الاثنين، 24 يناير 2022

سيرة القصر وأنت

 

الليل ثقيل كعادته هذه الأيام ، أكره فيه وحدتى وخلوتى رغم سابق حبى لذلك لكن لكل وقت ندائه ، كان يصحبنى قمره أما الآن فحتى قمره غادرنى وتركنى فى ظلمات أتخبط ، أتكوم حول نفسى ، أحاول أن أهرب بالنوم ، أدس رأسى تحت وسادتى ، ضوء المصابيح معتم ، أحاول كتم أنفاس جند الصداع ، تشرد بى الخواطر والأفكار ، بكل ما تبقى لدى من قوة  أقاوم تلك الأفكار الخبيثة ، يسعفنى النوم فأغفو .

قتل قطز على يد صديقه الظاهر بيبرس الذى تولى مقاليد الحكم بعده ، وزع الميراث على حاشيته وأمرائه ، أرض متسعة تصل إلى النيل تقدم هدية الى " شهاب الدين أحمد العينى " يبنى عليها قصرا ضخما زينة للناظرين يدعو إليه السلطان بنفسه لحضور مراسم افتتاحه ، كعادة الأيام لا تثبت على حال ، يقدم قايتباى ويحمل فى جعبته الشر لأمراء وحاشية من كان قبله فيقبض على الرجل بعد أن كان أميرا للحج ويساومه أن يدفع له مبلغا دوريا مقابل أن يطلق سراحه فيفعل ويتعثر فى السداد فيقبض عليه مجددا ويرحل قايتباى ويحله محله قانصوه الغورى وينهج نفس سيرته فيفر الرجل إلى مكه ومن هناك الى المدينة المنورة ويبقى فيها هاربا إلى مماته ويدفن بالبقيع .

مات الرجل وبقى لقصره حكايه فالبيوت ترتدى اصحابها زيا تتسم بصفاتهم وتقاسى أوجاعهم ، تشقى وتفرح ، تزغرد وتصرخ ، تبتسم وتئن ، أحيانا تمتلأ باللهو وأحيانا تلطخها الدماء ، يستولى على القصر بعد فرار صاحبه ثم تسقط الدولة المملوكية وتتحول مصر الى ولاية عثمانية فيجعل بكوات المماليك من القصر منتزها لهم ثم تحول الى مكان للحبس الجبرى للمغضوب عليهم من المراء أو مجلسا للوالى بعد أن يخونه أمراؤه ، سجن حربى حولته الحملة الفرنسية الى مستشفى للجنود ويدفن كليبر فى حديقته قبل أن تنقل رفاته مع بقايا فلول الحملة الفرنسية ثم يأتى محمد على فينشأ بالقصر مدرسة حربية ثم يحوله " كلوت بك " الى مدرسة للطب وينسب المكان لصاحبه فيسمى القصر العينى وتمر عليه الأيام وتتوالى الأحداث والفواجع ويبقى شاهدا على كل ذلك وتهدم منشأته ويعاد بناؤها وتفتتح مجددا فى تسعينات القرن الماضى .

تبقى سيرة المكان عطرة طيبة كسيرة صاحبه ، كل منهما شقى وفر ودارت عليه الدوائر ثم استقر حيث راق له ، يدفن صاحبه بأطهر الأماكن ويخلد القصر مكانا للتداوى والعلاج .

الليل ولى بأحلامه وخواطره ، رجل ملثم وفرار وهرب ، ساحات قصرممتلئة بأجساد الجوارى وأصوات الطرب ثم نفس الساحات مسرح للكر والفر والدماء .

أستيقظ للصلاة ثم أتجهز للمغادرة ، برد الشتاء قارص ، أرتدى الكثير من الثياب ، نغادر البيت ونخلف وراءنا أكفا مرتفعة بالدعاء والابتهال ونظرات تتضرع الى الله أن يردنا مجبورين .

