الأحد، 5 سبتمبر 2021

رائحة الزمن " تتمة "

 

تجمعات لمياه الصرف ، فى نفس مدخل الشارع القديم ، تدور من حولها النسوة حتى لا يمس الطين ثيابهن ، المبانى شاخت ، طحالب خضراء تكونت على الجدران ، تدور عينى فى اللافتات المعلقة ، أبحث عن لافتة بعينها ، أخيرا وجدتها ، مر عليها سنوات طوال ، تغطيها الأتربة كليا ، مقر لعيادة طبية لطبيب شهير وزوجته ، توفى منذ سنوات كثيرة تقارب العشرين ومن يومها وهجرت زوجته فتح العيادة مجددا وتفرغت لتربية الأبناء ، علمت أن ابنه الصغير سيعاود فتح وتشغيل العيادة مجددا ، سألت الله له المغفرة والرحمة فلم تخط قدمى هذه العيادة يوما إلا ووجدت الكثير عنده يعالجهم ويقدم لهم الدواء دون أن يتقاضى مليما واحدا ، يكفى أن تقول فى العيادة فقط أنك من بلدة كذا أو أى بلدة قريبة منها ....

سيارة ترجع للوراء وسيدة تمر شاردة فأدركها قبل أن تصدمها السيارة ، تاجرة خضروات تشيح للسائق وتتشاجر معه لأنه توقف قبل مكان فرشتها بمترين وتأبى مغادرة السيارة قبل أن يتحرك المسافة المتبقية ، يتحرك وينزل من السيارة غاضبا لينزل لها حاجاتها ويترك الباب مفتوحا فيغلقه شاب مار بالجوار .

فى هذا المكان تحديدا كان يجلس باعة الكتب والجرائد ، أفتش جيدا حتى أتعثر فى مساحة ضيقة على حانوت الكتب ، كشك شديد الصغر يجلس فيه رجل خمسينى ، تحيطه أعداد قليلة من الكتب وأمامه وضع طاولة خشبيه صف عليها اعدادا محددة من الجرائد اليومية و أقل منها من اصدارات المجال الثقافية والمتخصصة ومجموعة كتب فى الادب والفكر والتاريخ والسياسة والفلسفة ، بعضها قديم يصفها فى رف عن يساره ، أرى شطرا مقطوع فى غلاف كتاب تاريخ ، أتصفحه ثم أشتريه منه ، الأوراق صفراء رائحتها تفوح ، كأن الذى غير لونها توالى السنون ، أتصفح الكتب الموجودة وأختار مجلات بعينها تصدر مصحوبة بكتاب ثم اختار بعض الكتب فيعرض على غيرها وكأن أول مشترى يمر عليها منذ سنوات ، ما غادرته إلا بعد أن حصلت منه على غنيمة طيبة فى مجالات مختلفة ، طلب منى معاودة زيارته فى اليومين التاليين وسيحضر لى كتبا جيدة وباقى أجزاء لكتاب اقتنيته منى ، ولكن الوقت لم يمهلنى لأفعل .

كانت هنا سينما درجة .... ليست مصنفة اصلا  ، تعرض عدة افلام فى اليوم ، عربية وأجنبية ، يتسابق أمامها طلبة المدارس والعاطلين عن العمل ، خاصة عند تغيير العرض مع صباح الاثنين من كل أسبوع بخلاف السينمات الأخرى التى كان العرض فيها عادة يبدأ الأربعاء ولا تقدم سوى فيلم أو اثنين فى أكثر الأحوال  ، يبدأ العرض فى العاشرة صباحا ويستمر وتتكرر الأفلام ويمكنك أن تبقى حتى تغلق السينما أبوابها .

محلات جزارة معلق عليها الذبائح ، غطيت بأقمشة بيضاء مخضبة ببقع من الدم ، الجزار يرتدى ثيابا قصيرة ، يمسك بيديه سكاكين يعالج بها اللحم ، محال لبيع الأوانى المنزلية المصنوعة من الألمونيوم ، ورش للحديد والكريتال ، روائح الفسيخ إلتهمت خبث الحديد  ، سلاسل حديدية ، أحجار لسن السكاكين ، فؤوس وأدوات زراعية معلقة على صدر محل ، مقاطف وحبال ، أدوات معمار ، موازين ، حصر بلاستيكية ، لفات مشمع ، مواسير ستائر ، مفصلات وكوالين ، ورش أخشاب تتقدمها أبواب خشبية وشبابيك وكراسى ومناضد وشماعات ، نشارة الخشب تملأ الارضية وتتناثر امام الورشة ،  بيوت تشبه بيوت الريف كأن مونتها الطين ، يبدو أن طلاءها كان يوما أخضر ، لم تبقى منه سوى رائحته بعد أن أرهقته السنون .

المناطق كما الأشخاص تتشابه ، نفس الملامح ، الشوارع الضيقة ، الحوارى والأزقة ، نفس الروائح ، نفس الانكسارات والهزائم ، الأشياء الساذجة نفسها ، الحماقات ذاتها والعجيب أن المصائر نفسها أيضا .

هنا كانت صوامع ومخازن القمح التى كان منها يطعم القطر كله وبها مكن الله نبىه يوسف " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام " فى تجاوز مصر للسنوات العجاف ،  هنا كانت زراعات القمح منتشرة فى كل الأراضى ، هنا كان الخير ينثر مع البذور،  إلى ان استخدمت الأرض فى مد الطرق ونزعت ملكيتها للاغراض العامة كما يقول من كان يوما يزرعها  فضاع القمح وانتشرت البطالة بين المزارعين وضاع عليهم قوتهم وما بقى من علامات القمح سوى مسمى هذه المدينة .

2 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

يا الله يا الله ما أروع كلماتك فى وصف هذه المدينه ....عبق التاريخ يفوح من هذه الكلمات .....كم أحببتهامن خلال هذا الوصف حتى لاول مره اعرف انها لها علاقة بصوامع القمح فى عهد سيدنا يوسف عليه السلام ....والله ما أروع وصفك وأندى كلماتك ....سلم هذا القلم سلمت هذه الموهبة اللهم بارك اللهم بارك

Asmaa Latif يقول...

ليتها دامت كل أيامنا كرائحة هذا الزمن ....ليت الأيام ظلت ثابته لا تتحرك ....ولكن سنة الله فى الكون