الخميس، 12 أغسطس 2021

الرابعة والنصف عصرا !

 

كل يوم ولأربع سنوات وفى نفس الموعد ما تغير إلا قليلا نرتاد القطار من نفس المحطة وفى العربة الثانية عادة نجلس رفقة أصدقائنا ، تبدأ رحلة القطار من القاهرة ويمر علينا فى طريقه ويوصلنا إلى مكاننا فى طريقه فنتركه ويتم رحلته صحبة غيرنا .

فى القطار تلتقى بكل شئ ، صاحبت الكثير ، موظفين يسافرون كل يوم ، يستقلون القطار للذهاب الى عملهم ، اشتراك برسوم أقل من سداد ثمن التذكرة يوميا ، القطار كثير ما يكون مزدحما خاصة ان لم ندرك موعد السادسة يكون القطار الاسبانى المميز الذى يليه موعده فى السابعة صباحا وهو موعد مناسب للكثير من الموظفين كما أنه لا يتوقف الا فى محطات قليلة فيقطع الطريق فى وقت أقل ...

نستقل قطار العودة عادة فى الرابعة والنصف أيضا فنصل إلى وجهتنا وقد كسى الليل الدنيا ، صوت الباعة يغطى القطار ، ساندوتشات ، حاجة ساقعة ، سجاير ، ميداليات مفاتيح ، كراسى محمولة " كانوا يصنعون كراسى صغيرة من اعواد حديدية يربط بينها بعدة سوست ومفصلات صغيرة تمكنهم من ثنى وطى الكرسى واعادته لوضعه الملائم للجلوس عليها " يقتنيها رواد القطار المستديمين الذين يعانون عادة من عدم اللحاق بمكان فيتخذون من ذلك الكرسى الصغير مكانا للجلوس فى أى مساحة خالية يجدونها وكثير من يجلس على المساحات المخصصة للحقائب والأمتعة وكثير معلق على الباب.

 وقتنا فى القطار طويل ، حفظنا وجوه الناس وحفظ الناس وجوهنا واسلوبنا وحفظنا حتى الأماكن التى ينزلون فيها ويركبون منها ، حكى لهم أحدهم ذات مرة كل شئ فى حياته وكانت المرة الأولى التى نلتقى فيها وعندما غادر القطار سألنى أصدقائى " تعرف الرجل دا من امتى ؟ " .

دعاء خمرية الملامح بعينين صافيتين وطلة هادئة ، تجلس برفقة والدها فى المقعد المقابل لى ، يبدو على هيئتهم البساطة ، قالت لى أن والدها يعمل بالصيد وأنهم يقيمون فى منطقة بالقرب من السويس ، حدثتنى ووالدها بالكثير عنهم قبل نزولهم من القطار ونظرة لا تنسى قبل المغادرة وتلك أيضا كانت مرة وحيدة .

نرمين طالبة الزراعة الدلوعة ، دوما فى حالة ابتهاج ، دقيقة الحجم لكنها تجمع حولها الكثير ، ندا طالبة متمردة على وضعها ، تحاول أن تعيش خارج جلبابها ، قصة شعر قصير على طريقة " شرين – اه يا ليل ، وكانت بدايتها وقتها " وكانت ايضا تشبهها كثيرا ، ساره طالبة الطب ذات الضحكات العالية والتى كانت دوما تدفعنى لنهيها عن ذلك حتى لا يظنها الناس فتاة غير محترمة ، رحاب هادئة الملامح تحاول أن تحفظ لنفسها أسلوبها ، رشا تتمرد على القرية التى خرجت منها ، تنكرها ، تنتقل من قصة الى قصة وأحبائها تخطى عددهم سنوات دراستها .

تدور عينها فى المدرج ، أعلم أنها تبحث عنى ، أشير إليها ، أسالها عن احوالها وأحوال ذويها ، أعرف منها بعض الأخبار ، نتعاهد ان نلتقى ولم نلتقى ثانية .

أمام المبنى أقف اتحدث مع أصدقاء لى ، ألمحها من بعيد ترمقنى بعينها ، وعندما زلفت إلى المبنى سألتنى لما كنت بالخارج و لم تدرك المحاضرة ؟ ، يكسو شفتيها " روج " لم أرها تضع ذلك من قبل ! .

تحت أحد الكبارى وفى منطقة شعبية من مناطق القاهرة وما أكثرها ، أقف أتغطى بالكوبرى من الأمطار الشديدة ، أحاول بيع أشياء لا قيمة لها ، عمل جديد عرضه على جار لى ، أن يصطحبنى معه الى القاهرة اساعده فى تجارته وعندما ذهبت وجد أن الاشياء التى تباع اكسسوارات تلبس فى اليد والرقبة والقدم  للفتيان والفتيات ، فضلا على أنه لا يوجد مكان أساسا لعرض السلع فالشارع هو مكانك ، تحمل بضاعتك فى حقيبة بالية وتحاول أن تروجها ، تمر الليلة ولم ابع سوى بجنيهات قليلة ، أعود إلى المسكن ، سطح عمارة قديمة ، السطح مقسم الى غرف كثيرة ، كل منها صنع فيها صندوق خشبى يستغل للنوم ، يسكن فى هذا السطح عدد كبير مقابل ايجار شهرى منخفض ، علمت أن كل سكان السطح من العاملين فى مثل هذه الأعمال أو المحال والمطاعم القريبة وحمام واحد يستخدمه الجميع ، فى الصباح غادرت عائدا إلى قريتى.

أسمع أصواتا حولى ، الحرارة لا تنخفض ، جسمه كأنه يرفض العلاج ، عيناه حمروان كشمس ، وأنفاسه كـ لهيب ، سعاله جاف قوى ، جسده ينتفض بقوة كأن أسد ينهش فى لحمه ...


1 رأيك يهمنى:

Asmaa Latif يقول...

ما أدق وجمال وصفك لحالة القطار وركابه .....ما أجمل طريقة سردك وتفصيلك الدقيق لكل شخص أو مكان لكل قصة لكل وجه مررت به وتحدثت وحدثك عنه ....من أروع ما وهبك الله تفاصيل سردك كأننا نعيش كل هذه الأحداث ونحن فى أماكننا ....ما أروع معاناتك فقد كان لها فيك من جميل جميل الأثر مبدع مبدع كالعادة