الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

لسعة برد


البرد شديد ، الظلام يسود متوترا ، الشوارع خالية ، اعمدة الإنارة يتطاير منها الشرر ، القمر خامل ، يتوارى مبتعدا ، أقطع أمتارا وكأنى أشق طريقا فى صخر صلد ، كلب يرتعش ، سيارة تمر مسرعة ، الحوانيت خلت من الرواد ، بائع فاكهة يجمع أقفاصه ويلملم العبوات والصناديق  الفارغة ، بعض اللافتات مازالت مضاءة ، مياه سقيا الحديقة انتهزت غفلة المسئول عنها فتخطت إلى الطريق المقابل ، ورشة الكاوتش أغلقت أبوابها وصانع الرخام يصف الأجزاء المتناثرة حول طاولته ، المخبز يخمد نيرانه ، كوافير بهجة  ، شعر وطلاء شفاه ، حلاق يعلو صوت أدواته ، بائع الحلوى وحيدا كما عهدته دوما ومتجر الكتب كسته خيوط العنكبوت ، المقهى مازال به البعض ، زهر النرد صوته واضح ، رائحة النرجيلة ، بخار يعلو من براد الشاى ، أم كلثوم تغنى ......هذه ليلتى .
كنا نجتمع ، نشعل قطع الأخشاب والحطب والأغصان الجافة والأوراق ، نملأ وعاءا بالشاى ، نشكل دائرة بالقرب من أعمدة النار نكسر بها لسعات البرد ، نطمئن بعضنا ببعضنا ، نوزع أكواب الشاى نرشفها على مهل ، ماكينة المياه صوتها يشق صمت الليل منفردا ، المياه تغيب كثيرا هذه الأيام ولا تأتى إلا فى اوقات متأخرة من الليل وبكميات لا تكفى الجميع ، ينتظر كلا منا ليال طويلة حتى يحين دوره فيروى عطش أرضه ، قسمنا أنفسنا مجموعات وكل مجموعة لها أوقات محددة ثم التى تليها وهكذا حتى تسقى كل الأراضى ، البعض طباعه غليظة وقاسية كقسوة الصخر والبعض طيب وهادئ كرائحة الطمى ، كنت صغيرا ، أخشى الظلام وعواء الكلاب ورؤوس الشياطين وسارقى البشر، كنت أحاول تناسى ذلك بالبقاء وسط المجموعة دوما وأشد الأوقات صعوبة هى تلك التى أضطر فيها للنزول إلى الأرض للاطمئنان على جريان المياه فى كل جوانبها وإبعاد ما يعيق جريان المياه وتمهيد الطريق لها فى كل نواحى الأرض ، حكايا الفلاحين ممتعة ، الشقوق التى فى أيديهم وأرجلهم مثل شقوق الأرض العطشانة وهكذا حياتهم ارتبطت بها فاكتسبوا منها كل شئ سماتهم وألوانهم وهيئاتهم ، جدى ...... وابتسامته وصوت محمد رشدى .....أدهم الشرقاوى .


0 رأيك يهمنى: