدى السيارات ليلا ، الظلام أقام جدرانا سوداء مصمتة ، مناطق العمل فى الطريق تفاجئك والاشارات التى تدل عليها ملقاة على جانبى الطريق ، ربما اصطدم بها أحدهم كان يعانى ما أعانيه وربما أسقطها الهواء ، أبدل القيادة مع صديقى ، قال أنه يعرف هذه المنطقة جيدا وسافر عليها كثيرا ، دقائق نقاتل خلالها العتمة والشاحنات التى كأنها تتصارع فى سوقها ، بوابة جديدة للرسوم ، نسير قليلا ثم ننعطف الى الطريق المتجه الى مدينتنا ، الطريق متسع والأضواء تصيره نهارا ، "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأراضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين، ورب البحار وما أخفين ، اللهم إنا نسألك خير هذه المدينة وخير أهلها وخير من فيها ، ونعوذ بك من شر هذه المدينة وشر أهلها وشر من فيها ، اللهم حببنا فى أهلها وحبب أهلها فينا ... امين ".

نمر على متجر شهير ، السيارات فوق بعضها امامه وكأن المدينة كلها تجمعت هنا ، نتخطاه مواصلين السير ثم ننعطف يسارا ونعرج الى أسف المدينة فنحضر أسرة صديقى ، أعود الى طارة القيادة مجددا وأصطحبهم الى بيتهم ثم أدور بالسيارة عائدا للخلف ، أتخطى بعض الطرق والمناطق الداخلية ثم أزلف الى مسكنى ، أنتظر فى السيارة دقائق حتى يهدأ ارهاقها قليلا و حتى ألتقط أنفاسى ، أغلقها ثم أحمل حقيبتى وأصعد شقتى .

لمكانك اشتهاء مختلف حتى لو كنت تعيش فى أجمل أماكن الدنيا ، يبقى للمكان الذى أعتدت العيش فيه مذاق مختلف ، رائحته تشبهك ، لونه يشبهك ، هى السماء التى اعتدتها والليل الذى تحبه والقمر الذى تصحبه والنجوم التى تصطف فوق رأسك تطل عليك فى شرفتك ، الأشجار التى تألف وجودك ، الجدران التى تشعر غيابك ، والأرض التى تعشق خطاك ، حتى المكان الذى تبيت فيه السيارة كان على حاله حزينا مهموما يعانى وحدته حتى عادت إليه فتلقفها بعناق .

البدن مثقل بالأوجاع ، مرهق من فرط المشقة ، وكل ضلع منه يسير وحيدا ، أنزع ثيابى وأفتح الماء فوق رأسى فينزل على جسدى وكأنه يصطدم بطاسة قلى السمك ، أمكث تحت الماء حتى نسيت أن الماء لازال يتدفق من أعلى ، أصلى وأتناول بعض اللقيمات مع أسرتى وتكاد عينى تسقط منى .

أستيقظ باكرا أمارس طقوسى وقبل الجميع أفتح ابواب مكتبى وأصف أوراقى وحاسوبى والمستندات التى أحضرتها معى ، أتصفح بعض الأشياء وأنظر فى بعض الملفات حتى بدأ أصدقائى فى القدوم .

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا " 38 "

 

مسافة قصيرة ثم دوران وانعطاف أخر ومواصلة للسير ، مبانى الجونة على اليمين تقف على ناصية البحر الأحمر وتقتطع أجزاء منه ، يحف الطريق إليها لافتات اعلانية ضخمة ، نواصل السير حتى نصل الى كمين للشرطة تلته بوابة المغادرة وطريق بينه وبين البحر يمينا بقعة رملية وصخرية ويسارا الصحراء بتلالها ووهادها ، عدة نقاط للشرطة والاسعاف وأماكن خدمات الطريق الخاصة والعامة ورادارت لمراقبة السرعة .

زرقة البحر تسحبك معها الى حيث تغرق السماء مع المياه فى عناق أبدى ، أعنقة جبال تطل من فوق المياه كأنها سفن تسبح ، بوارج تسير محملة تعلوها رايات مختلفة ، عشب وحشائش شوكية ، حطام سيارات ، اطارات مستهلكة ، زجاجات مياه فارغة ، معلبات مهملة ، قطع خشبية ورماد نار ،  أوراق وفضلات من ملقيات المسافرين وسائقى الشاحنات .

الشمس فى الشتاء تطل خجلة ، تفتح عيناها فجأة فى كبد السماء ثم تغمضها بسرعة ، تأتى السحب عليها وتتكدس أمامها فتحجبها تماما ، الهواء القادم من نوافذ السيارة يغيب صوت المسجل فلا أسمع شيئا مما يقال ، أرفع الزجاج قليلا ثم أعاود فتحه مجددا فلست من محبى القيادة ونوافذ السيارة مغلقة ، أمر بجانب السيارات وتتخطانى غيرها ، كمين للمرور يشير الى البعض أن يتوقف وعندما أتى دورى نظر الى لوحة السيارة ثم أشار لى أن واصل سيرك  ، مرتفعات جبلية يتقدمها سهول ووديان ومدقات تقطعها السيارات للانتقال من هنا الى هنا دون الانتظار الى الدورانات الرسمية ، الصخور تتناثر ، الكثبان الرملية ، فضلات حيوانات ، وعظام متآكلة .

الجبال ترفع رؤوسها حتى تكاد تلامس السماء والسماء تقترب حتى تُقبل المياه والطريق يتلوى كثعبان هارب ، السماء تصفو فكأن السحب ولت و الهواء يرسل قبلات باردة ، أرى بوابة عالية أنعطف قبلها يسارا ثم أسلك الطريق يمينا صاعدا الى بداية طريق جديد ، محطة للوقود أقف عندها ، أنتظر السيارة التى أمامى حتى تنتهى ، تقودها فتاة ترتدى عوينات بإطارات كبيرة ، شعرها قصير متعرج ، تنتهى من الوقود فتتحرك الى الأمام ثم تركن السيارة وتترجل منها وتزلف الى داخل المحطة ، أزود السيارة بالوقود ، أترجل منها كى أريح قدمى قليلا ، أتناول شيئا من العصائر ثم أواصل السير ، بوابة جديدة للرسوم أدور حولها حتى أجد الطريق الذى أمر منه فكل الممرات كانت مغلقة باستثناء واحدا على أقصى اليسار ، أتخطى البوابة وانعطف يمينا فى الطريق الذى شق بين الجبال ، تلحقنى الفتاة ثم تتخطانى مسرعة ، البحر بالأسفل ، بعيدا هناك ، لا تحاول النظر حتى لا يصيبك الدوار ، استراحات للسيارات خالية من الخدمات هى فقط مساحة جانبيه متسعة تستطيع فيها الترجل من سيارتك قليلا والاطمئنان عليها وتبدل بنفسك أطارها ان كانت فى حاجة لذلك أو أن تنتظر حتى تبرد كليل ثم تزودها بالماء او الزيت وهكذا ...

النهار ينتهى والسماء اكتست بجمال أرجوانى بديع ، السيارات تزيد سرعتها والكل يتعجل تخطى هذه المسافة قبل أن يسقط علينا الليل لكن ارتفاع الطريق وعلوه يحد من سرعتك رغما عنك ثم يهوى بك أيضا رغما عنك ، فى وسط كل تلك الجبال والصخور والكثبان ترى لافتات عملاقة ومبانى رائعة ثم تعلن اللافتة عن مدينة من مدن الأثرياء التى نراها فى اعلانات القنوات يزفها إلينا المشاهير ، ومنطقة عمل تتسابق إليها الشاحنات العملاقة محملة وفارغة .

