الأربعاء، 8 يناير 2025

التاشيرة " 12 "

 

بحثت عن مرافقى وعمته فلم أجدهم وكيف لى أن أجدهم فى وسط كل هذه الأفواج ، أخذت أسير بين الجموع التى أقبلت من كل حدب وصوب تلبى أذان الحج ثم ركنت خلف حافلة ووضعت حقيبتى وجلست ، تناولت بسكوتا وتبعته بعلبة من العصير ، أرتحت بعض الوقت ثم قمت مجددا لأبحث عن أمى .

سألت ضابطا كيف أصل إلى مسجد نمرة فأخبرنى ، فعدت إلى الجهة الأخرى كما قال وأخذت أبحث عن طريق الوصول إلى المسجد حتى وصلت ، كان الجميع يستعد لغروب شمس يوم عرفة ، الأعمدة تقذف بالمياه فوق رؤوس الملبين فترطب شيئا من حرارة الشمس التى يبدو أنها استعدت بكل قسوتها لهذا اليوم وكل فى حاله مشغول .

أسير ناحية المسجد ، أمامه وجدت تجمعا من الناس يبكون حول جسد مغطى فانخلع قلبى فزعا ، أخذت أقلب فى الوجوه بفزع ودوع عينى تسبقنى ، أبحث فى كل وجه عسى أن أجد أحدا أعرفه ، ثم سمعت كلاما أنها كانت تحدث ابنها على الهاتف للتو ، اقتربت من الجسد المغطى وسألت صاحباتها فعرفت هويتها ، خلفتهم ورائى ودخلت إلى صحن المسجد .

أخذت أدور على الصفوف بالمسجد صفا صفا ، أذهب هنا وهناك ، حتى وقفت على رؤوس النيام ، أحاول أن ألتقط بعينى أحدا من بلدتنا أسأله عنهم ، ظللت أبحث وأبحث حتى وصلت إلى الجهة الأخرى من المسجد ووجدت الناس يتجمعون أمام المسجد فى تجمع ضخم ، تسللت من بينهم بصعوبة حتى وقفت فى مكان مرتفع فى المؤخرة أطالع الوجوه عسى أن تلتقى الأعين .

حلقى غلبنى وجف كعادته معى فى هذه الرحلة فلم أقوى حتى على النطق ، بالإشارة طلبت ماء من احدى السيدات ففزعت من عدم قدرتى على النطق وأعطتنى الزجاجة وعندما هممت لأعيدها لها ورفضت وطلبت منى الاحتفاظ بها ، بدأ الجميع فى مغادرة عرفات فجلست أرتاح قليلا فقد غلبنى الإعياء .

 جاءنى اتصال من صديق لى كنا قد رتبنا للاقامة معا ولكنه سبقنى وسافر قبلى بفترة وعانى كثيرا أيضا فى محاولات التخفى من الشرطة والانتقال من مكان إلى مكان حتى يسر الله له الأمر ، أخبرنى أنه أمام مسجد نمرة واتفقنا أن ينتظرنى فى المكان الذى يقف فيه وأنا سأحاول الوصول إليه وكانت معاناة شديدة فى تخطى الصفوف والسير بين الجموع المتجهة إلى ناحية أخرى وبعد سعى وبحث وصلت إليه ، شعرت براحة غريبة وتعانقنا كثيرا حتى بكت عينى ، قال لى أجلس ، أعطانى تفاحة وماء وعصير ، سألته عن أصحابنا الأخرين فقال أننا سنلتقى بهم بعد قليل  .

السبت، 4 يناير 2025

التأشيرة " 11 "

 

على جانب وقفنا وخلعنا ملابسنا واستبدلناها بملابس الاحرام وانطلقنا ندفع الكرسى المتحرك مجددا رافعين أصواتنا بالتلبية ، وجدنا الكثير يوزعون المياه على أفواج الحجيج والبعض كان يوزع فاكهة والبعض كان يوزع وجبات والبعض يوزع مثلجات .

الطريق طويل من العزيزية الى عرفات ، الشمس قاسية والرصيف شديد السخونة ، العرق يكوى جباهنا ويصب الملح فى العيون ، لبيك اللهم لبيك ، القلب من فرط فرحه لا يكاد يصدق ، الحافلات تمر مسرعة تحمل أفواج الحجيج والكثير منها تتقدمها سيارات الشرطة ، الشرطة أعدت الكثير من الأكمنة على طول الطريق لكنهم رغم أنهم كانوا يحاولون ردنا كثيرا إلا انهم فى النهاية كانوا يتركوننا نمر ، مرات ومرات يحاولون إيقافنا ونحن نسألهم بالله أن يتركوننا نتم مناسكنا فلا يدرى أحدنا إن كان سيقدر له العمروالمال والوقت والصحة والجهد حتى يدرك الحج مرة أخرى أم لا ، يتشاغلون عنا فنمر مسرعين ، نحاول التودد فنسألهم عن المسافة المتبقية حتى نبلغ عرفة فيقولون أمامكم ، مكبرات الصوت تحذر من الاقتراب ، نطلب منهم بعض الماء ، ارجعوا من حيث جئتم فلن نترك احدا يمر ، تسرع خلفنا امرأة فأبطئ حتى تلحق بنا ، أعطيها زجاجة ماء وتواصل السير معنا ، لسانها لا يكف عن الدعاء ، لبيك لا شريك لك لبيك ، جئناك بضعفنا وانكسارنا ، جئناك وقد أثقلتنا الذنوب وأهلكتنا الخطايا ، جئناك نطمع فى كرمك ورحمتك وعفوك ، جئناك فلا رب لنا سواك ولا ملجأ لنا إلاك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، حبيبى يا رسول الله كنت تحيا هنا ، كنت تمشى هنا ، كانت قدماك الشريفتان تخطوان هنا ، هنا ارتفع بصرك إلى السماء ومن هنا صعدت دعواتك ، أبونا أدم وأمنا حواء وخطوات حتى اللقاء ، ما أطيب أرضك يا مكه وما أبهى سماؤك ، وما أعطر ريحك ، لولا غلظة فى أخلاق قاطنيك .

أشعر ببعض الإعياء ، أطلب من مرافقى أن يدفع الكرسى المتحرك بدلا عنى ، أجفف عرقى وأشرب بعض الماء ، أسترجع منه الكرسى ثانية ، نواصل السير ، يظهر كوبرى على اليسار وفى الأفق يمينا يظهر مسجد ، نسأل على المسافة المتبقية فتكون الاجابة واصلوا السير أوشكتم على الوصول ، ربنا يتقبل يا حاج ، بعض افراد تأمين طرق المشاعر يلقون المياه على أفواج الحجيج لترطيب الحرارة بعض الشئ ، نواصل التضرع والتلبية ، تمر أتوبيسات فاخرة تسبقها سيارات الشرطة للتأمين ، نفسحهم لهم الطريق ، يطمئننى مرافقى أنهم لن يمنعونا وسيتركوننا نمر إلى عرفات ، أوشكنا على الوصول ، رياح شديدة تفاجئنا ، حملت معها أتربة منعت الرؤية تماما ، جلسنا على الأرصفة ووضعنا أيدينا فوق رؤوسنا وأغلقنا عيوننا بعض الدقائق حتى انتهت تلك الزوبعة ثم واصلنا السير ، وجدنا على اليمين جثة مغطاة فوقفنا فأشار إلينا الشرطى أن تحركوا ، ثم وجدنا جثة أخرى يحيطها البعض .

عبرنا منطقة رملية وتخطيناها الى الناحية الأخرى والأن نحن على بوابات عرفات ، أسوار شائكة أمامها مولدات ضخمة ، ساعدت شيخا على النهوض ، واصلنا السير ثم إلتفتنا يسارا وعبرنا البوابات وإلتفتنا نبحث عن لافتة بداية عرفات حتى نتخطاها لنكون دخلنا منطقة المشاعر فعليا فوجدناها بعد مسافة صغيرة .

لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللّهم إنّي أسألك إيماناً دائماً، وأسألك علماً نافعاً، وأسألك يقيناً صادقاً، وأسألك ديناً قيّماً، وأسألك العافية من كلّ بَليّة، وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشكر على العافية، وأسألك الغنى عن الناس.

سرنا إلى داخل عرفات بين الحافلات على الجانبين وأفواج الحجاج ، على جانب وقف مرافقى وعمته للاستراحة قليلا وبحثت عن منطقة جانبية لأصلى فيها العصر ، هاتفت أسرتى وأخبرتهم أنى دخلت الى مشعر عرفات بفضل الله وكرمه وسألتهم عن أى معلومات يعرفونها عن مكان تواجد والدتى ورفقائها فقالوا أن أخر معلومة عندهم أنهم يجلسون فى مسجد نمرة .

الأربعاء، 1 يناير 2025

التأشيرة " 10 "

 

صعدت إلى غرفتى مجددا وزلفت إلى الحمام ونزعت عنى ثيابى ، فتحت الماء على جسدى فينزل متعجلا يصهركل تلك الأوجاع والمشاق التى عشتها فى تلك الليالى ، صليت الصلوات التى فاتتنى ، فتحت التلفاز فإذا بالحجيج تتدفق أفواجهم ، راسلت أسرتى ومقربين منى لأطمئنهم على حالى ، تناولت شيئا من الطعام وعبوة من العصير ، توجهت إلى الله متضرعا لعله يقبلنى وييسر لى إدراك عرفه ، غلبنى النوم ثم أفقت بعد نحو ساعتين على صوت الهاتف ، يخبرنى صديق الذى قال أنه سيبحث عن احد معارفه يبحث له عن سبيل للدخول واخبرنى أنه بالفعل دخل مكه الأن وهو فى طريقه إلى عرفات فى أفواج الحجيج المتوجهة نحو المشاعر ، أخبرنى أنه حاول التواصل معى لكنه اتصالاته لم تفلح ، أعطانى رقم السائق الذى اصطحبه فاتصلت عليه فلم يجب ، انتظرت حتى صليت الفجر ثم اتصلت عليه ثانية فلم يجب ، نزلت وأخذت سيارة اجرة وتوجهت إلى تلك المنطقة التى ركبنا منها سابقا ، بحثت عن أى سيارة تقلنى إلى مكة فلم أجد ، عدت مجددا إلى الفندق وطلبت المفتاح من موظف الاستقبال ، صعدت إلى الغرفة واستلقيت مجددا ، ظللت أكرر الاتصال على رقم السائق حتى أجابنى فأخبرته بمكانى واتفقت معه فكل سيصل فى غضون دقائق ، نزلت إلى الأسفل وانتظرته فى مقدمة الفندق وكان هناك الكثير من الأشخاص يبحثون عن سيارة تقلهم إلى مكة ، اتفق مع بعض الأشخاص فأتم حمولة السيارة وأعطى رقمه للبعض كى يتواصل معه فيعود إليه ليقله أو يرسل إليه سيارة أخرى .

كان السائق سودانى يرتدى جلبابا أبيضا ونظارة سوداء ، استدار بنا وانطلق فى طريقه ، لم يكف هاتفه عن المكالمات أكثر الوقت الذى قضيناه فى الطريق ، يرشد أحدهم إلى طريق بعيد عن الأكمنة أو يرتب مواعيد أو يعقد اتفاقات ، دخل بنا يمينا إلى محطة للتزود بالوقود ونزل من السيارة وصفها أمام محل تجارى ، انتظرنا فى تلك المحطة ساعة أو يزيد وهو يخرج من هنا لهناك ولا ينزل سماعة التليفون عن أذنه ، لاحقا قدم إليه أحد الأشخاص ، تحدثا سويا بعض الوقت ثم عاد إلى السيارة ، استدار بنا إلى منطقة التنظيف فى محطة الوقود و طلب من العمال أن يغرقوا السيارة بالمنظف ويتبعوه بالماء ووصاهم بعدم تجفيف السيارة ، تسرب بعض الماء إلى داخل السيارة فبدى الضيق على بعض الركاب .

تحرك بنا مغادرا المحطة وتبعتنا السيارة الأخرى التى لحقتنا إلى المحطة السابقة وواصل السائق الاتصالات التى يجريها يستطلع من خلالها الأكمنة على الطريق والطرق الجانبيه التى قد نضطر إلى اللجوء إليها ، واصل السير ثم أتاه اتصالا فأنحدر فجأة ناحية اليمين حتى وصل بنا إلى مسجد فأنزلنا عنده وطلب منا الدخول والانتظار فى المسجد حتى يعود إلينا مجددا .

دخلنا إلى المسجد وصلينا الظهر ، ارتبت عندما وجدت أحدهم يلتفت ويمسك بهاتفه فتذكرت خادم المسجد الذى أبلغ عنا سابقا فحملت حذائى وغادرت المسجد وأوصيت رفاقى أن يفعلوا المثل وعندما رجع السائق غضب من ذلك لأنه خشى أن ترانا سيارات الشرطة التى تمر بالقرب .

طلب من المجموعة التى كانت بالسيارات الأخرى البقاء فى المسجد وركبنا معه مجددا وانطلق بنا فى طريق رملى وسط مجموعة من المساحات المحاطة بسياج من أغصان متشابكة وبعضها مسورة ، وطوال الطريق لم يفارقه الهاتف وكانت سرعته تتغير حسب ما يقال له من الذى يحدثه عبر الهاتف ، حتى أنه تعجل فخسر مرأة السيارة عندما اصطدم بسيارة نقل زاحمته على المكان المخصص للتخطى إلى الطريق الأخر ثم زلف فجأة يمينا سالكا الطريق الرئيسى وبعد مسافة انحدر بنا ناحية اليمين إلى منطقة جبلية بها الكثير من الحشائش والصخور والأشجار ، وفى منطقة آمنة أوقف السيارة وطلب منا النزول واصطحبنا سيرا على الأقدام فى هذه المنطقة حتى وصل بنا إلى جهة أخرى وهناك طلب منا الجلوس وعدم رفع رؤوسنا أو الخروج نهائيا حتى يعود إلينا بسيارته وأتفقنا على أسلوب محدد لتنبيه السيارة كى نعرف أنه هو فنخرج له .

مر علينا العديد من الأشخاص ونحن جالسين ننتظر ، وجدنا أشخاص ينادون مكه ، لمن يبحثون عن وسيلة للوصول ، بعد قليل أقبل السائق فأطلق تنبيه السيارة بالطريقة التى اتفقنا عليها فخرجنا إليه ، ركبنا مجددا السيارة وانطلق بنا مسرعا وها نحن نسير فى طرقات مكة وشوارعها ، طلب منا سداد المبلغ الذى اتفقنا عليه فأخبرناه أن اتفاقنا أن يصل بنا الى الطريق المتجه إلى عرفات فأخبرنا أنه سيرتب لنا ذلك مع سائق أخر ، بالفعل وصلنا وطلب منا الانتظار حتى يرتب لنا سيارة أخرى تنقلنا إلى حيث تبدأ رحلتنا سيرا على الأقدام ، اتفق مع سائق أخر وانتقلنا إلى السيارة الأخرى ، طلبت من السائق أن يقف عند اى محل نستطيع منه شراء إحرامات وتوقفنا عند أكثر من مكان حتى استطعنا شراء الاحرامات واشتريت حذاء .

عدنا مجددا إلى السيارة التى أقلتنا حتى وصلت بنا إلى مطلع الطريق الموصل إلى عرفات فقال السائق أنه لن يستطيع أن يخطو أى خطوة أخرى حتى لا يتم القبض عليه ، شكرناه ونزلنا نحمل حقائبنا وأيات الفرح تشرق على وجوههنا فقد اقترب حلمنا أن يتحقق وكتب لدعواتنا أن تستجاب .

