الجمعة، 28 يناير 2022

جدد شغفك

 

تهجرك الكتابة فى أشد أوقات احتياجك لها ، تمسك بالقلم تحايله ، تحاول معه ، تلاطفه ، تبكى أمامه ، تشتكى له حالك ، تخبره مشاعرك كل شئ نيابة عنك ، الهموم قد اعتلت الصدر وثقلت عليه واصبح لا يقوى على حملها ، ترغب أن تفرغها على سطح ورقة ، أن تطمسها بالحبر حتى تتلاشى فى أمواج زرقته أو تغرق فى عمقه أو تتعثر بين شعبه ومرجانه ، ان تبحر مع تلك السفينة أوقات وأوقات ، تغرق أيامها فى لياليها وتتلاشى لياليها فى أيامها حتى تستقر بك على شط رحب ، جزيرة خالية سوى من اشجار وحيوانات أليفة ، ألقى بجسدى على الأرض ، يغلبنى النوم ، حتى تملأ الراحة أطرافى وتروى ضلوعى وتتخلل مسامى وتجرى رفقة الدم فى شرايينى .

رحلة أبتعد فيها عن كل شئ ، عن المطامع والأنانية ، عن الحقد والجشع والنفوس الخبيثة ، عن العيون الكاذبة والوعود الزائفة ، أنام حتى يغيب كل ما حدث ، أشتهى خلوة كخلوة أصحاب الكهف ، ثلاثمائة سنين وفوقهم تسعا ، ربما أطمع فى المزيد حتى يتغير الزمان ويتبدل ساكنوه ، حتى يكتسى الوقت فرحا وتضاء بالسعادة أيامه .

السماء صافية ، خالية من السحب ، المياه هادئة ، تقضى يومها تداعب حبات الرمل وتتحرش بجذوع الأشجار ، الشمس تنزع ثيابها وتقفز فى الماء حتى تغيب ثم تطل برأسها فينسدل شعرها على كتفها ثم تقفز ، تتراقص فى حركات دائرية ، تتجه نحو مجراها ، أغصان الأشجار تحتضن عشش الطيور ، تلمع الأوراق ، تحجب رسائل الشمس من أن تقع على الأرض .

تندفع نسمات الهواء ، تحمل رذاذ الماء تغسل به أوراق الشجر ، تتقافز الدلافين على سطح الماء ، تلهو وتلعب ، تلقى التحية ، تغازلنى بعينها ، يقطر من عينيها العسل ، خجولة كأنها القمر .

المياه نقية تماما ، تظهر ما تحتها حتى القاع ، تجلس بالقرب تشاهد مخلوقات لم ترى مثلها قط ، أسماك كبيرة وأسماك صغيرة تتوارى خلف الشعب ، كائنات لا تعرف اسمها ، نباتات وطحالب ، أزهار وعروق أخشاب ، جذور ممتدة مغطاة باللون الأخضر الغامق .

تجلس تتأمل تلك الطبيعة النقية التى إن لم تدنسها تدخلات البشر لصارت جنانا تبهج الناظرين ، زرقة السماء وزرقة المياه وخضرة الأغصان وبهاء الزهور ، تغريد الطيور وضجيج الحيوانات وخرير المياه  ورائحة الياسمين .

العالم مرهق بفطرته ، تحتاج بين وقت وأخر إلى خلوة بعيدا عن كل شئ ، أعمالك ومسئولياتك واهتماماتك ، خلوة من المحيطين بك قريبين كانوا أو ضد ذلك ، الحياة لن تتوقف إن ابتعدت عنها قليلا لكنك ستعود كأنك ولدت من جديد ، بروح طفل وقلب طاهر نقى شغوف ، خلوتك لتجديد شغفك فإن تكرار الأشياء يفقدها لذتها ويضعف همتك فى إنجازها .

يا عزيزى اخلو بنفسك جدد شغفك .

أن يهجرك قلمك حتى تبحث عما يبحث فيه الروح مجددا ، تبحث عن شئ يستفزه حتى يخرجه من صمته ، يتلوى ويتراقص أمامه ويكأنه أفعى أو أمرأة لعوب تجيد فعل الغواية ، الترياق الذى يثير شهوته ويحفز انتصابه حتى يخرج ما فى جوفه ويهد جدران صمته .