أواصل السير حتى تغرب الشمس وأنحرف إلى طريق أخر فييدركنى الليل عنده ، القيادة فى الليل ترهق نظرى وهذا الطريق خالى تمام من الانارة فى كل هذه المسافة ، أقود ببطئ وتبدأ  بعض المناطق الجديدة تولد من حولى .

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2021

يقف وحيدا فى باحة القصر

 

يجلس فى شرفته ، وحيدا كعادته ، يقلب وجهه فى السماء ، يرقب السحب ، ينتظر القمر ، يبحث عن نجم ، يطالع كتابا ، شغوف بالتأمل ، بالمطالعة ، بقراءة ما لا تنطقه الألسن ، يثق أن لكل شئ لغته الخاصة ، حتى الجماد ... الكل يتحدث بشكل ما ! .

السماء الليلة بيضاء باستثناء بقع صغيرة رمادية  ، السكون نثر على الكون بسخاء ، النسمات تلهو ، تتقافز ، تداعب الأغصان ، الليل لباس الأنفس ، راحة وطمأنينة ، هدوء وسكينة ، وستر لكل شئ  .

أنفاس الليل الباردة ورائحته العطرة ترطب الوجوه ، السلام يتسرب الى الداخل ، الصدر منشرح يمتص أكبر كمية من الأكسجين وكأنه صدر غواص ، يحتفظ بالهواء كى يبقى تحت الماء أطول وقت ممكن .

يقطع شروده محرك سيارة غبى ، يهدر بصوت متعجرف ، العجلات تخط فى الأرض وكأنها تحفر وراءها مجرى مائى ، تقابلها سيارة قادمة من الجهة الأخرى ، يعلو صوتها مرة واحدة ثم يتوقف تماما وكأنه أغشى عليه .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، هام عشقا بـ " زبيدة " ذات العينين الرائعتين والبشرة الخمرية والقوام المبسوط والقامة الطويلة والطلة البهية ابنة " منطقة رشيد " ، يطلب يدها من والدها فيوافق شرط أن يعلن إسلامه ، يسلم ويصير اسمه عبدالله ، يتزوجان وينجبان سليمان ، يقتل كليبر ويصير عبدالله " مينو " قائدا للحملة الفرنسية ، لا يستقر للفرنسيس البقاء فى ارض الطغيان والمتناقضات فيودعها مصطحبا زوجته وولده ويقول " وداعا لمصر ، وداعا للمسلمين ، خرجنا نحمل الذكريات القاسية من بلدكم الذى يحوى أجمل الأثار ولنا ذكريات مؤلمة فى الصحراء ولكن المجد لنا لأننا سببنا لكم القلق وسكبنا الدماء فوق ضفافكم " .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، تقدم عمره ، يستعين بولده ، يرسل إليه ليعود ليتولى زمام الأمور ، الأب غاضبا منه ولكن لا مفر ، الابن لا تعجبه أفعال والده ولكنها الفرصة والفرص لا تتأتى كثيرا ، يستعد لتولى زمام الأمر ولكن للقدر تدبير أخر ، يباغته المرض فيملؤ صدره فيقضى نحبه  ثم يلحق به والده بعده بفترة وجيزة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر فيما سيقوله الناس عنه ، وماذا سيخلده التاريخ له ، يسأل كل من يلقى ، حتى الخدم والحاشية والحلاق ، يجمع المخابيل والدراويش والمشعوذين وقارئى الكف ، جلسات تحضير الارواح تعد فى القصر ويؤمن بها ايمانا كاملا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، ثم يصدر أوامره لمسيو براناى أن يصك عملة تحمل اسمه ولا تحمل اسم الخليفة العثمانى فيسافر الرجل الى فرنسا ويقوم بصك العملة كما طلب وعندما يعود يكون الرجل قد رحل وحل محله أخر فيصدر تعليماته أن تضرب العملة مجددا ويعاد صكها بحيث تحمل اسمه هو واسم الخليفة العثمانى .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، الحماقات جعلت الديون تكثر وتتكاثر ، يقرر تقسيم الأزبكية وبيعها ليجنى بعض الأموال ، يعيد تشغيل الموظفين الذين أحيلوا الى المعاش بشرط أن يردوا الأراضى التى منحت لهم فيتسابقون الى فعل ذلك ، فيستولى على الجيد منها لنفسه والردئ يرد الى خزانة الدولة .

