الثلاثاء، 1 مارس 2022

المؤذن

 

يتخطى الجميع ، يبحث عن فرجة يجلس فيها ، يلتفت حوله ، كاد أن يتعثر بالجالسين ، يجد فرجة صغيرة ، دس نفسه فيها وجلس متكئا ، عيناه مثبتتان على الشيخ ، تنهمر الكلمات من فيه كأنما تهبه الحياة ، كل كلمة تتلقاها أذنيه وتقسط بها على قلبه فتلمع عيناه وتنفرج أساريره وينشرح صدره .

سنوات طوال يتنقل فيها بين الموالد والليالى بصحبة فرقته ، مزماره معه فى النهار يقوم بصيانته وعندما يخلو بنفسه يستمع إلى الست ثم يحاول مع نفسه أن يعزف ما سمعه من فرقتها ، يقتضى وقتا طويلا يعيد العزف إلى أن يجيده ، ينفخ فى مزماره كأنما يقاتل نمر شرس .

زفة فى عرس أحدهم أو ليلة يقضيها فى مولد سيدى ابو مسلم أو سيدى الشيخ جوده او سيدى خضر أو سيدى أبو مسافر ... ما أكثر الموالد فى بلد تعج بأولياء الله الصالحين والمشايخ ومريديهم ورفاعية وصوفية وخلواتية و ..... لن تستطيع لذلك حصرا ، مع فرقته وبصحبة ألاتهم مهمتهم الترويح عن الناس بالانشاد والذكر ، يدعوهم أكابر القوم ، كل عائلة تصنع لنفسها خيمة وتنقل إلى الخيمة كل ما تحتاجه من متاع ، أجولة من الأرز والدقيق وأقفاص من الطماطم والخضروات وشعلات ومواقد وأنابيب غاز ، أطباق وأوانى وموائد تنتشر ، الذبائح لا تكف ، وروائح الشيشة والحشيش لا تنضب ، كل عائلة تتبارى أن تظهر أنها الأغنى وأن خيمتها هى الأفضل وأنها فى الضيافة هى الأكرم ، كل عائلة تتعاقد مع منشد لإحياء ليلة من الليالى ، عادة تكون مدة المولد سبعة أيام ، أسبوعا كاملا فى ليلته الختامية تعد زفة كبيرة يتقدمها أكابر العائلة التى تدعى مسئوليتها عن خدمة مقام الشيخ وقبره ، يمتطون جيادا بيضا زاهية ويحملون رايات خضراء ويكتسون بأفضل وأزهى الثياب وكأنه سقط الوقار عليهم لتوه ، وتصنع الهوادج على الجمال وتعبء بالنسوة والأطفال ويطوف من حولهم المريدون يحملون سيوفا صدئة والبعض طوقت الثعابين عنقه وسيارتان رع نقل تحملان الفرقة الموسيقية وألاتها كى يعلو صوت الانشاد والذكر .

يقضى الوقت منسجما مع معزوفاته ، تنسحب منه روحه وتبحر فى عالم مختلف فينهمر منه العرق فكأنه بال فى ثيابه ، يتمايل الناس أمامه وتعلو الأصوات ، تسحر الألباب وتُسكر العقول ، الله ... الله .. قول كمان يا مولانا ، يرفع أحدهم ذراعه ويعلو صوته ....الله حى الله حى الله حى ... يسقط منه ثوبه من فرط انتشائه ، فيعيد ويزيد ويعزف وينشد ويتمايلون أكثر وأكثر ، يواصل إلى أن تنتهى فقرته ثم تبدأ السهرة مع منشد الليلة ، أحد مشائح وأعلام المدح ، الشيخ أحمد مجاهد ، البنا ، الشوبكى ، عبد للمعبود ، الشيخة سمية ، وأحيانا فاطمة عيد وابنتها شيماء ... وغيرهم " .

يدخل إلى الخيمة ، يلتهم الطعام وكأنه ثور جائع فيأكل إلى تنتفخ بطنه ، مواعيد الموالد وأماكنها ثابتة كل عام وتتوالى فهذا الأسبوع هنا والذى يليه هناك وهكذا ...

تعجبه فتاة فينكحها وترفض أمها أن تصحبه فتبقى عند أهلها ولا يراها إلا فى أسبوع المولد الذى ينعقد فى بلدهم أو ربما يتسلل لها خلسة من الوقت عندما يغلبه الشوق إلى حضنها فقد علمته الغنج وأرته العشق كما لم تفعل غيرها امرأة .

يتزوج بقريبة له فى قريته النائمة وسط بساتين نبتت فى الصحراء كبقة زيت فى بحر ، أنجبت له ابنة كأنها القمر وتلتها بابن اتخذه سندا وصاحبا ثم أقعدها المرض ...

يقضى الليل وحيدا تعاتبه نفسه وتلومه ولا يرتاح لمطعمه ومشربه ويفكر أن رزقه لا يطيب له ولابد أن يغير طريقه ، يسير فى الليل يبكى ويستند الى السور الطينى المحيط ببستان الباشا فى تلك المزرعة التى تتخطى المئة فدان ، يسقط فى سيره مغشيا عليه فيرى وكأنه وحيدا وسط ضباع جائعة وكلها تقترب منه وتحيطه ويصرخ ويصرخ وينادى ثم قفزت عليه فجأة فأغلق عينه واستسلم لمصيره ثم أفاق .

تزوجه زوجته بأخرى قريبتها صغيرة فى السن لعلها ترعاه وترعى أبناؤهم فتنجب له الأخرى طفلين ويعاجلها المرض فتموت .

يحدثه قريبه معلم القرأن أن هناك مسجدا بمدينة قريبة يحتاج إلى مؤدى شعائر أن كان يريد ، فيبكى ويبتسم ويسجد لله شكرا .

يحين موعد الأذان فيتقدم بخطى ثقيلة ، يغلق المذياع ويرفع السماعة إلى فمه ويضع يده على أذنه ويرفع النداء

الله أكبر الله أكبر ............ لا إله إلا الله

ويسقط مغشيا عليه .



1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

الله الله
والله لكلماتك عظيم الأثر فى إحياء كل ما هو جميل فما اجمل كلماتك وما أشجاها
ما أصدق وصفك وما أدقه وما أحلاه
فعلا ما شاء الله كمية التنوع ومهارتك فى التنقل بين الأحداث قادرة انها تمتعك بالقراءه ومعايشتها
موهوب موهوب مفيش كلام حقيقى يوصف موهبتك يا استاذ محمد