كان بصحبتى شاب يصحب عمته ويرافقنا شيخ ستينى ظننته قريب لهم ولم أعرف أنه ليس معهم إلا عندما نزلنا من السيارة ووجدته سلك الطريق وحده دون أن ينتظر أحد ، كان الشاب قد أحضر معه كرسى متحرك ليجلس عمته عليه ويدفعه بها طوال الطريق فأرشدنى الله إلى البقاء برفقتهم أساعده ونتبدل سويا فى دفع الكرسى فالمسافة طويلة وربما يكون ذلك العمل هو سبب التيسير لنا فى بلوغ عرفات .

الاثنين، 30 ديسمبر 2024

التأشيرة " 9 "

 

أسرع السائق إلى شوارع جانبيه فى دورانات وتفرعات كثيرة ووجد عمارة مفتوحة فهرع إلى داخلها إلا أنه خشي أن تدركنا الشرطة هنا وتغلق علينا فاستدار عائدا من الجانب الأخر وفر مسرعا إلى منطقة بنايات حديثة وأمام مبنى لم ينتهى من انشاؤاته بعد توقف وقال انزلوا هنا بسرعة واختبئوا داخل هذا المبنى حتى أجد مكانا أخفى فيه السيارة ثم أعود لكم ، زلفنا إلى داخل البناية واختبأنا فى مؤخرتها لبعض الوقت .

عاد السائق لتحصيل أجرته فطلبنا منه أن يدخلنا مكه كما اتفقنا معه من البداية لا أن يتركنا فى منطقة نائية بعيدة لا نعلم ان كنا سنخرج منها أم لا والحديث كان شد وجذب إلى أن انتهى ، بدأنا نفكر فيما سنصنع وكانت الجمعة قد اقتربت ، خرجنا جماعات نحاول أن نتلصص على الشوارع والطرقات الجانبية كى نطمئن على عدم وجود سيارات شرطة قريبة ، وجدنا مسجدا قريبا انتظرنا حتى فتح أبوابه ثم زلفنا إلى داخله ، توضأنا وصلينا وجلسنا فى مصلى المسجد نلتقط أنفاسنا ونرتاح قليلا ، جاء إمام المسجد فتحدث معنا كثيرا ثم صعد المنبر وخطب الجمعه وشملنا فى دعائه ، قال خادم المسجد أنه سيترك لنا دورات المياه مفتوحة كى نتمكن من استخدامها إن احتجناها وأنه سيأتى قبل العصر حتى يفتح لنا أبواب المسجد مجددا ، بعد أن فرغنا من الصلاة بحثت أنا ومرافقى فى الشوارع القريبة عن أى محال قريبة نشترى منها أى شئ نأكله ، اشترينا حاجات بسيطة وعدنا إلى المسجد ووفى الخادم بوعده فأقبل قبل العصر بساعة تقريبا ، دخلنا إلى مصلى المسجد وجلسنا ، منا من غلبه النوم ومنا من يقرأ القرأن ، أذن العصر وأقيمت الصلاة فدخلنا فى الصلاة وعندما فرغنا إلتفت خلفى فإذا بسيارة شرطة تقف أمام باب المسجد مباشرة والضابط ينادى علينا واحدا واحدا وكأنه يعرفنا ويعرف عددنا حتى إن واحدا منا لا أعلم كيف تسلل وغادر تاركا خلفه حقائبه فأمسك الضابط بشخص غيره بدلا منه كان من نصيبه أنه مثلنا ودخل الى المسجد للصلاة عندما ادركته بينما يمر بالقرب .

تحدثنا مع الضابط كثيرا وعلمنا منه أن خادم المسجد هو من أبلغ عن وجودنا بالمسجد ورتب معهم كيفية الإمساك بنا ، من جديد وضعنا فى صندوق سيارة الشرطة والتى انتقلت بنا إلى مكان تجمعت فيه مجموعة من الحافلات يضعون فيها كل من تم الإمساك به .

امتلأت كل الحافلات ثم أعطيت لها الأوامر بالتحرك ، اليوم الجمعه الثامن من ذى الحجة وغدا السبت وقفة عرفات والوقت يفرغ منا ولم نبلغ مطلبنا وكلما أوشكنا أن نصل ألقى القبض علينا وأعدنا إلى نقطة البداية .

مرت الحافلات بأماكن المناسك ، بتجهيزات قوافل الحجيج ، بالمخيمات ، لافتات ارشادية لأماكن المناسك ، لافتات تشير الى عرفات ، لافتة تشير الى الطائف ،  الفؤاد يهفو والقلب تعلو دقاته والشوق إلى إدراك الملبين يذرف منا الدموع ، يارب بيدك وحدك الأمر ، إليك سعينا وإليك رحيلنا وإليك تصعد دعواتنا ، لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك .

هناك فى تجمع كبير لدائرة الشرطة ، تجمعت كل الحافلات واصطفت ، أنزلوا من الحافلة كل من يحمل معه إحراما وكل من لا يوجد معه جواز سفر ، ثم صعد ضابط إلى الحافلة ويحمل فى يده جهاز قال أنه سيجرى لنا بصمة تعريفية لن تضرنا بأى شئ ولا يترتب عليها بالنسبة لنا أى مخالفات اما أولئك الذين وجدوا معهم إحرامات وهم الذين أنزلوهم  فستكون بصمتهم مختلفة وسيترتب عليها غرامات مالية ومنع من دخول المملكة لعدة سنوات .

مجددا نعود إلى الطريق ، تتحرك بنا الحافلة مغادرة مكة متوجهة نحو جدة ، وكالليالى السابقة انتصف الليل ولازلنا فى طريقنا نحو جدة ، تصلنا الأخبار أن السلطات السعودية قد منحت الشرطة الاذن بفتح الأبواب أمام كل من فى مكة ليتم مناسك الحج وبدأت الفيديوهات تتداول لخروج الحجيج سواء من يحمل تاشيرة حج او لا يحمل والكل خرج قاصدا عرفات ، يارب أنت اكرم من أن تردنا فارغى الأيدى .

كالعادة يتم إنزالنا فى منطقة خالية ، قال لى صاحبى أنه سيتواصل مع أحد معارفه يدبر له وسيلة للدخول وأخبرته أننى فى حاجة للراحة ، سألت عن أحد الفنادق سمعت اسمه ممن كانوا معى فى الحافلة ، ركبت تاكسى إلى الفندق .

دخلت إلى الفندق حجزت غرفة لليلة واحدة ودفعت قيمتها وأخذت المفتاح وصعدت إليها وما إن دخلت حتى ألقيت بنفسى دفعة واحدة على السرير ، دقائق إلتقطت فيها أنفاسى ثم دخلت إلى الحمام فغسلت وجهى ثم وضعت هاتفى على الشاحن ثم نزلت مجددا ، سألت موظف الاستقبال عن سوق تجارى لاشترى منه بعض الأغراض فأشار إلى مبنى مجاور على اليمين ، توجهت إلى المبنى المشار إليه واشتريت منه حقيبة كتف وفوطة وجلبابا وبيجامة من الطابق العلوى ثم نزلت إلى الأسفل فاشتريت بعض المعلبات ثم عدت إلى الفندق مجددا .

الأحد، 29 ديسمبر 2024

التأشيرة " 8 "

 

هناك وجدنا أعدادا كثيرة يفترشون كل مكان تقريبا والكثير منهم يتفاوض مع أصحاب السيارات على أن يقلهم إلى مكة ، أجرى السائق عدة اتصالات ثم نزل من السيارة وذهب إلى بعض الشباب وتفاوض معهم ثم قاد بنا وانطلقنا خلف الشاب إلى منطقة جانبية وهناك اتفق مع هذا الشاب أن يقلنا إلى مكة واتفق معه على المقابل ، هاتف الشاب شخص أخر فقدم إلينا بسيارته فركبناها وانطلق بنا عبر بعض الطرق الرملية وحاول تجنب الأكمنة والنقط المرورية من خلال السرعة احيانا والتوغل إلى مناطق رملية أو الانحدار داخل مناطق شوارع ضيقة ومظلمة إلى أن وصل بنا إلى بيت فى منطقة كأنها قرية ، للبيت بوابة كبيرة ، انطلق بنا داخله وهناك أوقف السيارة وقال سننتظر هنا قليلا إلى أن تأتى السيارة الأخرى التى ستقلنا جميعا إلى مكه .

توضأنا وصلينا ما فاتنا من صلوات طوال اليوم وكان قد انضم إلينا أناسا أخرين ، فتح لنا البيت لشحن هواتفنا ، جلسنا بعض الوقت فى غرفة واسعة على وسادات أعدت للضيوف فى هيئة المجالس العربية المتعارف عليها ، الفجر اقترب ، قدمت سيارة أخرى محملة عن أخرها بالأشخاص ، صلينا الفجر جميعا وتوزعنا فى سيارتين كل سيارة ضمت ما يقرب من عشرة أشخاص بخلاف السائق ودليل الطريق .

مرة أخرى الى سيارات الدفع الرباعى لكن هذه المرة كأننا نقل فى عربة ترحيلات ، أجساد مكدسة فوق بعضها ، العربة أصبحت كعلبة سالمون ، انطلق بنا السائق فى طرق وعرة والظلام لا شئ يشقه سوى محاولات باهته من إضاءة السيارة ، كنا فى مؤخرة السيارة أربعة أشخاص إذا رغب أحدنا أن يمد قدمه فلابد من المقابل له أن يرفع قدمه كى يترك له متسعا وكنا نتبادل ذلك طول الطريق .

نتمسك بأطراف الأمل ، نسأل الله أن ييسر لنا سبل الوصول إلى بيته وأن يكرمنا بإدراك المناسك ، سيارات أخرى كثيرة انضمت إلينا ودخل السائقون فى سباق ، لا أعلم ان كان سباق سرعة أم أنهم يعلمون أن اقتراب السيارات الأخرى منا نذير شؤم ، ازدادت السرعة وازدادت سخونة الأجواء وعلت الأتربة ، السائق يقفز بالسيارة من فوق الصخور ونحن نرتطم بعضنا ببعض .

أمس عشت نفس الأحداث فكان عندى ما يشبه اللامبالاة بكل تلك الارتطامات والانحدارات ، الذى اختلف فقط هو التوقيت والسيارة والمكان والمرافقين ، كان ممن معى فى السيارة من عايش ذلك قبلا أيضا ومنهم من كانت هذه مرته الأولى فأعجبه الأمر وأخرج هاتفه ليلتقط بعض المشاهد لتلك السباقات وما يشبه المطاردات التى لم نكن نراها سوى فى الأفلام فى صراعات العصابات ، السيارات من حولنا ازدادات ويدورون ويجرون هنا وهناك وكل منهم يأخذ طريق ونتقابل مجددا ، علمنا بعض ذلك أنهم كانوا يحاولون الوصول الى أماكن الأنفاق لكن الشرطة كانت قد سبقتهم وأغلقت كل المنافذ .

أشار دليل الطريق إلى من يصور أن أغلق هاتفك بسرعة لأنه يعلم أن الشرطة تتبع ذلك وان أخطأ أحد وشارك على صفحته أى شئ من ذلك فسيقبض على الجميع فى الحال فضلا عن كشف السائق ودليله ومن يعملون معهم ولصالحهم ، أغلقت الهواتف ، شدت الأعصاب ، بدأ الذين معى يشعرون بالقلق ، قال الذى عايش مثل ذلك قبلا ، كل الذى رأيتموه لا يساوى شيئا أبدا لو أدركتنا سيارة شرطة ، إن حدث ذلك حينها ستعايشون فعلا المطاردات التى أسأل الله أن ينجينا منها .

كان يغلبنى النعاس وعندما أستيقظ أجد رفاقى ينظرون إلى بتعجب فأجيبهم أن هذه الليلة الثالثة التى أواصل فيها الليل بالنهار مستيقظا دون أن أحصل حتى على دقائق من الراحة فضلا عن النوم ، لازال السائق يبحث ويجرى بأقصى ما يستطيع ويبدو أن أصبحنا على مشارف مكه ، نسير الأن فى طريق موازى للطريق الرئيسى ويبحث السائق عن منفذ يدخل من خلاله إلى الطريق الرئيسى ويحاول أن يتابع من خلال الهاتف تحركات الشرطة .

أخيرا وجد منفذا زلف منه إلى الطريق الرئيسى وعلت الفرحة وجوهنا لكنها لم تدم طويلا ، وجدنا عربات الشرطة تلاحقنا من كل جانب وكأن  الأرض انفجرت وأخرجتها من كل صوب وهنا تبدل السائق تماما وتحققت نبوءة مرافقى ، أصبحنا الأن فى مطاردة فعلية ، تدور حولنا السيارات من كل جانب وتحاول الاقتراب وتصدمنا من جانبى السيارة والسائق يحاول التماسك والافلات منهم ، يقفز بالسيارة من فوق أى مرتفع يكاد يصطدم بالسيارات الأخرى وكل يجرى من جهة ، لازالت الشرطة تطاردنا وكلنا مستسلمين تماما ومسلمين أمرنا لله ، ربما هذه تكون دقائقنا أو لحظاتنا الأخيرة فى هذه الحياة ، لا نعلم ان متنا الأن او أصبنا سيكتب لنا أجر الحج ، أم إن قبض علينا  فسنكون من الخارجين على القانون ويلقى بنا فى غياهب السجون ، علا صوت السيارة أكثر والأن فى مواجهة الشرطة ليس بننا حائل ولا مسافة ويضغط السائق على مقود السيارة ودواسة البنزين فى اتجاه عربة الشرطة والشرطة تفعل المثل ثم ينحدر السائق يمينا فجأة قافزا بنا من فوق طريق مرتفع إلى منخفض بعيد ، تقلبنا كلنا على أثر ذلك رأسا على عقب ، فوقعت نظارتى بعيد واصطدمت رأسى بجانب السيارة وهكذا حال كل من معى ، رأس مكان قدم وأجساد مكدسة واصابات خفيفة .

الجمعة، 27 ديسمبر 2024

التاشيرة " 7 "

 

خلعت حذائى وارتديت حذاء ظننته ترك هنا لاستخدامه فى الوضوء وعندما انتهيت من وضوئى وعدت لأصلى وجدت صاحبه يبحث عنه فاعتذرت له وأخبرته بظنى فابتسم وتقبل الأمر ، زلفت إلى المسجد وصليت الظهر والعصر وبحثت عن كهرباء لأشحن هاتفى وجلست مستندا بظهرى إلى الحائط أحاول إلتقاط أنفاسى وتمنيت أن لو غفت عينى بعض الوقت مثلما فعل صاحبى لكن القلق حرمنى تلك الفرصة .

جلسة كبيرة فى شكل دائرة من الرجال يتلون كتاب الله ويصحح لهم شيخهم وجماعات متفرقة بجانب الأعمدة الأخرى يتجاذبون أطراف الحديث بينهم .

جلس بجانبى شاب مصرى ، تحدثت معه وأخبرته بوجهتى وطلبت منه المساعدة فقال أن الأمور شديدة الصعوبة والشرطة منتشرة فى كل مكان وأن أى شخص يتطوع لمساعدتنا يعرض نفسه لمخاطرة كبيرة ، ثم طلب مبلغ محدد مقابل إيصالنا إلى وجهتنا فأخبرت صاحبى ووافقنا ،أجرى الشاب بعض الاتصالات ثم طلب منا مغادرة المسجد بعد دقائق وننتظره أمامه فعلنا .

