الاثنين، 26 مايو 2014

الثالثة



صبى صغير بثياب متواضعة تحمل ملامحه البراءة ، يحب من حوله الحديث معه ، أخلاقه تجبرهم على احترامه وكذا تصرفاته وأفعاله ، يحاول العمل فى كل ما يستطيع من أجل توفير النفقات اللازمة لتعليمه وليرفع من على كاهل أبويه شيئا من المشقة .
فى أغسطس من كل عام يقيم أهل القرية مولدا لصاحب قبر يقولون أنه من العارفين بالله ، يقولون أنه قدم الى تلك البلدة من العراق طائرا وكثير من الحكايا والروايات التى تشتهر عن أمثال اصحاب تلك الأضرحة وكأنهم أجتمعوا على خرق قوانين الطبيعة ، تشد الرحال الى قبره من أهالى القرى والأماكن القريبة والبعيدة أيضا ، يطوفون حول قبره ، يتمسحون به ، يبكون ، يصرخون ، يسألونه حاجتهم وكأنه ملك القدرة على النفع والضر ، يتلفظون بكلمات كثيرة بعضها مفهوم واكثرها بخلاف ذلك ، يضعون النقود فى صناديق النذور ويقدمون القرابين .
باعة يفترشون الشوارع والطرقات فى الأماكن المحيطة بالضريح والمسجد ، رجال ونساء وأطفال تعج بهم الشوارع ، خيم وسرادقات كثيرة قد تم اعدادها وتجهيزها لقضاء أسبوع المولد ، مجهزة للاعاشة الكاملة يقضون فيها كل اوقاتهم أكثر من يقيمون فيها من خارج البلدة ، يعدون الولائم والذبائح كل يوم ، شراب وطعام مختلف نوعه ومذاقه ، المكيفات لا تدع سوقا كهذا منصوبا إلا وتدسه أنفها فيه ، كثير من التحرش والبلطجة ، مراجيح تصعد وتهبط واخرى تدور ، مراكب وسيارات وجياد ، مناضد صغيرة يلعبون عليها الميسر .
يأتى المساء فتعلو الأضواء وترتفع أبواق الميكروفونات العالية ويزداد الزحام ، يفرغ المصلين من صلاة العشاء فيصطفون أمام المسجد الملحق به الضريح فى صفوف متقابله يميلون برؤوسهم يمنة ويسرة ومنشد فى الأمام يعلو بكلمات المديح والاطراء تبدأ بالحمد والثناء ثم الصلاة على خير الأنام وتنتقل الى مدح ونثر مآثر العارفين بالله وبالطبع يقودهم صاحب الضريح ، تتسارع الخطوات والحركات فتظن المصطفين قد غادرتهم عقولهم وألبابهم تكاد لا تعرف أحدهم من فرط انفعاله وإلتباسه ، يقولون أن الحب والعشق هو ما يفعل بهم ذلك .
تنقضى الفترة المخصصة للذكر وينتقل لفقرة السهرة وتكون كل يوم مخصصة لاحد المداحين أو القاصين ذكرا أو أنثى ، يعد مسرح خصيصا لذلك يسعه ويسع فرقته ، ينشد ويقص فيما حفظ وبعض الأحيان يرتجل حتى اقتراب طلوع الفجر والناس جلوس أمامه كأن على رؤوسهم الطير وعندما يزداد عليهم الهيام وتسكرهم الكلمات تعلو اصواتهم بالاطراء فى المنشد أو المؤدى .
يستمر الحال هكذا حتى تأتى الليلة الكبيرة وفى يومها يتم اعداد زفة كبيرة تطوف القرية كاملة والفرق الموسيقية والمنشدين فى سيارات مفتوحة يتقدمون الزفة وفى أوسط الزفة يأتى "خُدام الشيخ " ممتطين جيادا وقد اعد له جيدا ويرتدون ثيابا خضرا وتحيطهم زمرة من الناس .
شباب ورجال بأفعال من السحر يقومون بوضع الثعابين الطوال الضخام حول اعناقهم ويسيرون بها وبعضهم يضع السيف فى عنقه ويخرجه من الجهة الأخرى واحدهم يضع سهما نافذا من حلقومه واحدهم خرق انفه ووضع بها الحلق وكثيرون يحملون السيوف يطوفون بها وهم يرددون خلف المنشد ، وكل طريقة لها شعارها واذكارها وأوصافها .
كان الصبى فى هذه الفترة يقتنص الفرصة ويجعل من نفسه احد الباعة الذين يفترشون الطرقات ليوفر لنفسه بعضا من النقود التى يحتاجها فيذهب الى البقال ويأخذ منه كمية من الترمس والنشا والسكر على أن يعطيه ثمنها فى اليوم التالى وكل يوم هكذا خلال فترة المولد ، يقوم بتجهيز الترمس واعداد " المهلبيا " بمساعدة أهله وعند اقتراب المساء يأخذ ما اعد ويبقى فى المولد إلى ان ينتهى من بيع كل ما أعد ويعود الى أهله فرحا بما منحه الله من رزق وعطاء .

0 رأيك يهمنى: