الخميس، 13 فبراير 2020

بصحبة كتاب


الكتابة تُباغتك ، فيضان يتدفق فجأة فلا يمكن لسدود أن تعوقه ، حله الوحيد أن تُفسح له الطريق ليجرى ، يخرج ما فى الجوف ، تُسطر كل هذا السيل ، يأتيك اتصال صباحى بينما تجهز ليومك فتجد نفسك مضطرا لتغيير كل شئ رتبت له لهذا اليوم ، تُجهز نفسك على عجل ، تُغلق حاسوبك وتُلملم أوراقك وأقلامك ، تصطحب الكتاب الذى تحاول اقتطاع ما تقدر من الوقت لمطالعته ، " خريدة القاهرة " ، اصدار حديث للدكتور " حامد محمد حامد " ، اقتنيته من معرض الكتاب المقام بالقاهرة فى دورته التى انتهت لتوها ، من اصدارات الرواق للنشر والتوزيع .
أغادر مكان عملى ، أستقل السيارة لبدء المرحلة الأولى من الطريق ، ما يقارب النصف ساعة ، بعضها انقضى فى إجراء وتلقى بعض الاتصالات ، اسأل السائق عن المكان الذى تنطلق منه السيارة الثانية ، أبحث بعض الدقائق حتى أصل إليها ، من تيسير الله أنها أوشكت على أخذ كفايتها من المسافرين ، أكثرهم يحملهم حقائب سفر مثقلة بأشيائهم حتى أن سطح السيارة تشبع منها ، يشد عليها السائق الحبل جيدا ، يسمى الله ويبدأ المرحلة الثانية ، الفاتحة يا رجاله ....
" هذا ليس كتاب تارخ ولا كتاب آثار ... "
" شئ من سيرة الأماكن والأشخاص "
تُغادر السيارة الموقف فيتجه يمينا ثم يدور يسارا ثم يتجه للخلف فيدخل منطقة مكتظة بالسيارات ، على مهل يتحرك إلى أن يستطيع تخطى هذا الزحام ثم يأخذ الطريق المتجه إلى الأعلى حتى يدخل فى طريق أخر ، الطريق مزدحم بعض الشئ ، يقضى فيه وقتا قليلا قبل أن يتجه يمينا ناحية طريق جديد ، الطريق متسع فيبدو كأنه خال من السيارات ، المساحات الخضراء تتسع عن جانبيه ، البيوت تبدو واهنة وتصغر شيئا فشيئا ....
" لا مفر لك وأنت فى القاهرة من الحكايات القديمة ...."
يستمر السائق يشق الطريق ، يبدو أن هذه السيارة قد كتب عليها للذكور فقط ،  الجالس عن يمينى شُغل فى مكالمة هاتفية طويلة بصوت مرتفع ، فى المقعد الذى يلى السائق مباشرة ثلاثة أصحاب فتح أحدهم هاتفه وأدار مقاطع فيديو يشاهدها برفقة صاحبيه ، المقعد التالى ثلاثتهم حافظوا على صمتهم إلا فيما قل ، المسافر عن يسارى وضع سماعات الهاتف فى أذنيه وشرد وبالخلف كما فى المقدمة الصمت سيد الموقف ، أما السائق فقد أدار إذاعة القرأن الكريم ...
" المساجد أسرار
ستخسر كثيرا إذا ظننت أن المساجد هى مجرد أماكن للعبادة يبنيها عباد الله الصالحون ابتغاء الأجر والمثوبة فحسب "
يحافظ السائق على السرعة التى بدأ بها الرحلة فلم ألحظ طوال الطريق أن هناك سيارة واحدة تخطاها إلا إذا كانت متوقفة ، المسافات تطوى ويتبدل لون الأرض ، تنحدر السيارة مع الطريق الذى يتلوى كأفعى دارت حول نفسها دورة كاملة ثم يلحق بطريق أخر ، عن اليمين منطقة صناعية حديثة مكونة من مجموعة من الهناجر ذات الطراز الموحد ، عن اليسار محال ومعارض ومنازل وورش ، أكثر المحال تعمل فى الأنشطة المتعلقة  بخدمة السيارات وقطع غيارها وباعة يتوسطون الطريق يعرضون بعض الاكسسوارات ومستلزمات السيارات ولا يخلو الطريق أبدا من باعة الفاكهة والخضروات ...
" فى القاهرة كن على ثقة بأنه مهما بلغت خبرتك بدروبها فستظل على موعد دائم مع الدهشة ، دهشة من أعاجيب البدايات وعبث المآلات ..." .
الطريق مكسر بعض الشئ ، تجرى به أعمال صيانة وإصلاحات ، يجبر السيارة أن تبطئ من سرعتها أكثر ، لافتات إعلانية ولافتات صغيرة تعلن عن اسماء الأماكن وفى مطلع كل مدينة تزداد اللافتات أكثر ، أمام المناطق السكنية تكثر المطبات الصناعية لإجبار السائقين على خفض السرعة ....