ركبنا معه السيارة واتجه الى اليسار ثم انعطف يمينا فإذا بالشرطة امامنا فقلت له قف ننزل هنا فقال لا سنواصل السير ، أوقفنا الشرطى وطلب منا النزول من السيارة وأثناء تحدثى مع الشرطى فر السائق وصاحبى وتركانى بمفردى ، سألنى الشرطى عنهم فأنكرت معرفتى بهم وطالع أوراقى ثم أعطاها إلى الضابط الذى راجعها مجددا ثم سألنى عن سبب الزيارة فقلت له لأداء مناسك الحج ، فقال أن هذه ليست تأشيرة حج فقلت له أعلم أنها تأشيرة زيارة عمل ولكنى قدمت إلى هنا من أجل الحج فطلب منى الدخول إلى سيارة الشرطة وكانت سيارة صغيرة جلست فى ظهرها منفردا ، حاول الضابط تقديم بعض المياه والفاكهة لى فرفضت وبدأت رحلة معاناة جديدة .

وقت قليل ثم شابين أخرين انضما إلى ، ظلا يناديان على أفراد الشرطة ويحاولون معهم مرات ومرات دون فائدة وأنا ظللت فى صمتى لا أحدث أحدا وأحاول الشرود من ذلك الضجيج ونسيان هذا الموقف تماما ، لاحقا تم نقلنا إلى أتوبيس كبير وبدأت الأعداد تتوالى رجال ونساء حتى امتلأت الحافلة عن أخرها فتحركوا بنا إلى منطقة أخرها كان عندها أفراد من الشرطة أوقفوا مجموعة أخرى من الأفراد فنقلونا إلى حافلة أكبر تضمنا جميعا ، ساعات وساعات على هذا الحال والضجيج يعلو والاشتباكات والمناوشات بين الموقوفين وأفراد الشرطة تتزايد ، أدعى شاب اصابته بنوبة من القئ فأنزلوه من السيارة وعندما غفلوا عنه حاول الهرب إلا أنهم أمسكوا به وأعادوه وفى غفلة من قائد الحافلة قفز من النافذة وفر دون أن يتم الامساك به هذه المرة ، مناوشة أشد حدثت بين الضابط وأحد الموقوفين وارتفعت الأصوات واشتبكت الأيدى إلى أن تم احتواء الأمر وتهدئة الأطراف ، انتصف الليل تقريبا فتحركت بنا الحافلة مغادرة مكة إلى أن وصلت إلى منطقة خالية فى ربوع جدة أنزلونا عندها وتركونا وغادروا .

منطقة واسعة ، ارض رملية يفترشها البعض ، حالهم مثل حالنا جميعا ، قدموا لأداء مناسك الحج لكن تم إيقافهم من قبل السلطات السعودية وألقوا بهم فى هذا المكان فجلسوا يفكرون وينتظرون قدوم الصباح فعسى أن يحمل معه بشارات خير، الأرض هى الفراش والسماء هى الغطاء  ما عند الله خير وأبقى .

الهاتف بطاريته قد فرغت ، أبحث عن أى محل ابوابه مفتوحة كى أحاول أن أضع الهاتف على الشاحن عندهم بعض الوقت كى أستطيع أن أطمئن أهلى فالقلق يكاد يفتك بهم ، بحثت هنا وهناك وسألت ولكن دون جدوى ، الكثير يفترش الشوارع وأمام البنايات وكلها أغلقت أبوابها تقريبا ، وجدت شخصين يجلسان فى سيارة أجرة يبدو من هيئتهم انهم مصريين فذهبت نحوهم وطلبت منهم أن أشحن الهاتف من خلال وصلة بمسجل التاكسى لبعض الوقت ، وافقا وتحدثا معى وسألونى عن حالى فقصصت عليهم شيئا مما حدث معى فقال السائق أركب معنا عسى الله أن يجعل لكم مخرجا ، ثم قاد السيارة وانطلق بنا إلى منطقة أخرى فى جدة .

الخميس، 26 ديسمبر 2024

التأشيرة " 6 "

 

لم يعد أمامنا حل أخر ، فقط الخروج للطريق الرئيسى والاشارة لأى سيارة تمر حتى لو كانت من دوريات الشرطة ، جاهدت نفسى فى التفكير ولما غلبنى العطش واشتد الجفاف ثانية فى حلقى صعدت السور ووقفت على الطريق أشير للسيارات المارة أنى فى حاجة إلى الماء وبعد وقت توقفت سيارة نقل ، طلبت من السائق ماء فقال ليس معه ماء ولكنه معه مياه غازية فأعطانى منها ، عرفت انه مصرى فطلبت منه أن  يقلنا أنا وصاحبى لأقرب مكان قريب ، اعتذر وأخبرنى أن ذلك قد يسبب له متاعب ربما تصل إلى الترحيل من البلاد ، فشكرته جدا على ما قدمه لنا وعلى عطفه معنا وقفزت من فوق السور مجددا ورجعت إلى صاحبى ، لحظات قليلة وجدت السيارة ترجع إلى الخلف مجددا ويشير إلينا السائق أن تعالا بسرعة .

أمسكت بيد صاحبى وأسرعنا نحو الطريق ، ساعدت صاحبى على صعود السور ثم ركوب السيارة ، أخبرنا السائق أنه سيأخذنا معه إلى أقرب مكان مأهول ونسأل الله السلامة لنا وله ، حدثنا عن الاجراءات الأمنية المشددة هذا العام وأنه لم يرى ذلك من قبل وأن بعض أقاربه كانوا يريدون القدوم لأداء مناسك الحج بنفس تأشيرات الزيارة لكنه حذرهم بسبب ما يراه بعينه ، أعطانا معلبات مياه غازيه أخرى ، وصلنا إلى مفترق طرق فأخبرنا أن نعبر الطريق وننزل إلى الطريق المنحدر ونأخذ من هناك أى سيارة متجهة الى الداخل فنحن الأن على مشارف مكة ، شكرناه ودعونا له بالخير وترجلنا من السيارة .

أسرعنا بالعبور إلى الناحية الأخرى ثم بحثنا عن وسيلة ننزل بها إلى الطريق المتجه إلى الداخل ، جلسنا نلتقط أنفاسنا بجانب أحد أعمدة الانارة الضخمة ، محاولين الاختباء عن أعين سيارات الشرطة كثيرة المرور ، ثم أمسكت بيد صاحبى ونزلنا المنحدر ببطئ وقلبنا أبصارنا فى المكان ثم توجهنا ناحية الطريق .

تجاوزنا مساحة ترابية رطبة وانحدرنا الى الطريق وتوجهنا يمينا ، نظرت عن يسارى وجدت سيارة شرطة متوقفة تحت النفق المار أسفل الطريق الذى هبطنا من فوقه ثم سيارة شرطة أخرى مقبلة فاستدرنا حتى تجاوزتنا سيارة الشرطة فوجدت السيارة التى كانت متوقفة تحركت وتوجهت بسرعة ناحيتنا ووقفت أمامنا مباشرة ، نادى علينا الضابط وسألنا عن هوياتنا فأعطيته جواز سفرى وأخبره صاحبى أن جوازه ليس معه واشتد الحوار غلظة بينهما بينما وقفت صامتا ، نهرنا الضابط وهددنا وطلب منا العودة من حيث أتينا وإلا سيقوم بإلقاء القبض علينا واستدار عائدا للخلف ، صعدنا مجددا لكن صعود ذلك المنحدر أشد صعوبة بكثير لكن الله ساعدنا وأمدنا بالقوة حتى صعدنا إلى الطريق مجددا ونحن نجر بعضنا بعضا ثم جلسنا بجانب ذات العمود الذى جلسنا بجانبه قبلا .

أجرى صاحبى عدة اتصالات مع بعض معارفه الذى كان قد رتب معهم لهذه الرحلة سلفا ولكن كل الاجابات لم تقدم الدعم الذى نريده والاجابة واحدة ، تخطينا فاصل الطريق مرة أخرى وانتظرنا حتى هدأت السيارات وعبرنا نحو الجهة التى قدمنا منها ثم وقفنا ننتظر ونفكر ونقاوم ما بنا من تعب  .

وقفنا ننتظر مجددا ، لا مكان للاختباء عن أعين الشرطة ، لا مكان حتى للجلوس ، نستند فقط على حافة السور التى طبختها الشمس ، حلقى عاد لجفافه من جديد وذلك ابتلاء رافقنى خلال أكثر أوقات هذه الرحلة وكل مرة يكاد يسحب روحى معه لولا أن عناية الله كانت تدركنى فى كل مرة قبل الرمق الأخير ، حاولت ايقاف سيارات كثيرة لكن الكل يسرع فارا رغم انى كنت أشير طالبا زجاجات مياه لا أطمع فى أكثر من ذلك حتى يقضى الله فينا بأمره وأخيرا توقفت لنا حافلة قديمة متهالكة نوعا ما كأنها عانت حربا طويلة تركت أثارها عليها .

السائق ليس عربيا مثل غيره الذين يعملون فى المهن التى يتعفف السعوديون عن العمل بها ، إلتقطت منه بعض الكلمات ، فهمت أنه ليسه معه مياه فقلت له هل تدخلنا معك إلى مكه فأشار أركبوا معى ونصحنا بالرجوع إلى مؤخرة الحافلة ففعلنا وكانت خالية تماما سوى منه ، حمدت الله أن سخر لنا هذا السائق لكن لازلت متوجسا من أن توقفنا أى دوريات للشرطة وليس بالحافلة أحد غيرنا كى نندس بينهم ، اوقات من القلق مرت بنا حتى وقف بنا السائق داخل محطة انتظار كبيرة واشار إلى أن انزل هنا واشترى ما تحتاج إليه وعد إلينا مجددا وظل صاحبى برفقته ، نزلت وبحث عن البقالة حتى وجدتها اشتريت المياه وعبوات من البسكويت وعدت إلى السيارة مجددا .

قدمت إلى السائق وصاحبى مما اشتريته وجلس كل منا فى مقعد مغاير وانتظرنا فى الموقف وأعيننا ترقب الطريق ، بدأ الناس يتهافتون على الشاحنة وكلما دخل أحدهم إلتفت إلينا وبدت على وجهه علامات الدهشة ، كلهم من جنوب شرق أسيا غير أن كان من بينهم مصريان ، جلس بجانبى مصرى وتجاذبنا أطراف الحديث وأخذ يخبرنى أسماء الأماكن التى تمر بها الحافلة حتى وقعت عيناى على أبراج الساعة فأخبرنى أننا بمحاذاة الحرم الشريف .

أتم السائق سيره بعض الوقت ثم توقف وطلب منا النزول هنا قبل أن يخطو إلى الاشارة القادمة لمشاهدته سيارات الشرطة عندها ، هرولنا من الحافلة مسرعين وشكرنا السائق والذين معه ورفض أن يتقاضى منا أى شئ ، زلفنا بين الأبنية إلى برهة مزدحمة بمحال صغيرة تعرض كل ما يحتاجه الحاج فى رحلته ونظرت بالأمام فوجدت مسجد السيدة خديجة بنت خويلد فتوجهنا إليه .

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024

التأشيرة " 5 "

 

تولى قيادة السيارة شاب ذو سمنة تكاد تكون مفرطة أما صاحبيه فكانا بخلافه تماما ، أظن الثلاثة فى العقد الثالث من العمر ، أعطوا لكل واحد منا علبة من العصير ، أمد بصرى وأقلبه فلا يتخطى الرمال وأفكر فى المكان وأحداثه ، الصحراء تغطى ثلث مساحة المملكة والصحارى هنا متنوعة ولكل منها سمات مختلفة ، ورغم ان الصحراء فى جدة ربما لا تتخطى ال15% من مساحتها إلا أن حظنا منها كان هذه الصحراء ، ورغم كل ما كتب ونشر عن هذه المدينة والمقومات السياحية التى تمتلكها والطبيعة الخلابة التى تجذب السائحين من شتى بقاع العالم ووقوعها على ساحل البحر الأحمربل أنها عروسه والكثير من المميزات إلا أن كل ذلك تلاشى تماما من طريقنا وحلت محله الممرات الوعرة والشمس القاسية والصحراء اللعوب .

 يقسو الشاب على السيارة كى تستطيع تخطى الكثبان الرملية ثم هبت عاصفة ترابية غمت أعيننا تماما إلى أن زالت فواصل السير ثم انزلقنا إلى منطقة كثبان رملية صفراء تميل إلى الاحمرار ، الشمس تتوسط السماء والسيارة كنجمة وحيدة فيها تسقط عليها الشمس كل حرارتها ، عدة محاولات بالسيارة لتخطى تلك الكسبان وتتوقف السيارة ثم ترجع للخلف ويعيد الكرة مجددا ونحن نتشبث بمقاعدنا والقلق يسيطر علينا وبعد عدة محاولات نجح وقفزت بنا السيارة إلى كثبان رملية جديدة وفى هذه المرة أشد قسوة من سابقتها ، حقيبة سفر ملقاة كادت الشمس أن تاكلها ، تفكرت كيف وصلت إلى هنا وما مصير صاحبها ، هل ضاع فى تلك الصحراء وضل فيها سيره حتى ابتلعته ، أم انه واصل سيره حتى ارتطم بتلك الجبال التى تواجهنا أم أنه بلغ مسعاه .

 اندفع السائق ناحية اليسار ضاغطا بشدة أكثر على السيارة فوجدنا يمينا منطقة بها بعض مظاهر الحياة لا أعلم تحديدا هل كانت تستخدم فى رحلات السفارى المنتشرة فى هذه الأماكن أم أنها كانت لوحدات من الجيش ، هرول بسرعة أكثر متخطيا تلك المنطقة وفى المقدمة على اليسار اصطدمنا بمنطقة شبيهة لكنها أكبر هذه المرة وفجأة لمحنا سيارة تجرى ناحيتنا بسرعة شديدة ، لا نعلم من أين أتت ولا من فيها ففزع السائق وقاد بجنون وانزلق من هنا إلى هنا ثم إلى هناك وكلما دخل إلى مكان يزلف منه الى الطريق الرئيسى اصطدم بسور ووجد المنفذ إلى الطريق مغلق .

 طلب منا النزول من السيارة والاختباء بذلك المكان بجانب الطريق الرئيسى المتجه يمينا نحو مكه وأوصانا ألا يرانا أحد ريثما يذهب هو إلى الأمام ويتجاوز الكمين ثم يعود إلينا ، هممنا بإنزال حقائبنا فقالوا لا داعى لذلك ، دقائق سنعود إليكم فقط احرصوا ألا تجذبوا الأنظار إليكم  .

