السبت، 14 مارس 2020

أمى .... والمطر


الأمطار تعاود الكرة ، أوقات طويلة ، أضاء البرق السماء عدة مرات وزمجر الرعد ، الرباح تهب تدفع أمامها السحب ، السحب تنوء من ثقل حملها ، ثم تدفق المطر  مدرارا ، منذ مطلع الصبح والمطر كثيف يهدأ دقائق وكأن السماء تلتقط أنفاسها ثم تعاود الكرة مجددا ، مياه الأمطار تراكمت  فصنعت بحيرات صغيرة فى كل منطقة خالية ، الرمال الصفراء اختفت ، غرقت ، ربما غدا نرى الطحالب تشكلت فيها وتنبت فى تلك الأماكن الحشائش والأشجار ، الطيور اختفت من السماء ، الشوارع خلت من المارة ، المحال أغلقت ، الكهرباء تارة تنقطع وتارة تعود ، الأطفال يخافون الظلام ، المياه غابت من صنابير البيوت وحضرت بكثافة فوقها وأمامها وفى كل مكان حولها ، الأشجار ترتعد والأطفال يفزعهم صوت السماء ، يروحون ويجيئون يسألون ما هذا الصوت ؟ ، القرى غرقت والبيوت الطينية كادت أن تذوب ، كم مئذنة سقطت وكم جدران تهدم بخلاف أعمدة الانارة التى تحطمت والأشجار التى ضعفت فتكسر جذعها ، المياه تكدست فى الطرق مكونة مجموعة كبيرة من البرك ، السيارات تعطلت ، حتى شبكات الاتصالات والانترنت عُطلت ، أسمع صوت المؤذن ينادى للصلاة ، المصلون يبتهلون ، يسألون الله العفو والعافية ، اللهم صيبا نافعا ، اللهم حوالينا لا علينا ، اللهم إنا نسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت بها ، خبراء الأرصاد يقولون أن الأمر مازال فى مهده والساعات الآتية ستكون مغايرة وستكون موجة عدم الاستقرار فى الأجواء أشد ولابد من الاحتياط والحذر ، كل المصالح تعطلت ، كل الخطط تغيرت ، كل المواعيد أُلغيت ، سبحان من بيده أمر كل شئ  ، "  وما نرسل بالأيات إلا تخويفا " .
كنا عندما يشتد المطر نصنع أمام باب البيت حاجزا من الحجارة والتراب لنمنع تدفق المياه إلى داخل البيت لانخفاض البيت عن مستوى الحارة ، تنزح أمى وإخوتى الماء الذى يتسرب وتنظف الأرض جيدا ونحضر بعضا من القش وأعواد النباتات الجافة كى نضعها فوق الأماكن التى تسرب إليها الماء فأصبحت طينية كى نتمكن من السير عليها ، نضع بعض الأنية عند السلم ونغطى بالمشمع الفرن ونضع فوقه أنية أخرى لتتجمع فيها الأمطار وكلما امتلأت أفرغناها وأعدناها مجددا ، كان البيت طابق أرضى تعلوه غرفة واحدة فى جانبه الغربى ، كانت مياه الأمطار تتسرب عبر السقف المكون من خشب وغاب وقش وحطب ومشمع فتنزل إلى الغرف فتغرق كل ما تطاله ، كنا نبحث عن المكان الذى ينزل منه المطر وندعمه قدر استطاعتنا بكل ما يمكن أن يسد تسرب المطر .
نجمع الأخشاب ونقطعها إلى قطع صغيرة ونجمع أعواد الحطب ونشعلها ونتجمع حولها ، دوما كانت الكهرباء تنقطع بمجرد أن يتبدل لون السماء ويستمر انقطاعها لساعات تطول وتطول ، أمى تزود اللمبات بالجاز اللازم لإشعالها وتضع فى كل غرفة لمبة وفى منتصف البيت تضع لمبتان ، أولاهما فى زاوية صغيرة شكلت فى الجدار والأخرى فوق زير نملؤه بالمياه اللازمة لحاجة البيت .