سلكنا الطريق الغربى ، خلفنا وراءنا بيوتنا وشوراعنا ، الأماكن التى نعرفها وحفرت فينا أثارها ، رائحتها تفوح منا ورائحتنا تفوح فيها ، مررنا على مدن جديدة يحاولون من خلالها بث الحياة فى تلك الأماكن ، سيارة معطلة نزل منها ركابها لدفعها علها تعاود سيرتها الأولى ، صحراء مترامية ، كثبان رملية ، وديان وتلال ، سهول بها بعض النباتات والحشائش الجبلية والخرق البالية ، السيارة تطوى المكان والشمس ترتفع فوق رؤوسنا تداعب أشعتها زجاج السيارة ، أتأمل فى الطريق ، السماء ، الصحراء ، البنايات بعيدة كأنها نمل ، ننعطف من طريق الى طريق ، المقطم ، صلاح سالم ، ميدان التحرير ، القاهرة تصحو ، القاهرة لا تنام ، القاهرة عائمة على جبل من الزحام ، القاهرة باقية بحسن نوايا أهلها ، تدور عليهم الدوائر وتتجمع حولهم المطامع ويتسابق فى نهبهم الطغاة ويولى الوقت بهؤلاء وتبقى القاهرة لأصحابها ، أماكن تحتفظ بزيها القديم ، الأزهر ، شارع المعز ، مصر القديمة ، أماكن السفارات والأعيان ، جاردن سيتى ، الزمالك ، المهندسين ، لكل منطقة سمتها ورائحتها .

نزلف الى المستشفى ، يساعدنى أخى ، نجلس ننتظر ، يحين دورى ، يستقبلنى الطبيب مبتسما ، يحيينى كعادته ، وقت طويل بين العقاقير والأدوية ، أم تساعد طفلها ، تمنيت لو تأخذنى فى حضنها ، كم اشتاق الى عناق طويل منك يا أمى " رحمك الله " أنت وأبى ، يلقى على مسامعى الطبيب العديد من الوصايا ، أعرفها سلفا ولكن ما باليد حيلة .

ينقضى أكثر النهار ، ننتهى ونغادر ، نركب السيارة ، اركن رأسى على زجاج بابها ، سيدة منتقبة ثيابها جميلة تحمل حقيبة بها قطع من القماش ، تمسك بيديها طفليها ، يرتدون زى الحضانة ، يحملون حقائبهم خلف ظهورهم ، يتقافزون فتمسكهم وتزجرهم بقوة ، تخشى أن تصدمهم احدى السيارات المارة ، عبور شوارع القاهرة يحتاج الى مهارة واتقان فما بالك أن كان بصحبتك صغار ، فتاة ترتدى فستانا اسودا ، ضيقه يبرز ثناياها ، تلمع ساقاها ويطل شعرها من تحت غطائه ، وجهها أختفى تحت قناع من المساحيق ، الشوارع مكتنزة بالطلاب ، لازالوا بعيدا عن الهموم ، ضحكتهم رائقة كماء النيل .

نعود الى طريقنا وسط الصحراء والليل يقترب وأضواء خافتة تصحبنا فى سفرنا ، السماء بها قطع منيرة ، فراغات بين السحب ، أرجوانى عند الغروب ، فضى بعده ، ونجوم كأنها فلك فى الأنهار تسبح ، محطة للكهرباء تبث الكهرباء للعاصمة الادارية والمدن الجديدة المحيطة بها ، بساتين من النخل ، المدن الجديدة تبدو أضواءها كأنها علامات ، وعند منتهى بصرك تعانق السماء الرمال وتذوب السحب بينهما ، الوقت يمر ، نعبر البوابات وندفع الرسوم ، ثم نطرق أبواب مدينتنا .

الأماكن كما الأشخاص تتألم ، تتوجع ، تبكى ، تقاوم ، تبقى ، وأنت كما المكان عانيت وقاومت وستقاوم حتى تنتصر .

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

حقيقى مبدع مبدع مبدع مبدع ما شاء الله لا قوة إلا بالله فعلا موهوب كلماتك والله ألحان ألحان