الجمعة، 13 أغسطس 2021

العصارى

 

يشغلنى عمل الأرض بينما أبحث عن فرص للعمل ، أعمل بالأجرة مع الفلاحين فى أعمال الزراعة ومع عمال البناء فى أعمال المبانى والتشييدات ومع عمال المحارة فى التشطيبات ، أجمع مبلغا صغيرا من المال يمكننى من الاتفاق مع أحدهم على أن يعطينى تدريبا فى الكمبيوتر على أساسياته ومبادئه .

فى وسط القاهرة ومنطقة بدأ فيها ميلاد مصر الجديدة ، شيدت على طراز حديث ، الكثير من القصور والمبانى الفاخرة ، ذات الطابع الخاص ، ومع مطلع الصباح أحط قدمى ، برفقة صاحب لى للعمل بمطعم يعمل به ، أتأمل المبانى وطرازها الرائع ، رؤوس الأعمدة ، الزخارف والفنون ، دوما تلك الأشياء تخطف عينى فور رؤيتها وتشغل قلبى فأسافر معها حيث بداية العمل فيها وانشاؤها ، أتأمل أحوال العاملين على ذلك وكيف استطاعوا انجاز مثل تلك الأشياء فى غياب التكنولوجيا التى نمتلكها اليوم ورغم امتلاكنا لها إلا أننا لا نستطيع أن نأتى بمثل ما استطاعوا .

أتعرف على العاملين بالمطعم وكان لى سابق خبرة بالعمل من قبل تمكننى من معرفة ما على القيام به ، يدير المطبخ طباخان ماهران أكبرهما خمسينى العمر يعمل بالتدريس بالأزهر وبعد عمله يعمل طباخا فى هذا المطعم ، طيب المعشر حسن اللسان إلا أنه كان دائم الخلاف مع أحد العاملين ولم يكن ذلك الشخص جيدا بالقدر الملائم ، ذات يوم وبعد أن قضيت وقتا معهم فى العمل قال لى " لو أنى ابنتى كبيرة بما يكفى ما ترددت عن تزويجها لك " ، الطباخ الثانى يكبرنى بسنوات قليلة " عبدالنبى " شخص طيب حسن الخلق ، كان يحرص على تعليمى والتعامل معنا باحترام ، كنا نصلى سويا وذات يوم قال لى " أحرص على أن تعمل عملا صالحا يدخلك الجنة فإنى سأدعوا الله أن أكون رفيقك ...." ، يدير المطعم شخصان أحدهما هادئ الملامح محب للعمل والثانى شديد المكر لا يهمه سوى ارضاء صاحبة المكان ، يطرق مسامعى صوت أنشودة تصدع من المسجل أدارها أحدهم بالمطبخ " انى ذاهبة يا أمى ... ألبس أكفانا زهرية ... أحمل بين جوانب صدرى .... قلبا ينبض بالحرية ..... اسمى أيات يا وطنى .... وملامح وجهى شرقية .. أبلغ عشرين من العمر..... وينادونى يا ثورية ...لا أخشى الموت يا أبتى ... فالروح للقدس هدية ... بل أخشى أن تبقى بلادى ... وهما لوعود وردية " تدمع عينى رغما عنى  .

زفاف إحدى أقاربنا ، الجميع مشغول هناك ، أختى بالقرب تنتبه لحالى ، أتلوى فى الفراش ، أصرخ بصوت عالى ، ينز العرق من جبهتى نزا ، تجرى أختى نحوى تبكى لا تعلم ما تفعل ، ترسل ابنة جارنا لتنادى على أبى ، يأتى الجميع مسرعين ، يضمنى أبى ، تجفف أمى عرقى ، يُرقينى أبى ، يُرتل على القرآن ، يُحاول تمالك نفسه ، تنزل دموعه صامته تغطى لحيته ، فيرخى شاله على وجهه كى لا أراه ، تمسح أمى على صدرى ، أنظر إليهم ، عيونى صامتة ، أسمع همهمات وكلمات ، يحاولون اسناد ظهرى الى الخلف كى استطيع تناول الدواء ، تزوغ عينى وأغرق من جديد .

أقضى الليل على بقايا خشب ، غطيتها ببعض شكائر الأسمنت الفارغة ، أستيقظ مبكرا ، ظهرى كأن كل ضلع منه يسير وحده ، الشمس ساخنة .