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يفكر كيف يمكنه تغيير نظام الحكم فى أسرة محمد على بحيث يكون لابنه من بعده ، تأتيه الفكرة ويرسل لجس الأمر عند الخليفة العثمانى وتأتيه البشارة بالموافقة المبدئية فيمنح حامل البشارة خمسة عشر ألف جنيه استرلينى وينعم عليه بترقية ...

وفى العام التالى يصدر الخليفة قرارا مغايرا ..

يقف وحيدا فى باحة القصر ، يتذكر ايام طفولته وأصدقاء صباه ، والداه واخوته ، أيام المعاناة والتعب ، فترات الخوف والهرب ، صحبه الذين كانوا حوله والآن لا يجد واحدا منهم بجواره ، كلهم رحلوا ، أقصد كل منهم رحل بطريقة ما ، منهم من لقى حتفه ، منهم من قبض عليه وألقى فى مكان غير معلوم ، منهم من نُفى خارج البلاد ، منهم من ذهب عقله ومنهم من صار درويشا ، يذكر جيدا ما فعله لكل منهم ، يود أن ينسى ذلك ، يأتى على الكأس الذى فى يده دفعة واحدة ثم ... يسقط وحيدا فى باحة القصر ...

يعلو صوت المحرك مجددا ثم تولى مخلفا وراءه مزيجا من الغبار والدخان الكريه وصفحات التاريخ التى لا تنتهى منها الحكايات ولا تخلو من الغدر والخيانات ....

الاثنين، 20 سبتمبر 2021

لم نعد صغارا " 37 "

 

ننتهى من طعامنا ، نغادر المكان ، نقف على الناصية ، نشير الى أول سائق ، نخطره بوجهتنا ، يقطع بنا الشوارع والطرق ، يحاول تخطى الأخرين ، حتى كدنا نصطدم بأحدهم ولكن الله سلم .

نصل الى وجهتنا ، نترجل من السيارة ، الوقات لازال باكرا ، نواصل السير فى الشوارع ، نطالع تفاصيل الأبنية ، عادات الأشخاص ، نتجه يمينا ، نسير فى الممشى مسافة طويلة حتى خلا المكان من الأشخاص ، ولكن الأبنية لا تنتهى ، نعود وننعطف يسارا سالكين طريقا أخر ، أبنية خاصة كبيرة المساحة تحيطها أسوار وحراس امن ، يضعون مقاعدا ويلتفون حول بعضهم وبالقرب منهم كلاب تلهث وأمامهم حواجز حديدية ، تسحب إحداهن جروها وتسير كأنها تتقافز ، الأضواء تحد من شدة الظلمة ، الشوارع متسعة ، نتخطى رصيف الى رصيف ، نحاول تبين وجهتنا ، أى مسلك قريب يوصلنا الى حيث نقطن ، مجددا نبحث فى خرائط جوجل ، سيارة تمر مسرعة ثم صوت المكابح يصرخ ومعها رائحة الاحتكاك بالطريق ، مستشفى تحت التجهيز ، بنايات ضخمة خالية من البشر ، نلمح ماركت نتبين اسمه نظنه ذلك القريب منا ثم اتضح انه فرع أخر له ، ننتهى الى تقاطع نتوقف عنده نلتفت يمينا ويسارا حتى بدت لنا وجهتنا ، انعطفنا يمينا وسلكنا الممشى الفاصل بين جانبى الطريق حتى وصلنا ، صعدنا الى مبيتنا الصغير ، بدلنا ثيابنا ، التلفاز كالعادة وشاى يجهز ، أخرج حاسوبى وأخرج الى الشرفة وأواصل مشاهدة " ما وراء الطبيعة " ، أصوات تأتى من الشقق المجاورة ، الكثير فى شرفاتهم يمارسون عاداتهم ، يغلبنى النعاس ، اغلق الحاسوب وأدخل الى الغرفة ، اطفئ الأضواء وأستلقى على السرير .