الأفعال تستفزه ، الكلمات تستفزه ، الخذلان يستفزه ، المواقف تستفزه ، كل شئ هو ذاته ما يجعله صامتا يجعله أيضا صارخا بصوت جهورى وكلمات رنانة تطرق فى الأذان وكأنها طنين نحل .

يا عزيزى ... اخلو بنفسك جدد شغفك !


الاثنين، 24 يناير 2022

سيرة القصر وأنت

 

الليل ثقيل كعادته هذه الأيام ، أكره فيه وحدتى وخلوتى رغم سابق حبى لذلك لكن لكل وقت ندائه ، كان يصحبنى قمره أما الآن فحتى قمره غادرنى وتركنى فى ظلمات أتخبط ، أتكوم حول نفسى ، أحاول أن أهرب بالنوم ، أدس رأسى تحت وسادتى ، ضوء المصابيح معتم ، أحاول كتم أنفاس جند الصداع ، تشرد بى الخواطر والأفكار ، بكل ما تبقى لدى من قوة  أقاوم تلك الأفكار الخبيثة ، يسعفنى النوم فأغفو .

قتل قطز على يد صديقه الظاهر بيبرس الذى تولى مقاليد الحكم بعده ، وزع الميراث على حاشيته وأمرائه ، أرض متسعة تصل إلى النيل تقدم هدية الى " شهاب الدين أحمد العينى " يبنى عليها قصرا ضخما زينة للناظرين يدعو إليه السلطان بنفسه لحضور مراسم افتتاحه ، كعادة الأيام لا تثبت على حال ، يقدم قايتباى ويحمل فى جعبته الشر لأمراء وحاشية من كان قبله فيقبض على الرجل بعد أن كان أميرا للحج ويساومه أن يدفع له مبلغا دوريا مقابل أن يطلق سراحه فيفعل ويتعثر فى السداد فيقبض عليه مجددا ويرحل قايتباى ويحله محله قانصوه الغورى وينهج نفس سيرته فيفر الرجل إلى مكه ومن هناك الى المدينة المنورة ويبقى فيها هاربا إلى مماته ويدفن بالبقيع .

مات الرجل وبقى لقصره حكايه فالبيوت ترتدى اصحابها زيا تتسم بصفاتهم وتقاسى أوجاعهم ، تشقى وتفرح ، تزغرد وتصرخ ، تبتسم وتئن ، أحيانا تمتلأ باللهو وأحيانا تلطخها الدماء ، يستولى على القصر بعد فرار صاحبه ثم تسقط الدولة المملوكية وتتحول مصر الى ولاية عثمانية فيجعل بكوات المماليك من القصر منتزها لهم ثم تحول الى مكان للحبس الجبرى للمغضوب عليهم من المراء أو مجلسا للوالى بعد أن يخونه أمراؤه ، سجن حربى حولته الحملة الفرنسية الى مستشفى للجنود ويدفن كليبر فى حديقته قبل أن تنقل رفاته مع بقايا فلول الحملة الفرنسية ثم يأتى محمد على فينشأ بالقصر مدرسة حربية ثم يحوله " كلوت بك " الى مدرسة للطب وينسب المكان لصاحبه فيسمى القصر العينى وتمر عليه الأيام وتتوالى الأحداث والفواجع ويبقى شاهدا على كل ذلك وتهدم منشأته ويعاد بناؤها وتفتتح مجددا فى تسعينات القرن الماضى .

تبقى سيرة المكان عطرة طيبة كسيرة صاحبه ، كل منهما شقى وفر ودارت عليه الدوائر ثم استقر حيث راق له ، يدفن صاحبه بأطهر الأماكن ويخلد القصر مكانا للتداوى والعلاج .

الليل ولى بأحلامه وخواطره ، رجل ملثم وفرار وهرب ، ساحات قصرممتلئة بأجساد الجوارى وأصوات الطرب ثم نفس الساحات مسرح للكر والفر والدماء .

أستيقظ للصلاة ثم أتجهز للمغادرة ، برد الشتاء قارص ، أرتدى الكثير من الثياب ، نغادر البيت ونخلف وراءنا أكفا مرتفعة بالدعاء والابتهال ونظرات تتضرع الى الله أن يردنا مجبورين .

سلكنا الطريق الغربى ، خلفنا وراءنا بيوتنا وشوراعنا ، الأماكن التى نعرفها وحفرت فينا أثارها ، رائحتها تفوح منا ورائحتنا تفوح فيها ، مررنا على مدن جديدة يحاولون من خلالها بث الحياة فى تلك الأماكن ، سيارة معطلة نزل منها ركابها لدفعها علها تعاود سيرتها الأولى ، صحراء مترامية ، كثبان رملية ، وديان وتلال ، سهول بها بعض النباتات والحشائش الجبلية والخرق البالية ، السيارة تطوى المكان والشمس ترتفع فوق رؤوسنا تداعب أشعتها زجاج السيارة ، أتأمل فى الطريق ، السماء ، الصحراء ، البنايات بعيدة كأنها نمل ، ننعطف من طريق الى طريق ، المقطم ، صلاح سالم ، ميدان التحرير ، القاهرة تصحو ، القاهرة لا تنام ، القاهرة عائمة على جبل من الزحام ، القاهرة باقية بحسن نوايا أهلها ، تدور عليهم الدوائر وتتجمع حولهم المطامع ويتسابق فى نهبهم الطغاة ويولى الوقت بهؤلاء وتبقى القاهرة لأصحابها ، أماكن تحتفظ بزيها القديم ، الأزهر ، شارع المعز ، مصر القديمة ، أماكن السفارات والأعيان ، جاردن سيتى ، الزمالك ، المهندسين ، لكل منطقة سمتها ورائحتها .

نزلف الى المستشفى ، يساعدنى أخى ، نجلس ننتظر ، يحين دورى ، يستقبلنى الطبيب مبتسما ، يحيينى كعادته ، وقت طويل بين العقاقير والأدوية ، أم تساعد طفلها ، تمنيت لو تأخذنى فى حضنها ، كم اشتاق الى عناق طويل منك يا أمى " رحمك الله " أنت وأبى ، يلقى على مسامعى الطبيب العديد من الوصايا ، أعرفها سلفا ولكن ما باليد حيلة .

ينقضى أكثر النهار ، ننتهى ونغادر ، نركب السيارة ، اركن رأسى على زجاج بابها ، سيدة منتقبة ثيابها جميلة تحمل حقيبة بها قطع من القماش ، تمسك بيديها طفليها ، يرتدون زى الحضانة ، يحملون حقائبهم خلف ظهورهم ، يتقافزون فتمسكهم وتزجرهم بقوة ، تخشى أن تصدمهم احدى السيارات المارة ، عبور شوارع القاهرة يحتاج الى مهارة واتقان فما بالك أن كان بصحبتك صغار ، فتاة ترتدى فستانا اسودا ، ضيقه يبرز ثناياها ، تلمع ساقاها ويطل شعرها من تحت غطائه ، وجهها أختفى تحت قناع من المساحيق ، الشوارع مكتنزة بالطلاب ، لازالوا بعيدا عن الهموم ، ضحكتهم رائقة كماء النيل .

نعود الى طريقنا وسط الصحراء والليل يقترب وأضواء خافتة تصحبنا فى سفرنا ، السماء بها قطع منيرة ، فراغات بين السحب ، أرجوانى عند الغروب ، فضى بعده ، ونجوم كأنها فلك فى الأنهار تسبح ، محطة للكهرباء تبث الكهرباء للعاصمة الادارية والمدن الجديدة المحيطة بها ، بساتين من النخل ، المدن الجديدة تبدو أضواءها كأنها علامات ، وعند منتهى بصرك تعانق السماء الرمال وتذوب السحب بينهما ، الوقت يمر ، نعبر البوابات وندفع الرسوم ، ثم نطرق أبواب مدينتنا .

الأماكن كما الأشخاص تتألم ، تتوجع ، تبكى ، تقاوم ، تبقى ، وأنت كما المكان عانيت وقاومت وستقاوم حتى تنتصر .

السبت، 8 يناير 2022

شروق

 

ابتسمى يا صغيرتى فالشمس اليوم خرجت مبتهجة لعلها تبشرك بقرب زوال تك المحنة التى ألمت بك ، لعلها بشرى من الله بقرب انفراج تلك الكربة ، أُخبرت بأن حرارتك قد انخفضت الى معدلات تقترب من المعدلات الطبيعية وأن نسبة الأكسجين أيضا ارتفعت وأصبحت مستقرة ، يا صغيرتى أكثر الناس ابتلاء بعد الأنبياء المطهرون المقربون من ربهم ، يبتليهم الله ليرفع مقامهم ودرجاتهم فربما بالابتلاء يدرك المرء المنازل التى لا يبلغها بطاعته ، أعلم أن المحنة ثقيلة وأن الابتلاء شديد وأن وقته طال وفاق قدراتنا الضعيفة على التحمل ، أعلم أيضا أن التعافى سيحتاج بعض الوقت ، كلنا نعلم وندرك ذلك جيدا ، نستعن بالله ونطلب منه أن يمدك بالقوة لتخطى كل ذلك وأن تمرين من ذلك الاختبار بسلام كما عهدناك قوية محاربة لا تسمحى لأى عائق بكسرك ولا بالوقوف فى طريق أحلامك .

أتعلمين ؟

أحاول أن أكتب لكن الكلمات تأبى ، جمدت ، تحجرت على فاه القلم ، هربت منى وفرت بعيدا ، وحدها الدعوات تبقى ، وحدها الدعوات تنطق ، وحدها الدعوات تجرى تشق السحب وتطرق أبواب السماوات .

أعلم أن ما يؤلمك أكثر هى الوحدة التى وضعت فيها رغما عنك ، العزلة الاجبارية ، غرفة العناية المعقمة ، الأجهزة الطبية المتصلة بجسدك ، تقاومين سكاكين الصداع التى تضرب فى رأسك ، تخبريننى أن مقاومتك ضعفت وأنك وصلت إلى الدرجة القصوى فى تحملك وأجيبك بأن الله أبدا لا يُكلف نفسا أو يحملها فوق طاقتها ومادام قدر لك ذلك فقطعا سيمنحك قدرة تفوق تلك المطلوبة لتحمل ذلك ، تقولين أرهقت الجميع حولى ، اخوتى تعبوا كثيرا ، أحبائى ، أخبرك بأن كل مدرك نصيبه من الابتلاء لا محالة ، تقولين الدائرة التى حولى ضاقت وأخشى ان طالت اليوم أكثر أن تغلق الدائرة على ، أجيبك بأن العبرة ليست بكثرة المحيطين وانما بصدقهم وأن صديق واحد صادق خير من ألف مدع زائف ، أخبرك بأن الابتلاء أتاك ليكشف أقنعة كثيرة محيطة وقد عاينت بنفسك ورأيت بأم عينك من بقى على العقد ومن زاغ، أخبرك بأنه حتى لو بقيت وحدك فى الدائرة كما تعتقدين فإن نعمت بسلامك النفسى فذاك يغنيك عن الكل ، يا صغيرتى الله هو السلام ويهب السلام فإن مُنحتِ السلام فقد نجوت .

أتعلمين ؟

قريبا كل ذلك الوقت سيمضى وكل ذلك الوجع سيرحل وستأتى أيام نذكر فيها ذلك ، نقول حدث وحدث ، نتذاكر تلك الذكريات ونسال الله أن يبارك فى أجر الصبر فيها والرضا بها ، سنقول ابتلينا ورضينا وصبرنا وشكرنا ، منحنا الله القوة فقاومنا وأجزل لنا العطاء فعوضنا كما لم نكن نحلم أبدا ، كانت أياما ثقالا ولكن الله هونها ويسر لنا تجاوزها ، سنحكيه تاريخا لأبنائنا لنعلمهم كيف يكونوا أقوياء وأن يتمسكوا دوما بإيمانهم وأن ثقتهم فى الله لابد أن تبقى أبدا راسخة لا تتزحزح ، ألا يسمحوا للشيطان بأن يسرب إليهم اليأس القنوط أبدا .