" كان أحد الفلاحين يركب مركبا هو وزوجته وكان يركب معهما احد الجنود ، اخذ الجندى يغازل زوجة الفلاح التى كانت حُبلى فى الشهر التاسع وعندما صدته وشتمته ضربها الجندى فأسقط حملها .
جرى الفلاح المسكين ليشتكى لـ " قراقوش " فطيب خاطره وحكم بأن يأخذ الجندى زوجة الفلاح عنده ، ويعيدها لزوجها حُبلى من جديد بعد تسعة أشهر " .
يواصل السائق السير فى طريق متعرج أقيمت عليه الكثير من الكبارى لتسهيل الحركة والتنقل بين الأماكن ، لكل مكان صفات تميزه حتى فيما يتم زراعته بأرضه فكل منطقة لها زراعة تشتهر بها عن غيرها ، تختلف اللهجات واللكنات أيضا فلكل منطقة طريقتهم وأسلوبهم وكلمات يصعب على غير المقيمين فيها معرفتها ، يجمع المسافرون الأجرة ومبالغ إضافية تدفع عن الحقائب التى تعتلى ظهر السيارة وكالعادة يختلف البعض على قيمة ما تم دفعه فالسائق يقول أن بالأجرة نقص والجميع يقسم أنه دفع المستحق عليه كاملا وتتوه الحقيقة ويذم السائق ببعض الكلمات ....
" للأماكن سطوة خادعة ، سطوة تفوق منشئها ذاته ، تُعيد الأماكن رسم صورة من أنشأها ، تتماهى معه حتى يصبح المكان العظيم دليلا لا يقبل الشك على عظمة صاحبه ، وفى القاهرة ، لا سطوة تفوق سطوة مدرسة " السلطان حسن "" .
اسأل عن المكان الذى أصبحنا به الآن واتصل بصديقى أخبره فيجيبنى بأنه مازال أمامى بعض الوقت ، أمام منطقة سكنية أوقف السائق السيارة وغادرها ، مخبز للعيش البلدى ، مقهى ، محل بقالة ، خردة سيارات يأكلها الصدأ ، أداوت لحام ، حارة ضيقة تتوسط البيوت والمحال ، آثار الأمطار على الأرض ، كتل من الطين متراكمة ، فتاة ترتدى عباءة زهرية اللون ...
نمر على مدينة اشتهرت بإسم أحد الأولياء بها وشيد له فيها مسجدا ممتلئ بالدراويش عادة ويقام له فيها مولد سنوى يحج إليه الكثير من المريدين ، المصادر التاريخية تؤكد عكس ما يتداول عن هذا الرجل تماما ولكن .....
" على اى حال فللأولياء فى مصر سطوة حقيقية وإن كانت مستترة لا تُفضح عن نفسها إلا بمقدار ، وإدراك سطوتهم تلك ضرورة حتمية لمن اراد أن يفهم عالم القاهرة الأسطورى والعبثى جدا ... " .
سور مرتفع يحيط بمنطقة لا يبدو من خلفه أى بناء ، أظنه لمنطقة عسكرية ربما ، مر ما يجاوز الساعتين ولا تزال السيارة فى الطريق ، اسأل مجددا المسافر بجانبى فيقول أوشكنا أن نصل ، المشكلة أن هذا السائق يسير وكأن السيارة محملة بالأثقال رغم مشاداته مع السائقين على الطريق حول أحقية المرور وتراشق الألفاظ ...
" لكل مكان مذاقه وروحه ونفسه الخاص ، قد ترتاح فى مسجد ، ولا تحتمل أبدا أن تقترب من مسجد أخر دون أن تعرف السبب ، روح هذه الأماكن هى حكاياتها وذكريات من مروا بها ، من دون أن تستشعر هذه الروح ستغدو الأماكن كلها مسخا واحدا عديم الشكل ، مجموعة من الحجارة القديمة لا أكثر ، مجرد صورة باهته على كارت بوستال قديم "
بضع سنوات مضت منذ أخر زيارة لى لهذه المدينة التى أتوجه إليها الآن وفى المرة الماضية كان استقبالها حافلا ، فما إن وضعت قدمى حتى أغرقتنى الأمطار واستمرت بفعلها حتى عودتى فى نهاية اليوم الثانى ، لافتة تعلن أن المتبقى 45 كم ، أتصل بصديقى لأخبره فيقول أنه تحرك من مدينته ليلتقينى فى الموقف عندما أصل ، أواصل القراءة بعد أن أنهى بعض الاتصالات لمتابعة سير العمل مع باقى فريقى وتأجيل بعض المواعيد التى كانت مقررة اليوم .
" أما الجبرتى فقد استطاع أن يوجز لنا حياة مراد بك وشخصيته فى عبارة قصيرة " كان يغلب عليه الخوف والجبن مع التهور والطيش ، والتورط فى الإقدام مع عدم الشجاعة ، ولم يعهد عليه أن انتصر فى حرب باشرها أبدا ، على ما فيه من الادعاء والغرور والكبر والخيلاء والصلف والظلم والجور .. وبالجملة كان من أعظم الأسباب فى خراب الإقليم المصرى "" .
فى الزيارة السابقة كان الطريق متخما باللافتات الاعلانية للحملات الانتخابية لمرشحى الأحزاب المختلفة والتى كانت تضج منها الشوارع والطرق وكل منهم يتخذ شعارات مغايرة وسباب وتراشق وكلٌ يدعى لنفسه الأفضلية وغيره لا محل له من الأعراب ، أحزاب ملأت البلد صراخا وعويلا ، انتشرت فجأة وبكثرة بعد الثورة حتى أكلتها .
" الثورة لحظة جنون دافق ، قرار صاعق يسرى فى الإنسان كشحنة كهربية تجعله يؤمن بان حياته كلها لا قيمة لها من دون الثورة " ..
تواصل السيارة طريقها على مهل بذات الهدوء الذى بدأت به الرحلة رغم أن المعروف عن الخيل أنها كلما اقتربت من خط النهاية سارعت ولكن يبدو للسيارات رأى أخر فتطبق المثل القائل " فى التأنى السلامة " بأكثر من المراد منه بمراحل ، اتابع بعينى الطريق وأشم رائحة مختلفة وأعى جيدا أن لكل أرض رائحة تميزها عن غيرها متأثرة بعوامل عدة كنوع وطبيعة ما يزرع وطبيعة تربة الأرض نفسها ومدى قربها من المياه وحتى الرائحة تختلف باختلاف مصدر المياه سواء كان النيل أو أى البحرين أو القنوات والمصارف التى تشق أكثر المناطق ، وأيضا طبيعة الأعمال التى تمارس بتلك المناطق فتختلف تلك الشهيرة بأعمال الصيد عن تلك الشهيرة بالصناعة  أو الزراعة  أو مراسى السفن ومحطات الوقود وفى المكان ذاته تختلف الرائحة من منطقة لأخرى حتى أنها تتأثر بفعل أنفاس البشر ...
" للتاريخ ألف وجه ...
يبدو لنا التاريخ أحيانا مغرقا فى الحكمة والمعرفة ويتجلى أحيانا أخرى كعمدة قروى عجوز ، يجلس متكئا على أريكته القديمة ، ينفث دخان المعسل وينطلق لسانه بحكايات ليس لها أول من أخر تبدو للوهلة الأولى شديدة التنافر ولا رابط بينها ..."
الطريق يوشك أن ينتهى وحكايا " الخريدة " أيضا أوشكت أن تتم ، أقلب الصفحات لأعلم المتبقى وأعاود القراءة ..
" حكايات الأشخاص تتحول مع مرور الزمن إلى جزء من المكان حتى مع إيمانك أن تلك الحكايات هى محض أساطير خرافية لا أكثر ، لا تستطيع أن تمنع نفسك من الإحساس بأن ثمة أماكن مميزة بأساطيرها عن أماكن أخرى ، ربما هذا ما دفع كل من أرَّخوا للأماكن إلى ذكر سير أصحابها مهما كانت مُغرقة فى الخيال ، فقد كانوا يعرفون جيدا أن الحكايات هى روح الأماكن .."
تخطت السيارة بوابة المدينة وأتجه يمينا وتخطى الإشارة فأصبحنا تماما فى موقف السيارات ، سألت السائق عن مواعيد تواجد السيارات ومكانها فأخبرنى أنهم يعملون لأخر النهار وتجد السيارات تحمل الركاب من خارج الموقف فلا مكان لهم بالموقف ، شكرته ونزلت ، هاتفت صاحبى فقال أنه اقترب من الوصول فوقفت على رصيف المشاة أنتظره وشغلت بمتابعة خروج الأطفال من المدارس وتخطيهم لطريق عبور السيارات  .

·         العبارات المدونة بالخط الأحمر من كتاب " خريدة القاهرة " .
·         استمتعت جدا بالقراءة وأنصح بمطالعة الكتاب وأعدك بعد القراءة أن تخرج منه بروح غير التى بدأته بها وستعرف عن القاهرة كثير مما خفى عنك وإن كنت تعلمه فتأكد بأن السرد سيمتعك ، أتمنى أن يكون له أجزاء متتالية .

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

أبدعت