أصحو عند الفجر ، أصلى وأقرأ ، أحاول أن أنام فلا أتمكن ، أمارس بعض التمارين الرياضية ، أزيح الستائر ، أرقب حمام السباحة ، القطة كعادتها تحاول شرب الماء ، البعض يخرج مبكرا ساعيا الى وجهته ، السكون يعم ، والشمس لازالت نائمة خلف السحب ، المكان خالى من الأشجار ربما لهذا غاب صوت طيور الصباح ، يمر الوقت ، نجمع أشياءنا ونعد حقائبنا جيدا ، ونزيل بقايا الطعام من الثلاجة وننظف المكان جيدا ونعيده كما كان ، نغلق الشرفة ونطفئ الأنوار وننزع فيشة الثلاجة والميكروويف ونحمل كيس القمامة معنا ، نغلق باب الشقة جيدا ونلقى القمامة فى الصندوق على يسار المدخل ، نودع حارس الأمن ، نراجع السيارة جيدا ونزودها بحاجتها من المياه ونسرع الى وجهتنا نود الانتهاء باكرا اليوم حتى نعود الى مدينتنا مجددا ، على عجل بدأنا العمل ، وزعناه جيدا بيننا ، نقاط محددة ومستندات معينة طلبت صورة منها ، قائمة بالملاحظات والأشياء المطلوب تجهيزها وإرسالها لنا ، الظهر أذن والوقت يجرى ، شكرناهم على حسن الضيافة واستئذناهم فى المغادرة بعد ان سلمناهم مفتاح الشقة ، ركبنا السيارة ودرنا بها للخلف ثم انعطفنا يمينا مستقلين طريق العودة .

الأحد، 19 سبتمبر 2021

وقت مستقطع

 

أجرى من هنا لهناك ، أسابق الزمن ، أشياء تتكدس فوق رأسى ، أكوام من المسئوليات ، أعمال كثيرة مطالب بإنجازها فى وقت قصير ، إلتزامات كثيرة واجبة الوفاء قريبا ، الصداع يفتك برأسى ، أغادر الفراش ، أنُهى الشياء المعتادة التى تفعل كل صباح غير أنى لا أفطر ، أسرع إلى وجهتى ، سبقنى الكثير ، أصعد الى موظف الأمن ، يشير الى غرفة لها باب زجاجى ، موظف أخر يسجل الأسماء بخط ردئ ، لم أستطع قراءة اسمى عندما سجله وتوقعت أن ينادى على بإسم خاطئ ، عرفت منه فقط رقمى ، كراسى متفرقة صفت أمام المبنى فى هيئة غير منتظم ، أقيمت من فوقها مظلة ، تناثر عليها بعض الأشخاص ، أختار مفعدا فى المقدمة ، أقضى عليه وقت الانتظار ، أجرى العديد من المكالمات ، وقراءة سريعة ، تمر ساعة أو يجاوزها ، ينادى موظف أخر اسمى بشكل خاطئ كما توقعت ، يشير إلى أن احصل على رقم من موظف أخر، أنتظر مرة أخرى ، صالة كبيرة يبردها التكييف ، الموسيقى تعج ، معزوفات روتينية مكررة ، الناس مجرد أرقام ، صوت مذيعة رتيب ، ينادى أرقاما ويشير الى أرقام ، ولافتات ضوئية تعلن الأرقام ، اسمك وصفتك وكنيتك لا تعنى شيئا ، مجرد رقم ، يوزع على المكاتب ، انذارجرس يعلو باستمرار ، أصوات الناس تتداخل ، الكاميرات تلتقط صورا لكل شئ ، من بينها قطعا صورتى وأنا أكتب الآن ، مقعد فارغ يفصل بين كل شخص وأخر ، اجراءات احترازية ، يترك هذا المقعد خاليا حفاظا على المسافة الآمنة ، هكذا كتب فى الملصقات على تلك المقاعد يحفها لوجو الجهة ، كالعادة ليس دوما يلتزم الناس بتلك القواعد ، يسعدهم دوما تجاهل الاجراءات وتجاوز القوانين .

يحين دورى ، أتوجه الى حيث رقمى ، أحداهن سبقتنى وجلست على المقعد ، أنتظر بتعجب ، فيخبرها الموظف أن تنتظر بعض الوقت ، تغادر فأجلس فى دورى ، أعطيه الرقم ، أخبره بالمعاملة التى أريد اجرائها ، يطلب بعض المستندات ، أقدمه له وأوقع على بعض الأوراق ، ثم يطلب منى الانتظار مجددا لبعض الوقت " عشر دقائق او ربع ساعة " حتى ينتهى من التوقيعات اللازمة ثم ينادى على مجددا ليسلمنى إخطارا بتنفيذ المعاملة .. هكذا قال ولم يفعل بعد ..

المكان يعج بالناس ، كل مشغول فى شأنه ، نساء ورجال ، شباب وشيوخ ، النساء تسعد بصحبة أطفالها معها لتلك الأماكن ، أسبابها كثيرة أو هى هكذا دوما ، ولا يسعنا سردها هنا وإلا لنفدت الكتب وجفت الأقلام وانتهت الأوراق وصرخت الصحف دون أن نتنهى من سرد تلك الأسباب ، عندما ترغب المرأة فى فعل شئ تفعله ، سواء وافقت أو .... وافقت والأفضل أن تتركها تفعل لسلامتك وسلامة من حولك ، حفظ النفس واجب دينى كما تعلم ، محجبات ومسدلات شعرهن على أعناقهن ، لبس متسع وألبسة إلتصقت بالأجساد كأنها مادة طلاء ، هواتف كثيرة ترن مضطربة .

أضع حاجاتى على المقعد المجاور ، حافظة بلاستيكية تحوى أوراقى  ، هاتفى ، محفظة جلدية سوداء بها بطاقات التعريف الخاصة بى ، عملات نقدية ، رخص القيادة ، كمامة لوقت الحاجة ، أصص الأشجار تفصل بين المقاعد ومثلها تفعل الأعمدة ، ألوان الجدران هادئة ، ثبت على جوانب منها شاشات للعرض ، أتجول فى وسائل التواصل ، واتساب ، فيس بوك ، تليجرام ، انستغرام ...

أتابع رسائل العمل ، اقرأ بعض مما كُتب ، الكثير متداول ومكرر يجعلنى أمل ، أشياء كثيرة منزعة القيمة تتداول ، هكذا الناس أو أكثرهم تشغلهم توافه الأشياء ، الحماقات دوما سوقها رائج والطلب عليها متزايد ، فيديوها تيك توك ، اعلانات شقق ووحدات سكنية وشاليهات ومنتجعات ومقابر أيضا ، عروض مصايف واسترخاء ، عروض مساج وتدليك ، مدربات محترفات ، ملابس ومساحيق تجميل ، عطور ومحفزات ومقويات جنسية ...

الوقت فى الانتظار دوما يمر ثقيلا ، اوشكت الساعة الثانية أن تنتهى أيضا ، طفل صغير يلهو فى المساحات الفارغة ، تلفت انتباهه أصص الشجيرات ، يقترب منها وينزع بعض الأوراق ثم يعود للخلف ثم يكر عليها ثانية وثالثة حتى انتبهت له أمه ، مالك ... تعالى هنا ، أدركت أمه النبتة قبل أن تدرك حتفها ، ينادى على الموظف باسمى هذه المرة ، أتوجه نحوه ، توقيعات أخرى مجددا ، يعطينى نسختى ، اشكره وأغادر .