السبت، 25 سبتمبر 2021

صفحات من زمن فات

 

الليل تسرب ببطئ ، النهار ينسلخ منه ، تستريح العتمة ويتسرب الضوء بخطى ناعسة ، الطيور تُسبح ، تنادى على بعضها أن قوموا للصلاة ، يتصايحون ، يصدحون بالذكر ، نسيم الفجر يتدفق يشرح الصدور ، العصافير تنفض أجنحتها ، الصغار تنقرهم امهاتهم برؤوسها ، تداعب صدورهم وظهورهم ، تمسح على رؤوسهم وتمسد أجسادهم ، الأشجار لازالت فى سبات عميق ، السماء فضية ، السحب تخرج فرادى وجماعات ، تسير على مهل ، لازال النوم مسيطر على رؤوسها ، السيارات بدأت تقطع الأرصفة ، يخرج الكادحون الى أعمالهم ، يسعى الكل لقوت يومه ، البكور مبارك ، يتدفق فيه الرزق رطبا طريا ، سهلا لينا ، مشقته منسية ، الجسد ينشط بسرعة بعد أن تنسحب منه أثار الليل ، القوة تدب فيه ، يزداد النور شيئا فشيئا ، السكون يتبدل والهمس تنبت اصواته والصمت يتردد صداه ..

أفتح صفحات كتبى المطوية فاقرأ " دخل الجيش الانجليزى الى عاصمتنا فكان لدخوله شئ مبهج وقد سُر الأهلون بتخلصهم من أسر الأحمق العاصى وطغمته ، فنادوا بالدعاء بتأييد سمو الخديو المعظم وحفظ أنجاله " ...

أى جريدة هذه التى يتصدرها هذا المقال " الأهرام " ... أكاد لا أصدق .... لابد اذن
أن الحديث عن أناس أفسدوا الوطن وأضاعوا مقدراته وفرطوا فى عرضه وممتلكاته وخانوا أمانته ، أقلب الصفحات بحثا عن الأحمق والعاصى وطغمته هؤلاء الذين فسدوا فأفسدوا .

أجد مبتغاى فى عدد أخر لذات الجريدة فى خبر عنوانه " البشرى العظمى " جاء فيه :-

" ورد تلغراف رسمى من الباسل الجنرال وولسلى أن السوارى الانجليزية احتلت العاصمة مساء أمس وأن الجيش قبض على العاصى عرابى " ...

لا أصدق عينى ، يبدو أن النوم مازال مسيطر على ، أهرع الى الداخل ، أغسل وجهى وأغرق رأسى بالماء وأعود اواصل البحث لعلى أجد الصحيح ، أعيد قراءة المنشور ، هو ذاته ، لم أكن ناعسا ولم أكن أحلم ، أنزل الى أسفل الصفحة مقال عنوانه " التهنئة " .... تهنئة بالاحتلال لأرضنا تختم بجملة " بُشراك يا مصر بُشراك فقد نلت المنى " ... عن أى بُشرى يتحدثون ..

أطالع كلمات الامام محمد عبده الخاده بعدما سجن بتهمة الانضمام الى العصاة " هل أستحق العقاب على حبى لبلادى والناس لها كارهون ؟ ، كلا والله لن يكون ذلك ، ولئن عشت لأصنعن المعروف ولأغيثن الملهوف ولأخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم ولأتجاوزن عن السيئات " ..

ثم تتوالى الأخبار وتصدر الأحكام بالاعدام على " أحمد عرابى و محمود سامى البارودى وخمسة أخرين من قادة الجيش الذين تعاونوا مع عرابى ثم تخفف الأحكام الى النفى المؤبد خارج البلاد ، ويقبض الخونة الثمن ...

لازال خطيب العصاة هاربا رغم أن ذات الجريدة زفت خبر القبض عليه بكلمات تتفجر نارا فى مقال عنوانه " نديم اللعين " جاء فيه : قبض فى العاصمة على نديم اللعين فاحتجب " الطائف " واختفى " الطائف صحيفة كان يصدرها عبدالله النديم وتدافع عن عرابى والجيش " ، وسجل الأكاذيب انطوى ، ونديم اللعين نادى والى النار قد هوى ، بغى واستكبر ، وأشار ودبر بالفساد والشر ، واستخدمه الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس ... لئيم خسيس النسب ، وغد دنئ الحسب ، خرب البلاد ونهب ، تبت يداه وتب ، سيصلى نارا ذات لهب " ، ثم كذبت الصحيفة نفسها الخبر فى اليوم التالى وأكدت أنه لا مفر له أين كان فهو على أى الأحوال فى زمرة المقبوض عليهم .

واختفى عبدالله النديم عن الأنظار فكثرت الشائعات فقالوا هرب الى السودان ، ايطاليا ، بيروت ، ذهب الى عرابى فى منفاه ، بل قالوا قد مات ، والرجل لم يخرج أساسا من مصر وظل فيه يتخفى ويتنكر ويبدل هيئته ، يصحبه خادمه ، حتى أُعلن عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يدل عليه ، أواه واحدا من أحبابه ولما قضى نحبه أواه ابنه من بعده إلى أن وشى به بعض أقاربه ففر من هناك قبل الوصول الجند وفى طريقه تعرف عليه مأمور المركز وظن أن أمره انتهى لكن الرجل رغم أنه كان شركسى الأصل إلا أنه كان عربى الكرم ، فتركه لحاله ووهبه حياته وتخلى عن المكافأة رغم احتياجه اليها وتخلى عن الرتب والمناصب التى كان سيحصلها بالقبض عليه ، بل وأعطاه ثلاثة جنيهات كانت كل ما يملك قائلا له خذها واستعن بها على أمرك ونصحه ألا يسلك هذا الطريق فيقبض عليه غيره ....

الشمس طلت من خلف البنايات ، وأخذت تصعد الى السماء ، وبدأت عملها ، ترسل أشعتها لتكسو النسيم بالدفء ، استيقظت البيوت من نومها وأخذت الشرفات تُشرع أبوابها والنوافذ تفتح والستائر تزحزح تاركة لشعاع الشمس كامل الحرية كى يخطو الى الداخل .

الذٌباب يصحو مبكرا أيضا ، هجماته المتتالية جعلتنى أغلق الكتاب وأطوى الصفحات وأضع القلم واحمل اوراقى وأرحل ....

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

ما أندى كلماتك فى وصف الليل والنهار ،صوت العصافير ،نسيم الفجر، السماء والسحب ....حتى دخولك فى صفحات التاريخ جاذبية خاصة تجعل من يقدم على القراءة يقرأ بلهفة ليعرف ماذا حدث ....كم انت مبدع موهوب مثقف كاتب بمعنى الكلمة ....اللهم بارك ما شاء الله اسلوبك فى العرض فعلا ساحر ..بورك قلمك الرائع