يا صغيرتى

الشمس اليوم مبتهجة ، تلفح أشعتها أجسادنا برفق ، تلمسنا بسلام وتبث فى أطرافنا الدفء
، تنسينا برد الأمس وتمحو عنا أثار الضباب .

الخميس، 6 يناير 2022

لم نعد صغارا " 41 "

 

أسير فى طرقات المدينة وشوارعها شبه الخالية ، بعض باعة الفاكهة على جوانب الطرقات ، سيارات مصطفة يجلس بجوارها سائقوها أشعلوا نارا إلتفوا حولها ، ينفثون الدخان من افواههم وأكواب الشاى بجوارهم يتصاعد منها البخار ، تعلو ضحكاتهم ونكاتهم التى لا تخلو من بذاءة كعادة أحاديث أوقات الصفا ، على اليمين يقف رجل خمسينى أمام عربته اتخذ من مؤخرتها مصدرا لرزقه ، يضع فيها ماكينة يصنع بها القهوة والمشروبات الساخنة وأطباق مغلفة وضع فى كل منها أربع ساندوتشات ، يلتف حوله المارة ، أتخطى الطريق إلى الجانب الأخر وفى منتصف جانبيه يقف بائع فاكهة ، وأمامه فتاة تتفحص مشترواتها ويحاول أن يداعبها كى لا تنتبه لما تفعله ، وعن يساره يقف شيخ عجوز ببعض أقفاص الفاكهة أيضا وفى الجهة الأخرى سيارة أخرى تقدم المشروبات الساخنة وسيارات تصطف بجوارها .

السماء تلمع صافية وقمر يبزغ ضيه يطل على استحياء ونسمات رطبة ، المحال شغلت جانبى الطريق واحتلت أسف البيوت ، ورشة لاصلاح اطارات السيارات ملحق بها معرض لتجارة الدراجات البخارية ، بجواره ورشة للرخام ، معرض للأثاث تتقدمه أرجوحة يعدونها اليوم من الأثاث المنزلى يليهم بقالة تتبعها مقلة للمسليات والمقرمشات ابتاع منهم شيئا لأسرتى ، أواصل سيرى بضع دقائق تقتحم أنفى رائحة المخبوزات الطازجة فدون أن أشعر تقودنى قدماى إلى المخبز أقتنى بعضا من المخبوزات الساخنة  وأنتقل منه الى المحل الملاصق له فأشترى قائمة من المنتجات طلبت منى برسالة على الهاتف وانتهت بعدة اكياس من الفاكهة والخضروات  .

أستيقظ باكرا ، السيارة يغطيها الضباب ، الشوارع خالية سوى من أوراق سقطت تحت الأشجار ، الطرقات باردة ، أشرع النوافذ ، أعد كوبا من الشاى ، أشربه على مهل ، أعيد بعض الأوراق إلى أماكنها ، الشمس أصبحت مبهجة ، أجلس فى الشرفة ، أمسك بيدى كتابا ، الحياة دبت فى المكان ، المحال تعرض بضاعتها ، الأصوات تتداخل ، شركة لتوزيع المواد الغذائية يعمل بها عصبة من الرجال ، أصواتهم دوما فى ارتفاع ، حديثهم كأنه الشجار ، فلافل الخال "ديما ع البال " لافتة تصدرت مقدم مطعم على وشك الافتتاح ، توب ستايلست – مصفف شعر للرجال عادة يفتح أبوابه عند الظهيرة إلا إن هاتفه أحدهم مبكرا ، ورشة لإصلاح وتغيير إطارات وبطاريات السيارات ، مغسلة للملابس ، محال لقطع الغيار ، بقالة مهران ، سيارة يعلو صدوت محركها ، يتصاعد منها دخان كثيف ، ملابس فى الشرفات تداعب أشعة الشمس ، تؤرجحها نسمات الهواء الطرية ، سيارات اصطفت تغفو بجوار بعضها ، فض نعاسها سيارة مرت صوت محركها مزعج كأنه لم يسلم من زكام الشتاء ، محل النظارات مغلق ، محل الزجاج كعادة صاحبه يفتح أبوابه ويتسكع بالجوار ما لم يكن مشغولا فى تقطيع مرأة أو تركيب زجاج لدى أحدهم ، العمارات القريبة نائمة تماما ، يبدو أن العمال الذين يعملون فى تشطيب بعض الشقق فيها تغيبوا اليوم أو غلبهم النوم ، طفل صغير يلهو أمام محلهم ، تركه والده وانصرف بالسيارة ، حارس العمارة صوته مميز ، يتخطى كل الأصوات المتداخلة ، ذو وجه بشوش ، طوال الوقت يقطع الشاره جيئة وذهابا ، يحمل شيئا ، ينظف سيارة ، يكنس القمامة ويجمعها فى أكياس ويلقى بها فى الصندوق القريب ، يساعد سيدة فى توصيل مشترواتها إلى شقتها ، يبدل لأحد السكان أنبوبة الغاز ، يتحدث فى الهاتف ، يجلس برفقة زوجته وأولاده على رصيف العمارة أمام المدخل تلفحهم أشعة الشمس ، هو وأخوه وأبنائهم وأزواج بناتهم يتولون هذه المنطقة ، بدأ الأمر بأكبرهم سنا منذ من يجاوز خمس سنوات ثم ألحق به البقية وكلما كثرت المبانى زاد عددهم وكأنهم نتاجها .

