الأربعاء، 11 أغسطس 2021

السادسة صباحا

 

الصداع يفتك برأسى ، أرى الدنيا تدور من حولى بشكل غريب ، عينى زائغة ، لا أقوى على إتيان أى حركة ، أشعر بأن جسدى بركان يفور ، تتساقط الحمم على جبهتى تغطى عينى ، أهى تلك اللحظات الأخيرة التى دوما يفر منها المرء منذ ولادته ، لحظات الصدق والاعتراف ، تدرك أنك مفارق لا محالة ، تحاول أن تخلص نفسك من كل خبث وتنقى قلبك من كل شائبة ، تذكر كل الذين فارقوا قبلا ، تستحضر صورهم وذكرياتهم ، تراهم رأى عين ، تحدثهم ويحدثونك ، ينادون عليك ، يمدون إليك أيديهم ، يرسلون إليك الأشواق وأيات اللهفة .

تشعر بحركة من حولك كثيرة ، تراهم وتنظرإليهم ولا تستطيع أن تكلمهم ، تقلب عينك فيهم وكل ما تحركوا زاغت عينك معهم ، يجففون عرقك ، يحاولون تخفيض الحرارة بالكمادات ، يضخون على رأسك وأطرافك الكثير من الماء ، تشعر الكون من حولك قد ضاق والأبواب كلها مغلقة ، حتى الأنفاس لم يعد لها متسع .

تمر حياتك أمام عينيك فى شريط عرض مستمر ، السنوات لخصت فى لحظات واللحظات فقط صور ، ليست كل الصور بنفس الوضوح ، بعضها أراه جيدا وبعضها ملامحه باهتة جدا وبعضها قد أظلم تماما فتجده سواد حالك .

صبى صغيرتصحبه أمه لبيت جدته وأخواله، يحب الذهاب هناك ، المكان متسع ، أمامه طلمبة للمياه ، بنى امامها حوض لسقيا الأغنام والمواشى والماعز ، يتزودون منها بالمياه اللازمة للشرب وللطهى ولكافة مناحى الحياة ، المياه داخل المنازل لم تمد بعد والاعتماد كلية على المياه الجوفيه باستخدام الطلمبات ، فى البلدة كذلك أكثر من صهريج رئيسى فى أطراف البلدة ووسطها ، يتزود منه الناس بالمياه اللازمة لحاجاتهم اليومية ، الصهريج موزع فيه حنفيات ضخ مياه متعددة كى تسمح لأكثر من فرد بالتزود من المياه فى نفس الوقت .

طلمبة المياه التى أمام بيت جدتى مكانها حافة الترعة ، أقيمت أمامها مصلية صغيرة ، فرشها من القش وكنا نبدله باستمرار كى يكون طريا لينا على رؤوس السجد .

أمام البيت حظيرة البهائم مقامة من طين وأخشاب وزرعت فى أطرافها عنبة فتفرد أطرافها وجدائلها حول سطحها وأعمدة الحظيرة ، ثم مساحة خالية كنا نستغلها فى تشوين بعض الحاجات ونلعب فيها عندما تكون خالية وأحيانا نربط فيها البهائم أوقات العصر ، خلفها غرف للتشوين والطيور ، يحيط ذلك نخيل طرح بألوان ومذاقات لا يوجد نظيرها بالناحية كلها وشجرة مانجا عتيقة وخلف البيت الحقول يتقدمها أشجار تين وعلى اليسار بيوت جدتى وأخوالى .

جدتى جميلة رغم سنها ، بياضها ثلج ، عيناها زرقاوان ، واحدة من خالاتى فقط هى من أخذت عنها لون العيون هذا ، طيبة رحيمة ، لا تتكلم إلا قليلا ، نطقها حكمة ، طول الوقت تعمل فى أشياء ، لا تجدها جالسة فارغة اليدين مطلقا .

غرف لخالى وقد اتخذها لزياراته للبلدة وكان قد انتقل للاقامة بالمدينة حيث عمله بالجامعة، تفتحها لى جدتى أستذكر فيها دروسى وقد سمح لى خالى بذلك ليوفر لى مكانا مناسبا للتعلم والمذاكرة ، كتبه وأدواته القديمه ، أوراقه وخطه المنمق الهادئ وكلماته التى تكاد من جمال كتابتها تنطق نفسها ، مصلاة قديمة ومصحفه وأوراقه .

وأحواض ورد وريحان ونعناع زرعها خالى أمام غرفه نتهافت عليها فى أعياد شم النسيم نتسابق الى قطف الورد منها قبل أن يسبقنا أحد .

شاب يافع ، أقف فى وسط شارع كبير بإحدى المناطق الممتدة على الطريق الدائرى ، نعد المأكولات ، كباب ، كفتة ، حواوشى ، طرب و فراخ ، نبدأ العمل فى الظهيرة ويمتد بنا العمل حتى الفجر ، أمامنا مكان ضخم لطلاء السيارات ، وعن اليسار مقهى يرتاده الكثير ولذا كان اختيار هذا المكان لاعداد باترينة العرض وفرن الشوى فيه ، يمر علينا متعهد الفحم دوريا وكذلك متعهدى الفراخ والخضروات والخبز وكنا إذا احتاجنا المزيد ذهبت إلى مقارهم لاقتناء ذلك .

فتيات جميلات بدا لى ذلك جليا من تلك الصغيرة التى اعتادت على الشراء منا وعندما تأخرت يوما قدمت اختها الكبيرة لتبحث عنها فتأكد لى صدق حدسى ، أم بطه تبحث لابنتها عن عريس وأخوها يدرس فى معهد ويظن نفسه أعلى أهل المنطقة شأنا ومسجد صغير رواده معدودون  وكلاب شرسة تجلس فى منتصف الشارع ، أم بيتر طيبة القلب وأولادها رائعون و عم سعودى يبحث عن مجال يستطيع أن يعمل فيه وبناته جميلات وحنان لها من اسمها نصيب .

اليوم من صباحه فى منطقة التجنيد لاجراء الكشف الطبى لمعرفة ان كنت ستلحق بالخدمة العسكرية ام ستعفى منها أم ستؤجل خدمتك ورفيق طريق يتحدث كثيرا ويمنى نفسه وسائق تكاد السيارة أن تغلبه فتنقلب بنا ....

أنتبه على أصوات تنادى على ، تحاول إفاقتى ، اسندوه جيدا ، أجلسوه كى يستطيع تناول الدواء ويد أمى تمسح على صدرى وعينى شديدة الاحمرار أشعر كأنها تغلى .

قطار السادسة صباحا يجرى معى صديقا وتتساقط فوقنا الأمطار ....

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

ما أروعك كم اشتقت للعيش هذا .....يا الله أم بطة بائعة الخضار ورائحة الورد والريحان والنعناع ....تعجز الكلمات عن وصف جمال سردك للأحداث وانتقالك السهل السلس كأنك تعزف ألحانا متناسقة ....مبدع مبدع مبدع .....سلمك الله من كل سوء وحفظك