صابر فتى طيب ، لم ينل حظه من التعليم ، جاء من قرية بعيدة يبحث عن قوته يومه ، كحالنا جميعا ، لعله يعود إلى أهله وذويه بما يعيلهم ويعينهم .

أذهب مع صابر للبحث عن عمل نعمله اليوم ، أخبرنى أن العمال يتجمعون فى أماكن معينة وكل من فى حاجة الى عامل يقوم له ببعض الأعمال يذهب إلى هذه الأماكن ويصطحب منها العمال الذين يحتاجهم وأجرها يفوق كثيرا العمل الذى نعمل به وتحصل عليه فور الانتهاء من العمل ، نمشى مسافة طويلة فى صحراء ممتدة ولا نرى الابنية إلا ما ندر ، يقول إن هذا الطريق مختصر ، نصل إلى المكان ، نبحث عن مطعم قريب ، نتناول ساندوتشات فول وطعمية ، نجلس بجوار العمال على الأرصفة ، كلما توقفت سيارة بالقرب يجرى الجميع نحوها عسى أن يستطيع الاتفاق مع صاحب السيارة على العمل ، يبدو أن اليوم ليس هو المأمول ، ينتصف النهار والصيف فى الصحراء نار ، أطلب منه العودة إلى مكاننا ، نعاود ثانية مشيا ، الشمس تلفح أقفيتنا ، نمر على مصنع تصدر منه رائحة الخبز والحلوى ، نجد منفذا لبيع منتجات المصنع ، نشترى منه كيسا مملوءا بالبسكويت ، ونواصل السير حتى نصل .

فى العصارى نجلس فى المساحة الخضراء التى تتوسط المبانى والمصانع ، يخرج العمال من المصانع وقد انتهت ورديتهم ، يركبون العربات التى اصطفت لاعادتهم الى بيوتهم وقد حملت معها العاملين بالوردية الثانية ، بعضهم يعيش فى المساكن القريبة فيقطع المنطقة الخضراء متجها إلى مسكنه ، البنات عددهن أكثر ، هكذا عادة مصانع الملابس والأقمشة ، شباب يلعبون الكرة ، وزعوا أنفسهم فريقان ، جلسنا نشاهدهم ، يقولون أن هناك مباريات اليوم لنذهب الى المقهى الكائن بجوار المطعم نأكل ونشاهد المباراة ، لكنى لا أطيق الجلوس على المقاهى ولا تروق لى .

فى السوق التجارى ، يفترش الباعة كل طرف ، أحب الصلاة فى المسجد الكبير الذى يتوسطه ويجاوره مستوصف يجمع عيادات تقدم الخدمات الطبية بأسعار رمزية ، نقتنى بعض الأشياء من الباعة ، الخبز من الفرن الكائن بجوار المقاهى وكذلك الطعام ، مقهيان أحدهما يحمل اسم مقهى الأهلى والأخر يحمل اسم مقهى الزمالك ، يمتلكهما شخص واحد غالبا ، يعمل بمبدأ " اللى تغلب به إلعب به " ، لذا أطلق على المقهيين هذين الاسمين ، جدران المبانى المحيطة علق عليها باعة شرائط الكاسيت بوسترات الألبومات الجديدة التى طرحها المطربون فى هذا الصيف وصوت فؤش يعلو " القلب الطيب .... قلب حنين .... قلب كبير.... زى البحر.... لما بيوفى .... ولما بيدى .... بيدى كتير ... " .

أصحو فى الصباح مع أذان الفجر ، أجد جسدى وسريرى غارقا بالماء ، لا أذكر ماذا حصل ليلة أمس ، يبدو أنها كانت ليلة عصيبة عليهم ، ألتفت أجد أمى بجوارى تبتسم لى ، أختى نائمة على الكنبة المقابلة ، وأبى يتساقط منه ماء الوضوء ، أطلب منهم ان يعينونى على القيام لأداء الصلاة ، خذنى معك الى المسجد يا ابى ... " .

1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

عاجزة عن الوصف ... كلماتك ساحره سردك للأحداث وانتقالك من مرحلة لمرحلة رائع ....كم عانى هذا البطل ...كم كانت رحلته متنوعه قاسية .....تذوقت كلماته فأحسست بمرارة وقسوة أيامه السابقه ....زادك الله وحفظك من كل سوء ومتعك بالصحة ...وزاد ايامك بهجه تعلو بهجه