 أتذكر مشكلة ما فأبحث لها عن حل وأرسل استفسارات بشأنها إلى المختصين والزملاء العاملين فى نفس المجال فربما تكون قد صادفتهم مثلى ، أجد بعض الفيديوهات التى تتحدث عن موضوعات قريبة والبعض يجتهد ويرسل إلى حلولا لأجربها فربما قد تفيد ، أقرأ وأستمع وأشاهد وأبحث لأتعلم وأصل إلى الحل المناسب ، يهاتفنى أحد أصدقائى يطلب منى أن أصحبه لمشوار سريع فألبى .

الأحد، 2 يناير 2022

لم نعد صغارا " 40 "

 

أراجع سريعا ما تم الفترة الماضية وأرتب معهم عمل اليوم ، أنظم المستندات التى أحضرتها وأضع كل مستند فى مكانه ، أصف الجداول وأحدد بيانا بالأوراق التى نحتاج إليها ، أجرى عدة مقابلات وأقوم بالعديد من الزيارات ، أجيب على الاتصالات التى تغافلت عن الرد عليها أثناء سفرى وكعادة أخر الأسبوع ينصرف الجميع باكرا وأظل بمفردى برفقة أوراقى وحاسوبى وملفات العملاء والكتب التى تؤنسنى دوما .

تستمر الأيام فى تواليها المعتاد مقسمة بين عمل وقراءة وتعلم و ترحال من هنا لهناك ، تقترب من أناس وتبتعد عن أخرين ، تبرم تعاقدات وتلغى غيرها ، يلقى على كاهلنا العمل بمشاق كثيرة تشغلنا عن الكثير والكثير ونلقى أصعب منها فى شرح ذلك للعملاء .

تنقضى الأوقات ويأتى رمضان ويرحل متعجلا ، تبتلى أختى بالمرض وندخل فى دوامة من الأدوية ولا مفر من إجراء عملية جراحية كأنها ورثتها من أبيها وأمها ونقارن بين المستشفيات ثم نختار وكالعادة أقابلهم على باب المستشفى ، تبكى أختى ويغرق وجهها الدمع ، احتضنها واطمئنها وأخبرها بأننا سنغادر من هنا سويا ولن يحدث لها مكروه ، أنهى الأوراق والتوقيعات ونصعد إلى الغرفة المخصصة لها ، يجهزها الطاقم الطبى ، تقبض على يدى وتبكى ، لا تتركنى ، أستئذنهم وأنزل معها وينتهى دورى عند غرفة العمليات فيطلب منى الأطباء الصعود .

أقف عاجزا أمام مرض ينهش فى جسد ضعيف ، الجمال يخبو ، حمرة وجهها تبدلت إلى صفرة شاحبة ، الضحكة انطفأت ، غيبها الألم وأخفتها الدموع .

