الأحد، 3 أكتوبر 2021

الغرق : حكايات القهر والونس

 

الغرق : حكايات القهر والونس ----- الروائى السودانى الرائع : حمور زيادة – دار العين للنشر- عام 2018 م

حجر نارتى ، على حافة النيل ، تعرفه ويمر عليها كغيرها ، لا تثير انتباهه ولا تشغل شغفه ، يهبها الحياة كما يفعل مع غيرها ويرسل لها من عطاياه ، ولكن ليست كل العطايا تبهج .

يمشى عبدالرازق على قيفة النيل ، لا هم له ، يعقد كفيه خلفه ، مدكوك الجسم كأنه مصارع قديم ، لحظ الشلاء الحمراء تسير فى الجدول ، اقترب منها ثم صرخ .

أهل القرية يقضون أكثر أوقاتهم فى عريش " فايت ندو " ، يحتسون الشاى والقهوة واحيانا يلتهمون الطعام ولا خمر كـ " فايت ندو ووكر " ، يسمعون الصراخ فيهرولون نحوه .

حاج بشير يهيم عشقا فى جمال سكينة وهل فى الناحية مثل سكينة ، سكينة حلوة كقرطاس حلاوة ، كانت بنت البدر ، مكتملة حسنا ، وفائقة لطفا ، تمشى فيزغرد الرمل تحت قدميها الطفلتين ، تصفق فيطرب النيل ، تضحك فيرقص النخيل ، كان وجهها ناعما كثمرة مانجو ، تتغنى البلاد لجمالها ويأتيها الخطاب من كل صوب ويغار عليها بشير كأنه النار ، تفترق الأقدار فيبكى عليها وينوح ، يجلس وحيدا يطرب نفسه ، ليس للمرء وليف كذاته ولا مطرب كصوته ، ثم يستجيب القدر ، يمرض فيزعجه الضوء كأنما ألف شمس تقرع عينيه.

عز القوم ، فايت ندو ، عبير ، سلسال كبعضه ، المولد واحد واللون واحد والمصير ، ألغى الرق ومازال عالقا به ، لا يحل لهم ما يحل لغيرهم ، حتى اسم عبير صار عبيرا لأنه لا يجوز أن يكون غير ذلك ، حتى مدرستها ارغمت على تركها لأنها لا ينبغى أن تكون كذلك ، حتى مصيرها لقيته لأنه ينبغى أن يكون كذلك ، هكذا حال المتناسلون من اللامكان فى قرية تتفاخر بالأنساب .

أحمد شقرب ، فر من المدينة بأفكاره الى القرية ، ممرض يحاول أن يحيا حياة جديدة ، يرى عبير فتتبدل ملامحه ويتسرب سحرها الى جسده ، نظرت إليه بعينين ميتتين ، هام بها حتى فر منها .

عبير كأنها ثمرة جوافة ثقبتها الطير ، رائحته فواحة مغوية ، شعرها مبعثر مغبر كما يليق بطفلة ،  ليست حسناء ، لكنها شهية كالعافية للسقيم ، يشتهيها الصبية فيتحرشون بها ، يشتهيها الشباب فيجدون عندها متعتهم ، يشتهيها الرجال فيقضون بها وترهم ، يشتهيها العجائز فتذكرهم بسابق عهدهم .

الصبية النحيلة ، سوداء كسحر سفلى ، تلمع ساقاها الصبيتان كأنما القمر يطل على بحر النيل ، صدرها ليمونتان لم تنضجا ، لا يكاد تستره ثياب الطفولة .

سكينة ، اذا مرت بمكان مس المكان شذى كرائحة الجوافة تحت المطر ، عيناها غمامتان من الصدق تمطران حنانا.

يخرجون الجسد من النيل ، فتاة لا يعرفونها ، يرسلون الى القرى المجاورة ، ربما يتعرف أى منهم على الفتاة ويتركونها تحت الحراسة عدة أيام ، المكان هادئ جدا ، صمت إلا من طير يثرثر بعيدا ، نهيق حمار فى مكان ما ونسيم يهمس بين جريد النخيل ، خلوة ليس فيها إلا الظل .

يأتى أهل القرى ربما تعرفوا على المتوفاة ، أتوا كما الغيم قبل المطر يأتى ، صامتون على حميرهم ، يبعثرون التراب الناعم كدخان قلق .

لا يعرفونها ، يقضون الوقت يتسامرون ، ياخذون واجبهم عند فايت ندو ثم يغربون ، تتنهد الشمس شفقها الأخير وتهم بالغوص فى الغياب .

فايت ندو ، فارعة ، جسدها مفتول العضلات ، شعرها خشن قصير ، ملامحها تحمل عذوبة فاتنة كأنما خلقت من نبيذ صافى .

يترك كليته فى سنته الأخيرة ويعود الى قريته بناء على تلغراف من عائلته أحضر فورا قبل أن تضيع منا العمودية ، أدرك إرثك ، يعلم أن أباه قد توفى من هذه الرسالة ، يسرع عائدا ثم يدرك العمودية قبل أن تنتقل الى أل البدرى ، تضطرب الأحوال وتكثر الصراعات والهرج والقتل فى مكان ولا يعنى ذلك للقرية شئ ، من يحكم يحكم ، ما يهمنا سوى الجازولين ، اما باقى الأشياء لا تعنينا ، يحدث حاج بشير ، الأمر مختلف هذه المرة ، لا شئ يكفى شر العسكر يا بشير ، لا شئ يكفى شر العسكر ، لكنه مبلغ حيلتنا ، يرسل التأييد المطلوب ويؤدى واجبه ليحفظ مكانه ومكانته .

الرشيد يتخطى الثلاثين ومازال عازفا عن الزواج ، جرب فقط سبع نساء لكنه لم يتزوج قط ويأبى ، تفتنه عبير ، نحيفة صموت كمعزة بكماء ، لكنها مثيرة ، معطاءة كقبيلة من البغايا لا ترفض أحدا .

خرجت حافية فى قرية كلها تعرفها ، مشت توزع الابتسامات للناس والحيطان والرمال والحمير والشمس والنخيل واشجار المانجو وجنائن البرتقال .

تمشى تتهادى يرتج جسدها كأنما تمشى على الماء ، شعرها ثائر كغابة من الشوك ،  تفوح إثارة كحرارة جمر فى ليل شتوى .

يجذبها من يدها فتطيعه ، لا تسمع لها الا الصمت ، يختلى بها فى غرفته ، ينزع عنها ثيابها ، سحره يغشاها ، كان يعلم أنها خرجت لتوها من تحت غيره ، عيناه الواسعتان كنهر مضطرب ، عيناها الميتتان كمنزل مهجور .

يلقيها ، تدفعه عنها ، لن تطئنى إلا بعد أن تعدنى ....

صوت أنفاسه فى الظلام كريح عاصف ، تفوح منه الرغبة يوشك أن يخترق فيضئ المكان .

لا يرى الصبية لكن وجودها وحده يغمره بالشبق كفيضان ، احتضنها ، قبلها فى نزق ، يثما انزلقت شفتاه لثم ، عبث بجسدها وعبثت بهياجه .

ضحكت ضحكة رائقة كوشوشة النسيم بين النخيل بعد العصر ، ثم علت بطنها وأعلنت الراضية مصيرها  .

بالنيل تبدأ الحكاية وعند النيل ختامها وفى طريق النيل دماء تراق وأجساد تنتهك ووجوه توشم ومصائر تسطر وأمم تنتصر وجيوش تنكسر ، حكايا عن القهر ، يتسامرون بها لنثر الونس وكل حكاية تتفرع الى جبال من الحكايا التى لا تنضب .



1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الغنى والفقر ...السيد والعبد فى كل مكان وجميع الأزمان وكل البلدان
جميلة وحزينة ومعبره عن الظلم والجهل فى أبهى صوره
لازلت السودان رغم أنها بلد الطيبين والخير الوفير إلا أنها انتهكت ولازالت