الأربعاء، 29 يوليو 2020

شئ من الحكى


ثقيلة كألم لا يتزحزح عن مكانه ، موجعة كفقد لا رجعة بعده ، قاسية كموت لا بعث منه ، أسير ، أتكفئ ، مكبل اليدين ، والعين غطاه سواد عظيم ، النفس ألتقطه جبرا والدمع جامد ، كل شئ فى الطريق محطم ، قدمى تصطدم بزجاج مكسور وصفائح صدئة ، كلاب ترتع وقطط طوافة ، مقلب قمامة مفعم بكل شئ ، الرائحة طاغية ، غريبة ، نفاذة وقاتلة .
الجسد هزيل ، ضعيف ، والليل أعمى ، نباح الكلاب ، فحيح الأفاعى وآنات الصمت ، المكان مفعم برائحة الصد ورائحة الرفض ورائحة الرضا ، مكتظ بصوت الألم وصوت القتل وأهات الشهوة ، قبلة للهرب ، قبلة للخطف ، وقبلة لفاقدى المأوى ...
كل يعرف تفاصيله ، مرأة تظهر فيها حقيقته حتى تلك التى غطاها بالمساحيق وتلك التى أخفاها داخله ، كبللور شفاف باطنه كظاهره ، عاريا تماما كيوم ولدته أمه .
البعض يعرف جيدا لما هو هنا والبعض هو من قدم بنفسه والبعض قدم رغما عنه والبعض مثلى أقتيد إلى هنا ، لا يعرف السبب ولا يعرف الفاعل ولا يعرف ماذا ينتظره ....
يأخذنى ما أعايش إلي تلك الأيام التى وارتها الذكريات أو ظننتها كذلك فأرى ذلك الصبى يلعب ويهرب من دروسه ، يفر من الكتاب ، يجرى إلى حضن الأرض ، يحتمى بها .
 يحلق رأسه بشكل يراه والده سيئا فينهال عليه ضربا ، يفر من البيت ، فزعا ، يهرب لا يعلم إلى أين ، تقوده قدمه إلى المسجد حيث اعتاد المكوث ، يبحث عن مكان ينام فيه ويختبئ خشية أن يراه أحد ، يجد النعش الذى يحمل فيه الموتى بمؤخرة المسجد ، يجذب بعضا من الحصير وينام تحته ويتغطى بالحصير .
يشترى قميصا عليه صورة فيُسِر أحدهم إلى أبيه أن تلك الصور سيئة ومكروهة فينزع الثوب ويقطعه ويلقى عليه الجاز ويشعل فيه النار ويفسد تلك الفرحة التى غشيته حينما اشترى القميص ، يكاد يأكل ذلك الرجل بعينيه كلما رأه وإلى الأن يذكر ذلك الموقف ورغم أنه تجاوزه إلا أن بعض الأشياء عصية على النسيان ، ملتصقة بالذاكرة .
إلى تلك الأيام التى اعتاد فيها العمل فى حقل لأحدهم ثم يجذب من شعره ويده ويقتاد ضربا طوال الطريق إلى الكتاب فيربط المعلم قدمه بالفلكه وينهال عليه بالضرب حتى تدمى قدميه وتغرق الدموع وجهه .
إلى تلك الأيام الخوالى حينما كان يزرع المصريون القطن وتجهز الفرق من الأطفال والصبية لتطهير حقول القطن من الحشرات الضارة وتشكل الفرق فيما يعرف باسم " الدودة " وكل فرقة على رأسها شاب عشرينى والفرقة تكون من عشرة إلى عشرين صبيا وفتاة وربما تزيد ، يحدد لكل فرقة زماما معينا يكون هو شغلها لليوم ، ما يقرب من ثمانية أفدنة على ما أذكر ، يطهرها الصبية فى ثمان ساعات أو يجاوزها ، تعلو الشمس وتنحنى الظهور ويصير لون الجلد أسمر ، وتحصل قروشا معدودات أجرا عن الأيام تقبضها دوريا فيما كان يعرف ب" المدة " .
إلى الجد العجوز ذو الوجه البشوش والجدة الطبية والطعام الشهى وجمع الطماطم من الحقول المجاورة لمزارع العنب وحمل الأقفاص وتفريغها فى العشة المقامة على رأس الطريق والتى فرشت بالقش وهناك يجلس الجد العجوز يعيد صف الطماطم فى الأقفاص ويجنب الفاسد منها كى لا يضر البقية .
الى الليالى المقمرة والهواء النقى ولدغات البعوض وهدير السواقى وجريان الماء وسقيا الأرض العطشى ورائحة الزرع يتلقف الماء كطفل يلتهم ثدى أمه وشقوق الأرض وشواء الذرة .

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

ما أصدق الأيام التي وارتها الذكريات أو ظننتها كذلك .... والأصدق والأروع اننا بنلاقي نفسنا جوه الأحداث في المسجد وفي الدوده حتي جمع الطماطم والليالي المقمره وهواها النقي .....سبحان من وهبك صدق الوصف وحلاوة الكلمات