السبت، 17 يونيو 2017

لم نعد صغارا " 8 "

أعود إلى مكتبى ، ألقى التحية على البائعين بالمحال التجارية المجاورة لمكتبى ، أقف قليلا مع شاب حسن الخلق والخلقة يعمل نائبا لمدير احدى دور العرض القريبة منى ، أصعد الدرج ، مكتبى فى العمارة الثانية فى الطابق الملاصق للسماء ، صالة واسعة وغرفتى وحمام صغير ، أثاث بسيط ، مكتبة ومكتب وانتريه ، كل قطعة من هذا الأثاث اقتنيتها وحدها ، فى البدء كان كرسيا ومكتبا صغير ودولاب من ضلفتين لحفظ الملفات أعارنى إياهم صديق لى ، أعدتهم له بعد أن يسر الله لى الأمور ووسع فى الرزق ، فى البدء كان المكتب غرفة حيطانها خشبية فى مكتب أصدقاء لى فى منطقة سكنية ، لم يستمر وجودى معهم إلا ستة أشهر لظروف ألمت بهم فانتقلت الى حيث المكتب الحالى ، ستمائة جنيها كانت هى الأجرة الشهرية المطلوب منى دفعها ، سخان استانلس لاعداد المشروبات الساخنة وبعض الأكواب .
 أفتح الباب وأشرع النوافذ وأتجهز لصلاة الظهر ، المسجد زاوية صغيرة تجمع المصلين بالسوق التجارى ونادرا ما يمتلئ بالمصلين ، يؤذن ويؤم المصلين دوما الشاب حسن الخلق الذى اشرت إليه مسبقا وأحيانا أحل محله ، محل لبيع المصنوعات الجلدية يديره شيخ كبير السن ومقابله محل لتجارة الأجهزة الطبية وبجواره مقهى يعد  قبلة الكثيرين فى هذا السوق وخصوصا من رواد دار العرض ومحال أخرى لتجارة مستلزمات الكهرباء ومكتبة وسوبرماركت شهير أحتل واجهة السوق .
أنظف المكتب من الغبار الذى استقر فى كل أرجائه ، أعد كوبا من الشاى ، أنظر من النافذة لاطالع السائرين فى تلك المساحات المترامية من الرمال التى لا تنتهى ، سلوايا فى تلك الأوقات العمل والقراءة وعندما يقترب النهار من أخره أطل من النافذة لأستنشق بعض الهواء الخالى من الكدر وأقلب عينى فى السماء ... سبحانك ما خلقت هذا باطلا .
مازال عملائى قليلون ونادرا ما يزورنى أحد وإن أتى أحدهم يكون منهكا لمشقة الصعود إلى الطابق الأخير ، أذكر يوما هاتفنى أحد أصدقائى وأخبرنى أنه قادم لزيارتى وانت هذه مرته الأولى التى يقدم فيها لمكتبى وفى الوقت المتفق عليه حدثنى قال أنه يطرق الباب ولا أحد يجيب فأخبرته أن باب المكتب مفتوحا وربما يكون ذهب الى عنوان خاطئ ، ثم سألنى عن رقم العمارة فأخبرته وعلمت منه أنه دخل العمارة الأولى وصعد الى طابقها الأخير ووجب عليه النزول مجددا ثم الصعود لمكتبى ، أذكر أنه مازارنى بعدها إلا مرة واحدة ربما .

الأربعاء، 14 يونيو 2017

فضفضة

ألتقى بزميلة لى تعمل فى مكان بالقرب منى أخبرتنى أن مكتب بجوارهم تتوافر لديه فرص عمل وكنت فى حينها أبحث لأحد أصدقائى عن فرصة عمل مناسبة ، هاتفت صاحب المكتب وحددت موعدا للقائه فى المساء ، ذهبت إليه ومعى صديقى ، تحدثت مع الرجل " رحمه الله " وكان طيب القلب ، جميل الهيئة ، تألفه بمجرد رؤيته ، تناقشنا كثيرا وفى نهاية الليلة طلب منى مساعدته فى إنجاز بعض الأعمال واتفقنا على عمل لصديق طرف أحد أصدقاء الرجل ، كنت ألتقيه دوما مساء ومرات قليلة جمعتنا أوقات النهار .
تبدلت الأحوال واختلفت السير وهرولت الأيام كأنها تفر من نار تطاردها ولازلنا نعمل سويا حتى ازدادت الضغوط فى مقر عملى فاستأذنت الرجل على أن أساعده وقت احتياجه وكانت هذه الأوقات التى قضيناها سويا قد تركت أثرا فى مكانه وعمله فتوسعت الأمور وارتفعت حجم التعاملات وأصبح هناك من يعمل برفقته غيرى فخف العبء عليه ولو شيئا يسيرا .
الكثير من الذكريات جمعتنا سويا ، ساندوتشات ملك الكبدة ، أيس كريم العبد ، السير ليلا فى شوارع القاهرة ، لجان العمل والفحص ، أحاديثنا المسائية ، افطار رمضان ، مقابلات لاختيار الراغبين فى العمل وضحكات صافية انقطع وجودها برحيله .
تشغلنى الدنيا وتدور بى الدوائر ، يهاتفنى الرجل فأعلم أنه مريض ، أتصل عليه يوميا للاطمئنان ، زيارات متتالية إلى الأطباء وكل يوم تتغير الأمور ، الكثير من الأشعة والتحاليل ولا جديد .
يقدم الشهر الكريم وكعادته يستعد لأداء عمرة رمضان التى أصبحت أحب الأشياء إلى قلبه كل عام منذ سنوات عدة ، أهاتفه وأقول له عجل بالشفاء كى تدرك العمرة فيجيبنى يارب يتقبل منك .
مرت ثلاثة أيام وفى منتصف اليوم وبينما أتابع بعض الأعمال علمت بوفاة الرجل وأدمى قلبى أن الوفاة كانت من يومين ولم أعرف ولم يتسنى لى تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير ، بكاء هستيرى وساعات لم أستطع خلالها تمالك نفسى والله منه الصبر وإليه يرجع الأمر.
كان ينتظر أن يذهب لأداء العمرة فإذا المقدر له أن يذهب للقاء ربه .
لازالت تلك اللافتة موضوعة على مكتبه تصدح بإسمه وكأنه مازال حيا بيننا ...رحم الله أستاذى فمهما توالت السنوات ذكراه فى القلب باقية .
يا أبى قلبى ضعيف لا يقوى على تحمل ألم الفراق أو الغياب فكيف بألم الفقد الذى لا يتبعه رؤية أبدا .