الوقت ثقيل كسهم غرس فى صدرك وأصفاد مكبلة بها يداك ومحقن دس فى عنقك ونزيف يأبى أن يكف وقلب ينبض ألما ، كخلايا خاملة وعقل كسل عن عمله ، كضحكة مفقودة وبسمة غائبة ، كليل شتاء أسود وأرض كساها الوحل ، كعين حاقدة ترفض أن ترى نعمة عند غيرها ، كضعيف سجن ظلما وفقير يبكى شدة ومحتاج غلبته حاجته !

المرض كالليل ، كبرد يناير ، كظلام صحراء ، كضفدع ماء ، كعواء ذئب ، كقلب نازف ، كحلم مستحيل !

أوقات الانتظار شاقة والدقيقة فيها تعادل ألاف الضربات على رأسك من مطرقة ضخمة ، أخرج إلى الشارع أقضى الوقت أتجول فى المدينة القديمة ، أقتنى مجموعة من الكتب من كشك قديم حاصرته الفواكه والخضروات والأدوات المنزلية ، أعود الى المستشفى وأنتظر مجددا ، أسأل مرات ومرات حتى أعادوها إلى الغرفة ومازالت لم تعد إلى وعيها بعد .

اطمئن من الطبيب على نجاح العملية وأعرف منه الخطوات التالية والوقت الذى ستقضيه فى المستشفى ثم ينادون على أن أذهب إلى الادارة المالية لانهاء المتعلقات المالية .

استئذن من ادارة المستشفى بالبقاء برفقة أختى تصحبنى أختى الكبرى فيأذنون لى ، أرتب سيارة تعيد أهلى إلى قريتنا وأطلب من زميلى العودة إلى المدينة بسيارتى ويتركها عند مسكنى ، أتابعهم حتى أطمئن على وصول الجميع ، أشترى لها ما تحتاجه وأفتح كتبى وأقرأ فيها .

أقضى الليل أحدثها وأضاحكها حتى تنام ، جرعات متتالية من الحقن والأدوية كل عدة ساعات ، تدثرت أختى الكبرى بغطاء وغاصت فى نوم عميق ، ظللت أقرأ بجوارهم حتى نامت أعينهم ، أذن الفجر فتوضأت وصليت وأطفأت مصابيح الغرفة واستندت بظهرى على المقعد ، طرقت الباب الممرضة وحقنتها مجددا ، الشمس علت والنهار ملأ ضوءه الفضى السماء ، عمال النظافة يبدأون عملهم تشرف عليهم سيدة بدينة .

كخلية نحل تدور كل واحدة منهن فى مكان ، تنجز العمل المطلوب منها ، تنظف وتبدل الملاءات والأغطية والفرش وتفرغ سلال القاذورات .

يأتى الطبيب فيطلب منها القيام بعدة حركات ثم يأذن لها فى الخروج على أن تعاوده مجددا بعد خمسة عشر يوما بعيادته ، أجرى اتصالا وأطلب من أخى أن يحضر سيارة ويأتى ، نجمع أشياءنا وأحضر الأدوية اللازمة ونعود إلى قريتنا .

فى الليل علمت أن جدتى قد لاقت ربها ، وجدت الناس فى انتظار الجنازة بجوار البيت ، نزلنا من السيارة ، حملنا أختى إلى الداخل وأرحناها على السرير وجلست بجوارها أمى وأخواتى ، توضأت وذهبت الى صلاة الجمعة تلتها صلاة الجنازة ومراسمها والعزاء عصرا فى المساحة الفضاء خلف بيتنا .

انتهيت من ترتيب بعض الأشياء فى البيت وكنت قد طلبت منهم قبل اجراء العملية بإعداد فراش جديد لأختى ولما عدت ولم يعجبنى ما تم فاستبدلته بغيره واستئذنت أبوى فى السفر ، مشيت إلى الطريق ومن هناك ركبت توكتوك حتى البلدة المجاورة ومن هناك سيارة الى عاصمة المحافظة ثم سرفيس داخلى ثم سيارة الى مدينتى حيث وصلت ليلا .