بمحاذاة الطريق نزلنا ، حاولنا الجلوس كى لا ترانا السيارات التى تمر على الطريق ، الارض شديدة السخونة ، ابحث عن اى شئ افترش به الارض كى نجلس عليها لكنى لا أجد ، حشائش وأشواك كثيرة تجعلك تخشى اختباء الثعابين والافاعى وغيرها فيها ، أدور برأسى فى المكان أقلب عينى فى كل صوب ، برج للمحمول ربما ، على مقربة ، بجانبه سيارة تقف فوق تبة تعلونا بكثير ، جلسنا ننتظر وننتظر وتدور فى رؤسنا الخواطر ، لا نعلم بمن نتصل ونخشى ان تنفذ بطاريات هواتفنا ، الوقت يمر والشمس تأكل رؤسنا ، كنت أرتدى قميصا بأكمام قصيرة فأنضجت الشمس جلدى وتحول لونه حتى صار شديد الاحمرار ، كلما مرت سيارة خفضنا  رؤوسنا وأحنينا أجسادنا ، نفذ الماء الذى معنا ، نرقب الطريق ونتلهف للسيارة تأتى لكنها لا تأتى ، حلقى أصبح شديد الجفاف وصاحبى أستلقى وتمدد على الأرض رغم شدة قسوة حرارتها ، لمحنا سيارة تأتى من اليسار مسرعة فخشينا أن تكون تابعة لإحدى دوريات الشرطة فجلسنا القرفصاء فى ظهر العمود نغرق رؤوسنا فى أكفنا لكنهم رغم ذلك تجاهلونا ومروا أمامنا بسرعة مفرطة  ، الشمس تشتد تعامدت فوقنا مباشرة ،  ما عدنا ننتظر السيارة ولكننا نقاوم للبقاء أحياء  ، صوتى لم يعد يخرج ، العرق يشتد ويغلف أعيننا حتى سقط الدمع منها كأنه ملح ، وجدت سيارة مقبلة فخرجت واقفا أمامها وأشرت لسائقها أنى فى حاجة إلى ماء  فأجابنى أنه ليس معه سوى زجاجة مياه ولكنها شديدة السخونة ورغم ذلك أخذتها وتجرعت منها حتى استطعت النطق فسألته عن السيارة فقال أنه أتى من أول الطريق ولم يرى اى سيارات متوقفة تماما ونصحنا أن نحاول المغادرة قبل أن يدركنا الموت هنا وتركنا وانصرف .

الاثنين، 23 ديسمبر 2024

التأشيرة " 4 "

 

جده  يقولون أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى رجل ولد فيها قبل الاسلام ويقال أنها تنطق بضم الجيم وتعنى شاطئ البحر لوقوعها على ساحل البحر الأحمر وقد تعنى الطريق الواسع الممتد ويقال أنها تعنى الجدة  نسبة إلى أم البشر حواء التى يقال أنها عندما نزلت من الجنة نزلت فيها ثم إلتقت بأبو البشر أدم عليه السلام عند جبل عرفه ودفنت بجدة وهناك مقبرة تعرف باسم " مقبرة أمنا حواء " ، أما أغلب سكان جدة فينطقونها بكسر الجيم ، وهى المعبر الرئيسى لحجاج البحر منذ أن حولها ثالث الخلفاء الراشدين سيدنا عثمان بن عفان لتكون ميناء لأفواج الحج والأن أصبحت المعبر الرئيسى البحرى والجوى وللكثير من القادمين برا .

نزلنا من السيارة وانطلق كل فى طريقه ، بقيت أنا وصاحبى وجلس بجانبا رجل أخر كان معنا بالسيارة مغربى ربما كانت جنسيته ، نظرنا حولنا فى تلك المساحة الشاسعة والسيارات المتوقفة فلم نجد أى من السيارات التى تنقلنا إلى مكة ، فارقنا المغربى للبحث عن سيارة ، وضعنا حقائبنا على الرصيف بجوار المعارض التى لازالت مغلقة ، هاتفت صديق لى أخبرنى أنه ينتظر فى مكان أخر فى جدة مع عائلته للبحث عن سيارة تقلهم أيضا إلى مكة ، بدأت المحال تفتح أبوابها فجنبنا حقائبنا بعيدا عن مداخلها .

بدأت الحركة تعم المكان وعمال المحال فتحوا جميع الأبواب وبدأوا بالتنظيف أمام المحال ونقل البضائع وبدأ المشترون يطرقون ابوابهم وهم يقذفوننا بنظرات بعضها متسائل وبعضها متضايق وبعضها حزين .

هواتفنا أوشكت بطارياتها على النفاذ فاستأذنا أصحاب المحال فى وضع هواتفنا على الشواحن عندهم بعض الوقت وتركت صاحبى جالسا أمام المحال وانطلقت حول المكان بحثا عن سيارة ثم أوقفت بعض سائقى التاكسى وسألتهم فأخبرونى أن أنتقل إلى المكان الذى أخبرنى صاحبى أنه به وقالوا أن هناك السيارات أكثر ، السيدة التى كانت تجلس خلفنا فى السيارة رأتنى فأقبلت نحوى ، لا أفهم ما تقول ويبدو أن من معها تركوها وسعوا أيضا يبحثون عن سيارة تقلهم إلى حيث يرغبون .

أحضرت هاتفى فوجدت عدة اتصالات فائتة من صاحبى فاتصلت عليه أخبرنى أنه اتفق مع سيارة وكان ينتظرنا ولما لم يجد ردا منا أتم السائق ركابه وانطلقوا فى طريقهم إلى مكه ، أخبرت صاحبى وأوقفنا سيارة وأتفقنا معها أن تقلنا إلى الكيلو 110 حيث تنتظر السيارات .

دقاق قليلة كنا قد وصلنا إلى المكان المحدد وهناك وجدنا كثير يفترشون الطرق ويقعدون على أرصفة المحال وسيارات الشرطة تروحى وتجئ ، نزلنا من السيارة وحملنا حقائبنا وجلسنا بالقرب من الجالسين نفكر وننتظر ما هو مقدر لنا .

يبدو أن المكان مكتظ بالناس من الأيام الفائتة ، سوء نظافة المكان وانتشار القاذورات يدل على ذلك جيدا ، البعض افترش جانبا ونام ، والبعض يجلس جماعات ، الكثير يفر كلما اقتربت سيارة من دوريات الشرطة التى تطلق مكبرات الصوت طالبة الناس بمغادرة المكان فورا .

الوجوه مختلفة ، سمتها يحمل جنسيات من دول عدة ، كلها قدمت لأداء مناسك الحج ، كثرة التعقيدات وغلو الأسعار جعل الناس تبحث عن طرق بخلاف الرسمية ، ينفذون من خلالها لأداء الركن الأعظم فى الاسلام ، الأعمار مختلفة ولكن من منا يضمن أن يعيش لعام قادم حتى يتمكن من القدوم ، الكل تحمل مشقة الرحلة وعانى حتى يصل إلى هنا وليت هنا المنتهى ولكنها مرحلة فقط فى الرحلة وكل ما بعدها أشد .

الساعات تمضى والشمس أضحت قاسية ، تصب حرارتها على الرؤوس صبا ، العيون حائرة ، العرق يطغى على الأجساد حتى تبدل لون الجلود ، الشوق إلى الكعبة يفوق كل الوجع وينسى كم المشقة ، الحج عرفة والسبت يوم عرفة واليوم الخميس ولابد من حيلة للوصول قبل أن ينفذ الوقت ولا ندرك الغاية .

جلسنا نتابع ما يحدث لبعض الوقت ، نتابع التفاوض ونعرف الأسعار وأماكن الوصول ، الأسعار لا تمت للمستحق بأى صلة كانت قياسا على تلك المسافة ، عربات الدفع الرباعى منتشرة فى المكان يتفاوض مالكوها مع المسافرين ، يعرضون الأسعار دون توقف السيارة ومن يرغب يشير إليهم وقطعا يرفض الكثير ، انسحاب الوقت يجبرنا على اتخاذ قرار سريع فاتفقنا مع سيارة jeep بها ثلاث شباب سعوديين ، وضعنا حقائبنا فى السيارة وجلسنا بالمقاعد الخلفية ودار الشاب بالسيارة دورات كثيرة بحثا عن ركاب أخرين يتم بهم حمولته وكلما وجد سيارة شرطة فى طريقة هرول إلى شوارع جانبية ويبدو أنه سريع الملل فانطلق بعد عدة دورات مغادرا المدينة .

اتجه ناحية اليمين فى طرق ترابية ، تخطى الحيز العمرانى وهى كانت مساكن ومنشأت قليلة فى كل الأحوال وشيئا فشيئا ابتلعتنا الصحراء ، جغرافيا جدة تقع ضمن اقليم تهامة ويقال أن تهامة سميت بهذا الاسم نسبة الى اشتداد الحر وركود الريح ، نجلس فى مؤخرة السيارة ويجلس فى أوسطها احد الفتيان وفى المقدمة صديقيه أحدهما السائق والأخر يجلس بجانبه ، يتكلمون بصوت مرتفع ولا أفهم الكثير مما يقولون ، يتنقلون فى ممرات رملية يتتبعون أثار السيارات التى سبقت ومرت من هذه البقاع ، الذى فى الوسط يرشدهم إلى الطريق يقول أنه مر من هنا بصحبة أحدهم قريبا ، الصحراء ممتدة باسطة أياديها فى كل صوب ، الكثبان الرملية تعددت ألوانها وتكويناتها ، ناعمة تكاد تغرق فيها وصلبة تكاد تقسم السيارة نصفين .

الخميس، 19 ديسمبر 2024

التأشيرة " 3 "

 

الليل أقبل والسيارة ثابتة على حالها ، تحافظ على سرعتها ، وهكذا حال ركابها ، كأن الكل اتفق على وتيرة واحدة ، إلا أن البعض غلبه النوم ، لافتات كثيرة تطوى تحمل أسماء الأماكن التى نمر عليها ، مداخل المدن مصممة بشكل بديع ، اضاءة الطريق هادئة ، أكثر اللافتات تحمل صورة الملك وابنه ، عدة أكمنة مررنا بها ، ما يقرب من ثلاث ساعات ثم توقفنا فى محطة الوقود للصلاة والاستراحة لمدة ربع ساعة وتزويد السيارة بحاجتها من الوقود ومواصلة السائق بحثه عن نوعية الاطارات التى يفضلها  ، صلينا المغرب والعشاء قصرا وجمعا ، مطاعم وبقالة ملحقة بمحطة الوقود تناولنا فيها طعاما خفيفا واقتنينا مياه وبعض المخبوزات الخفيفة ثم عدنا مجددا إلى مقاعدنا فى السيارة وانتظرنا حتى حضر الجميع ثم انطلق السائق وقد نشط قليلا وزاد من نشاطه تجاذبه أطراف الحديث من الركاب ، لا أفهم شيئا مما يقال لكنهم يتحدثون بود ويضحكون مما أعان على تخفيف مشقة الرحلة وطول المسير .

خلفنا القصيم وراءنا وأتجهنا نحو المدينة المنورة ، فتحت الخرائط على الهاتف لمعرفة المسافة والوقت فلاحظ الراكب بجانبى ما فعلت فطلب منى أن أشغل له التطبيق وأحدد له الوجهة على هاتفه ففعلت ، أتابع الصحراء الممتدة على طول الطريق ونادرا ما مررنا على بنايات وإن بدى بعضها فى الأفق ، أعلنت عن ذلك الأنوار التى تغطيها ، تناوب على الطرق على كتفى الأفارقة من خلفى يطلبون منى نقل هواتفهم إلى السائق ليضعها على الشاحن وهكذا طول الطريق خذ هذا وأعد هذا .

حوالى خمس ساعات قضيتها أرقب الطريق ، الظلام الذى يعانق الرمال وأضواء سيارات عابرة ، يشرد ذهنى فى المكان وقاطنيه ، يحدثنى صاحبى أنه قضى هنا عامين ثم انتقل الى مدن أخرى ، كلما رأيت اضواء ساطعة ظننت المدينة اقتربت ولكن كان ظنا وكفى ، الليل انتصف ولازلنا فى الطريق ، نقطع أميالا فى طريق أحسن تمهيده وإعداده وجهز بالخدمات على مسافات جيدة وكاميرات المراقبة منتشرة على طوله .

الساعة تقترب من الثانية صباحا وأنوار المدينة قد بدت فى الأفق وهل نسيمها الطيب ، الجبال ، المآذن ، المشاهد ، هنا تاريخ لن يتكرر ، ووحى ذهاب وجيئة بين السماء والأرض ، هنا حيث بكت أجمل عيون وأرتفعت إلى السماء أطهر أيدى وارتقت أفضل قلوب وسالت أطهر دماء ، هنا حيت انتهت أخر رحلات وحى السماء إلى الأرض ، هنا حيث عاش أفضل من خطت على الأرض أقدامهم ، القلب تعالت دقاته عند اول لافتة تحمل اسم المدينة المنورة وكلما اقتربت أكثر كلما أسرعت الدقات وتصارعت تسابق أحداها الأخرى حتى أطلت علينا مآذن الحرم النبوى الشريف ، ظننت أننا سنقترب أكثر لكن السائق استدار ثم ولج إلى مركز خدمة يمينا ، أوقف السيارة ونزل يتفاوض مع أصحاب المركز ثم أعاد تشغيل السيارة وانطلق مجددا نحو المغادرة وبعد دقائق قليلة استدار مجددا وعاد إلى نفس المكان ثم أوقف السيارة مجددا ونزل وطلب من الركاب سداد جزءا من القيمة المتفق عليها كى يتمكن من تغيير الاطارات وأخبرنا أنه ينتهى عمله هنا وأن زميله سيكمل معنا الرحلة بدلا منه ، ما يقرب من ساعة كان هو الوقت المستغرق لانجاز الأعمال المطلوبة للسيارة ، خالط ذلك الدخول فى نقاش مع أحد الركاب حول مكان الاحرام وعدة اتصالات أنهت الأمر .

الليل يسحب رداءه على عجل وانطلق السائق البديل يطوى الطريق متجها نحو جده ، يومان وليلتان مرا لم تذق فيهما عينى النوم ولا قسطا من الراحة سوى من غفوات يسيرة فى السيارة ، أرقب الليل والصحراء والسماء الخالية سوى من ملائكة تسبح ودعوات ترفع وسكينة تتنزل وذكريات لرحلات الوحى ، أستمع الى السائق يقول للذى بجانبه هنا حيث تنزلت الملائكة فى بدر يحاربون فى صفوف المؤمنين ثم يدور حول مكان منخفض كثرت فيه الاشجار محاط بسياج ويقول أن هنا بدر حيث كانت أولى معارك الرسول الكريم وصحبه ، العقل يتذكر والقلب تشتد لهفته والعين غشيها الدمع .

يستمر السائق فى طريق ينقطع ولا ينتهى ورمال صفراء ممتدة حتى العشب خلت منه ، يقطع ذلك تفرعات للطريق وطرق ممهدة صعودا ونزولا ولافتات متشابهة ، توقفنا عند مسجد لصلاة الفجر والاستراحة قليلا وغادر السائق باثنين منا إلى الميقات ليحرموا بالحج وعادوا سويا بعد أن أنتهينا من صلاتنا بوقت يسير ، عاد كل منا إلى مقعده وانطلق بنا السائق مجددا يطوى وراءه القرى والمدن ، لا أعلم التقسيم الجغرافى هنا لكن الأسماء عصية على فهمها إلا ما نعلمه من السيرة العطرة وما انتشر ذكره مؤخرا بسبب ما يحدث من تغيرات فى مملكتهم الجديدة  .

الليل انسحب وحل مكانه الضوء فأشرقت الشمس على عجل ، توقف جديد للاستراحة ، نزلت من السيارة مثل الجميع وغسلت وجهى جيدا وتحركت بعض الخطوات ، نادانى أحد الوقوف وطلب منى مساعدته فى التواصل مع أحدهم ففعلت وشكرنى وانصرف ، أشار إلينا السائق فعدنا جميعا إلى مقاعدنا ثم انطلق وواصل السير حتى وصل بنا إلى جده فى مكان تجتمع فيه الحافلات وكانت الساعة قد اقتربت من الثامنة صباحا  .