يخرج من اللمبات دخان أسود ويعكر الجاز رائحة الغرفة فنفتح الشباك كى يدخل الهواء فيهون الأمر ، تحمُل لسعة البرد أهون بكثير من تحمُل أضرار الدخان ،والبيوت التى جدرانها من طين أشد دفئا من ذات الجدران الأسمنتية ، نسخن الخبز على " المنقد " فوق الأخشاب التى هدأت نيرانها ونضع فى جانب وعاء نملؤه بالماء يعلوه الشاى ، نتناول الطعام والشراب وبعد أن ننتهى نحمد الله وأقوم إلى كتبى ، أتم واجباتى وأذاكر دروسى ، أجلس بالقرب من اللمبة فيسقط ضوءها على فيتشكل ظلا بهيئة جسد ضخم ، أغير مكانى كى يغيب الظل وتضاء الغرفة جيدا ،  وعندما أنتهى من مذاكرة دروسى أو يغلبنى النعاس أقوم إلى اللمبة فأخفض إضائتها قليلا من مفتاح فى جانبها على شكل دائرة صغيرة مصنوع من حديد أو صاج موصول بشريط الاشتعال ، تديره للأسفل فيهبط الشريط فتقل الإضاءة والعكس ، وعندما يقل الجاز الموجود باللمبة أو يتآكل شريط الاشتعال تقل إضائتها إلى أن تخفت وتنطفئ كليا ، كانت أمى تحرص دائما على أن تبقى كل اللمبات مزودة بالجاز وتحتفظ بمجموعة من أشرطة الإشتعال تحسبا لأى انقطاع فى الكهرباء فانقطاع الكهرباء فى القرى ليس وقت المطر فحسب بل اعتدنا ذلك أيام وليالى الأعياد وأوقات المباريات الهامة وأوقات الصيف الحارة وأوقات الامتحانات وكل أربعاء وغيرها  ... ، أبى وأمى يغطيان سطح البيت بحطب القطن وأعواد الذرة ونكدس فوق منها حزم القش ، يجعلون الأطراف ممتدة خارج سطح البيت كى تظلل على الجدار وتقيه من تساقط الأمطار فوقه ونعد كل ذلك حسب موسم الزرع تحسبا لأوقات الشتاء ، أمى تتابع كل ذلك وتخبر أبى أن البيت يحتاج كذا وكذا وتطلب من إخوتى البنات تنظيف زجاجات اللمبات جيدا كى تعطى إنارة جيدة ، لمبات الجاز مكونة من زجاجة غليظة داخلها شريط اشتعال موصول بمفتاح جانبى مصنوع من صاج أو حديد خفيف وتخرج من فوهة الزجاجة عبر قطعة أخرى صنعت من الصاج ، جهز بها منفذا يخرج منه شريط الاشتعال ولحفظ الإنارة يوضع فوق الفوهة زجاجة مشكلة بشكل دائرى يبدأ كبيرا ثم يصغر شيئا فشيئا إلى فوهته ، كانت أمى تعلم إخوتى كيفية تنظيف هذه الزجاجات فتضع إحداهن الخرقة وتلفها حول عود طويل وتنظف به هذه الزجاجة من الداخل جيدا فتزيل ما علاها من سمرة بسبب الدخان الناتج عن الاشتعال .
الآن عندما أرى الشوارع تغرق دون أن تجهز البالوعات والمجارى والمصارف تحسبا لذلك ، وتتسرب المياه إلى البيوت رغم حداثتها وهياكلها وجدرانها الأسمنتية القوية ، وتنقطع الكهرباء والمياه ويتعطل كل شئ ، أتذكر أمى وهى تحسب لكل شئ حسابه كى لا تنقطع الكهرباء ولا نجد لمبة ، أو تنقطع المياه ولا نجد مياها مخزنة لشئون حياتنا ، أو تتساقط الأمطار ويشتد البرد ولا نجد أخشابا أو أحطابا للتدفئة ، أو تتساقط المياه على الجدران وتتسرب إلى البيت ولا نجد ما يمنعها ، تُجهز كل شئ كى لا نتضرر من مطر الشتاء أو يمسنا سوء فأتمنى أن لو كل الحكومات أمى ....

0 رأيك يهمنى: